إليكم هذا الاختبار القصير:
- ما هو الاكتئاب ؟
- ماذا يسبب الاكتئاب؟
- ما هو العلاج الأفضل للاكتئاب؟
توقُعي هو أن إجاباتكم ستكون كما يلي: الاكتئاب هو مرض نفسي يسببه اختلال التوازن في كيميائيات الدماغ وعلاجه الأفضل هو تناول مضادات الاكتئاب. إذا كانت إجابتكم هكذا، فهي خاطئة، خاطئة!
هذا ما يطرحه عالِما الأنتربولجيا في جامعة واشنطن كريستين سايم وإدوارد هايغون في مقالتهما الأخيرة المثيرة للاهتمام.
يقول العالمان إن علم النفس يواجه حاليًا مشكلةً جوهريةً، وهي ببساطة أن النماذج المهيمنة التي تُستخدم لفهم وتصنيف وعلاج المشكلات النفسية فشلت في تحقيق أي تقدم حقيقي في تخفيض نسب المعاناة النفسية.
قارن مثلًا البيولوجيا بعلم النفس. ما قدمه التطور في نظرية جرثومية الأمراض كان ثوريًا وزاد من معدل العمر المتوقع للبشر، في حين لم تؤدي النظريات في علم النفس إلى خفض نسب الأمراض النفسية. بالإضافة إلى ذلك، فشلت التصنيفات في علم النفس الحالي في اكتشاف المسببات للأمراض، في حين نجحت هذه التصنيفات في اكتشاف الأسباب في مجالات محددة في البيولوجيا (نظرية التطور على سبيل المثال). تبقى، حتى يومنا هذا، طبيعة الاضطرابات العقلية وأسبابها غامضة وغير مفهومة.
يشير كاتبا المقالة إلى فشل الآمال التي نمت في العقود الأخيرة حول تطور قدراتنا على اكتشاف الدماغ ووظائفه وآليات عمله. رغم أنه لا شك اليوم في أن مشكلات الصحة النفسية ذات أسباب بيولوجية، يبقى المجال في الطب النفسي البيولوجي ضعيفًا وهو مجال يبحث في الفيسيولوجيا العصبية للاضطرابات النفسية وأسبابها الجينية. لا توجد حتى يومنا هذا اختبارات تشخيصية دقيقة وعلاجات فعالة.
جزء كبير من المشكلة سببه كيفية مقاربتنا للأمراض النفسية. يشير الكاتبان بهذا الكلام إلى الجهود طويلة الأمد للعلماء لحصر مسببات الاضطرابات النفسية في اختلال توازن كيميائي في الدماغ يمكن حله عبر الأدوية. هذه الجهود الطويلة المدفوعة بتطور التكنولوجيا، وبالرغبة في محاربة الوصمة حول الأمراض النفسية ، استغلتها شركات الأدوية والعقاقير التي استخدمت شعار «اختلال في التوازن الكيميائي» لبيع منتجاتها وحصد الأرباح.
يُعد بيع الحل لمشكلة ما بهدف الربح أمرًا عاديًا إذا كانت المشكلة موجودة حقًا وحلها المقترح يعمل بالفعل. للأسف، تفشل الأدوية النفسية على كلا الصعيدين. مثلًا، فلننظر إلى علاج الاكتئاب: يُزعم أن مضادات الاكتئاب تعمل لتصحيح الخلل الكيميائي في الدماغ عبر زيادة معدلات السيروتونين في الدماغ.
توجد مشكلتان في هذا الطرح: أولًا: حقيقة أن الأدوية التي تزيد من معدلات السيريتونن تخفض أيضًا أعراض الاكتئاب، لا تعني أن سبب الاكتئاب المباشر هو قلة السيريتونن في الدماغ. للإيضاح، فلنأخذ هذا المثال: يخفف الأسبيرين من آلام الرأس، ولكن هذا لا يعني أن آلام الرأس سببها قلة الأسبيرين في الجسم.
تفشل نظرية الخلل الكيميائي بشدة، عند إخضاعها للمزيد من التدقيق. مثلًا، عند تناول الدواء، يشهد الدماغ ارتفاعًا فوريًا في معدلات السيروتونين، ولكن الآثار العلاجية في خفض الأعراض الاكتئابية تأخذ وقتًا. بالإضافة إلى ذلك، توجد الكثير من الأدوية التي تزيد مستوى السيروتونين ولكنها لا تترك أي أثر في علاج الاكتئاب، ويُعرف في الأوساط العلمية أن النقص في السيروتونين عند غير المصابين بالاكتئاب لا يسبب لهم اكتئابًا. كل هذا وأكثر يشير إلى عدم وجود أي دليل يثبت أن سبب الاكتئاب هو اختلال كيميائي في نسب السيروتونين أو أي ناقل عصبي آخر.
إضافةً إلى ما سبق، يجب أن نعرف أن القدرات العلاجية للأدوية النفسية محدودة. أثبتت قراءة الدراسات المنشورة وغير المنشورة لإدارة الغذاء والدواء الأميركية وجود انحيازات قوية في جمع البيانات وتحليلها لصالح إثبات نجاعة العلاجات. بعد التحويل لقراءة التقارير غير المنشورة فقط، كانت النتيجة أنه لا أفضلية لأدوية الاكتئاب على الأدوية الوهمية Placebo.
تأخذنا هذه الحقائق إلى الاستنتاج أن معظم الأدوية النفسية غير فعالة بما يكفي، بل إن فاعليتها مبالغ في أمرها بسبب النشر العلمي المتحيز وحملات شركات الأدوية التسويقية. ليس هذا فحسب، بل إن الكثير من هذه الأدوية تمتلك العديد من الآثار الجانبية السيئة، وما تبقى من آثارها الإيجابية لا يزودنا بأدلة كافية حول مسببات الاضطراب النفسي.
يعود فشلنا في علاج مشكلات الصحة النفسية، وفقًا للكاتبين، إلى ضعف التصنيف والتشخيص بسبب الاتكال الكلي طويل الأمد على الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM. النسخة الحالية من DSM هي عبارة عن نظرية ووصفية، وهي في كل جوهرها لا تقدم سوى تسميات لمجموعات من الأعراض التي تترافق معًا لتضعها تحت خانات محددة من الاضطرابات.
للأسف، لا توجد أدلة تثبت أن التصنيفات القائمة حاليًا في DSM تستند إلى حقائق ومعطيات بيولوجية. يؤدي هذا الوضع إلى حالة من التناقض لأن المجال بكامله يسعى إلى إيجاد القاعدة البيولوجية للاضطرابات، في حين أن مصطلح «الاضطرابات» في DSM لا يأخذ البيولوجيا بعين الاعتبار على الإطلاق. لذلك بدلًا من أن تيسر تصنيفات DSM عملية بحثنا وقدرتنا على التشخيص، فهي تعقد الأمر وتلفه بالضبابية.
تفسر هذه المعطيات لماذا نجحت التصنيفات في علوم النباتات والحيوان والأمراض المعدية والمواد غير العضوية في اكتشاف المبادئ السببية الأساسية، مثلًا، نجحت تصنيفات الأنواع في إيصالنا لنظرية التطور، ونجحت تصنيفات المجهريات في إيصالنا لنظرية جرثومية المرض، في حين فشلت التصنيفات المتعددة للاضطرابات النفسية في الكشف عن أسبابها.
يقترح كاتبا المقالة لحل هذه المعضلة تبني نموذج عالم النفس جيرومي وايكفيلد في جامعة روتجرز وهو نموذج الاعتلال المؤذي Harmful Dysfunction وترمز كلمة «المؤذي» إلى الحكم الاجتماعي أو الثقافي أو الفردي لفاعلية أمر ما، في حين تعني كلمة الاعتلال خللًا في تأدية الوظيفة البيولوجية التطورية. تجمع هذه النظرية جانبين أساسيين من المؤثرات في السلوك: الطبيعة والإنشاء nature & nurture وذلك في إطار تطوري يسهل وضع المفاهيم التشخيصية بطريقة متناسقة.
من الآثار الإيجابية لهذه النظرية أنها توضح تعريف المرض النفسي. تبعًا لهذه النظرية، فإن الصفات التي تكون معتلة بيولوجيًا وسليمة اجتماعيًا، والصفات التي تكون سليمة بيولوجيًا ومعتلة اجتماعيًا لا تُعتبَر أمراضًا. مثلًا، العلامات الجلدية التي تولد مع الشخص هي اعتلال في نمو الجلد ولكنها ليست مؤذية، إذن هي ليست مرضًا. في المقابل، الكذب والعنف سلوكان مؤذيان اجتماعيًا ولكنهما لا يشكلان اعتلالًا بيولوجيًا، إذن ليسا أمراضًا. تقع الاعتلالات البيولوجية المؤذية ضمن خانة الأمراض مثل السرطانات والأمراض المعدية، والأمراض التنكسية العصبية.
يقترح الكاتبان بالاستناد إلى النظرية المطروحة مراجعة نظام التصنيفات والتشخيصات في الطب النفسي كاملًا ومن ثم التخلص من الاعتماد على DSM كليًا. يقترح الكاتبان نظامًا بديلًا يقسم المشكلات النفسية إلى 4 تصنيفات:
يشمل التصنيف الأول أمراض الشيخوخة مثل آلزهايمر والخرف وباقي الأمراض التي تؤثر في الذاكرة والقدرات الإدراكية التي ترتبط بالتغيرات البيولوجية التي تطرأ مع التقدم في العمر.
يشمل التصنيف الثاني الاضطرابات الناشئة عن الفروقات بين بيئتنا الحالية وبيئة أجدادنا. قد تسبب هذه الفروقات اعتلالًا أو أذًى أو الأمران معًا. من الأمثلة عليها اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، الذي قد يكون بكل بساطة عدم تطابق بين البيئة العصرية فائقة الترتيب والبيئة التي عاش فيها أجدادنا.
يشمل التصنيف الثالث مجموعةً من الأمراض العقلية التي تسببها اعتلالات تحصل في أثناء النمو نتيجةً لمشكلات جينية. تشمل هذه المجموعة أمراضًا نادرة نوعًا ما، مثل التوحد والفصام وتسبب اعتلالًا في التكيف الإدراكي والاستجابة للتهديدات الاجتماعية – الإيكولوجية. هذه الأمراض وراثية في الغالب وتسببها تغيرات جينية.
تشمل هذه الأمراض اضطراب الوسواس القهري. بحسب الكاتبين، طوّر البشر القدرة على ابتكار التقاليد وتطبيقها ونقلها وذلك لأن التقاليد تلعب دورًا مهمًا في مراحل الحياة (البلوغ…) والعلاقات الاجتماعية (التزاوج وتقاليده…). في هذا السياق، يصبح اضطراب الوسواس القهري اعتلالًا في صياغة العمليات النفسية -التي تدعم اللائق الاجتماعي- للممارسات اللائقة.
يشمل التصنيف الرابع الحالات التي لا تشكل غالبًا اضطرابًا ولكنها منفرة وغير مقبولة اجتماعيًا وتشكل استجابةً فعالةً للتهديدات والصعوبات. تشمل هذه المجموعة الاضطرابات مثل اضطراب القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، التي تكون غير وراثية ولكنها ترتبط بالاستجابة للتهديدات والمشكلات.
تمامًا كما تطور الألم الجسدي والحمى ليكونا ردود فعل للتكيف مع العدوى أو أي تلف يصيب الأنسجة، قد تكون اضطرابات القلق والاكتئاب تطورت لتمكننا من التكيف مع الصدمات، فتعمل كأنها آلام ولكن من نوع نفسي لجذب انتباه العقل للتركيز على ما يتطلبه البقاء في أثناء التهديد.
قد تكون السلوكيات المنفرة اجتماعيًا أدوات تدل على وظيفة تكيفية بدلًا من اعتلال. قال مارتين لوثر كينغ في خطابه العبقري عام 1967 في اللقاء السنوي للرابطة الأميركية لعلم النفس APA: «عجز المرء عن التكيف ليس بالضرورة إشارة إلى وجود مرض. قد تنعدم قدرة المرء على التكيف مع مجتمعه بسبب اعتلالات اجتماعية لا فردية. رفض التكيف مع نظام غير عادل هو سلوك سليم عقليًا، بالرغم من أنه قد يكون منفرًا اجتماعيًا لما يجلبه من آثار».
في هذا السياق، تصبح أعراض الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة إشارات إلى مشكلات اجتماعية لا طبية، وبهذا تتطلب تدخلًا على المستوى الاجتماعي لا الطبي. بكلمات أخرى، ما دامت الأعراض نتائج سلوك تكيفي مع مشكلة ما أو صدمة، يجب أن نعالج العامل الخارجي أي الصدمة أو المشكلة، لا أن نتلاعب طبيًا بكيمياء الدماغ.
يشير الضرس المسوس إلى وجود مشكلة بيولوجية، ولكن الألم الناتج عنه ليس مشكلةً بيولوجية بحد ذاتها، بل ردة فعل طبيعية وسليمة للجسم على عامل مؤذٍ. بهذا، يكون من الخطأ بل ومن غير الأخلاقي للطبيب أن يعالج الألم بدلًا من أن يعالج السوس، هذا وناهيك عن الأضرار على المدى الطويل لمحاولات تسكين الألم بدلًا من علاج أسبابه. إذا طبقنا المبدأ ذاته على المشكلات النفسية، سيكون من الخطأ الفادح محاولة تسكين الألم النفسي بدلًا من معالجة أسبابه. بكلمات أخرى، معالجة أعراض المرء بدلًا من التركيز على العوامل الخارجية غير العادلة والضاغطة التي تسببت بالأعراض، لهو أمرٌ في قمة اللا أخلاقية.
عند استخدام هذه النظرية، يصبح الجواب الصحيح للأسئلة التي طرحناها أول المقال كالتالي:
الاكتئاب ليس مرضًا، بل هو ردة فعل اجتماعية غير محبذة ولكنها تسمح بالتكيف التطوري مع صعوبة معينة. فعلاجه يكون لا بوسم الناس بالمرض وإخضاعهم للعقاقير، بل بتغيير العوامل الاجتماعية الضاغطة والمؤذية.
(وإذا سمعت أحدهم يحدثك عن «اختلالات كيميائية»، اركض بل ولا تتردد بالركض!)
اقرأ أيضًا:
تجربة تحفيز الدماغ تساعد على تخفيف الاكتئاب
اضطرابات القلق تغيّر تركيب خلايانا
الجينات تزرع بذور الأمراض النفسية العصبية قبل الولادة
الطبيعة دواء لكل داء حتى الأمراض النفسية
ترجمة: زهراء حدرج
تدقيق: عون حدّاد
مراجعة: آية فحماوي