أثناء عطلته على ساحل إسبانيا في عام 2012، لاحظ عالم الرؤية الحاسوبية (computer vision) أنطونيو تورالبا (Antonio Torralba) ظلالًا على حائط غرفته في الفندق تبدو كأنها لم تُشكَّل بفعل أي شيء.
أدرك تورالبا أن هذه البقع عديمة اللون لم تكن ظلالًا على الإطلاق، وإنما صورة باهتة مقلوبة للفناء خارج نافذته.
كانت النافذة تعمل ككاميرا ذات ثقب -أبسط أنواع الكاميرات- فتمر أشعة الضوء من خلال فتحة صغيرة وتشكّل صورة معكوسةً على الجانب الآخر.
كانت الصورة الناتجة على الجدار بالكاد واضحة، لكنها جعلت تورالبا يدرك بأن العالم يمتلئ بمعلومات بصرية تفشل أعيننا في رؤيتها.
«هذه الصور مخفية بالنسبة لنا».
يقول تورالبا، «لكنها موجودة حولنا في كل مكان طوال الوقت».
نبّهت هذه التجربة كل من تورالبا وزميله بيل فريمان -بروفيسوران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا- لسعة انتشار (الكاميرات العرضية) -كما أطلقا عليها- كالنوافذ والزوايا والمنازل وغيرها من الأشياء العادية المنتشرة، والتي تخلق صورًا صعبة التحليل لمحيطها.
هذه الصور، الأكثر قتامة بأكثر من 1000 مرة من أي شيء آخر، عادة ما تكون غير مرئية للعين المجردة.
أوضح فريمان: «لقد توصّلنا إلى طرق للحصول تلك الصور وجعلها مرئية».
اكتشف الباحثان الحجم الهائل للمعلومات البصرية المخفية في المشاهد العادية.
في الورقة الأولى التي نشراها، أظهر فريمان وتورالبا أن الضوء المتغيّر على حائط الغرفة، والمصوَّر بكاميرا (آي فون – iPhone) عادية، يمكن معالجته لكشف المشهد خارج النافذة.
في الخريف الفائت، أفاد الباحثان والمتعاونون معهم باستطاعتهم تحديد موقع شخص يتحرّك على الجانب الآخر من زاوية عن طريق تصوير الأرض بالقرب من الزاوية.
في هذا الصيف، أظهروا أنهم يستطيعون تصوير نبتة منزلية ثم إعادة بناء صورة ثلاثية الأبعاد لبقية الغرفة باستخدام الظلال التي تلقيها أوراق النبتة، أو يمكنهم تحويل الأوراق إلى (ميكروفون مرئي) عن طريق تكبير اهتزازات هذه الأوراق للاستماع إلى ما يقال.
«كان لدى ماري حمل صغير…» يقول رجل في الصوت الذي أعيد بناؤه من حركة كيس رقائق البطاطس الفارغ التي صوّرها العلماء من خلال نافذة عازلة للصوت في عام 2014.
(كانت هذه هي الكلمات الأولى التي سجّلها توماس أديسون بوسطة الفونوغراف في عام 1877 أيضًا).
انطلقت الأبحاث في مجال رؤية ما حول الزوايا والتوصّل للمعلومات غير المرئية بشكل مباشر في عام 2012 مع ورقة تورالبا وفريمان حول (الكاميرات العرضية) وورقة (الحد الفاصل) المنشورة من قِبَل مجموعة منفصلة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT بقيادة راميش راسكار (Ramesh Raskar).
في عام 2016 أطلقت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (DARPA) برنام ج(REVEAL) -أي «التحسين الثوري للرؤية من خلال استغلال الحقول النشطة الضوئية»- والذي تبلغ تكلفته 27 مليون دولار، والذي يوفر التمويل لعدد من المختبرات الناشئة في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ ذلك الحين، يجعل تدفق كل من الأفكار الجديدة والحيل الرياضية هذه التقنية أكثر قوة وعملية.
وإلى جانب التطبيقات العسكرية والتجسّسية الواضحة، يعمد الباحثون إلى الاستفادة من هذه التقنية في السيّارات ذاتية القيادة، الرؤية الروبوتية، التصوير الطبي، الفلك، استكشاف الفضاء، ومهام البحث والإنقاذ.
قال تورالبا إنه لم يكن لديه ولا لدى فريمان أي تطبيق معين في ذهنهم عندما بدأا في هذا الطريق.
كانا ببساطة يبحثوا في أساسيات آلية تشكيل الصور وما الذي يجعل من شيء ما كاميرا، ما أدى بشكل طبيعي، للبحث في كيفية سلوك الضوء وكيف يتفاعل مع الأشياء والسطوح في بيئتنا.
بدأا يريان أشياء لم يفكر أحد في البحث عنها.
وقد أوضح تورالبا: «إن الدراسات النفسية أظهرت أن البشر سيئون جدًا في تفسير الظلال.
ربما يكون أحد الأسباب هو أن العديد من الأشياء التي نراها ليست ظلالًا حقيقية.
وفي النهاية توقفت العين عن محاولة فهمها».
كاميرات عرضية
الأشعة الضوئية الواقعة خارج مجال رؤيتنا والتي تحمل صورًا للعالم تصطدم باستمرار بالجدران والأسطح الأخرى وتنعكس على أعيننا.
لكن لماذا هذا الفيض من المعلومات البصرية ضعيف التأثير إلى هذه الدرجة؟ الجواب هو أن هناك الكثير من هذه الأشعة الضوئية والمسافرة في اتجاهات مختلفة.
يتطلب تشكيل صورةٍ الحدَّ من أشعة الضوء الواقعة على سطح، ما يسمح بمشاهدة مجموعة معيّنة منها.
هذا هو ما تفعله الكاميرا ذات الثقب.
كانت فكرة تورالبا وفريمان الأوّلية في عام 2012 أن هناك العديد من الأشياء في بيئتنا التي تحدّ بشكل طبيعي من أشعة الضوء، ما يشكّل صورًا باهتة، لكنها قوية بما يكفي لتكتشفها أجهزة الكمبيوتر.
كلّما كانت فتحة كاميرا ذات الثقب -(pinhole camera)- أصغر، كانت الصورة الناتجة أكثر وضوحًا، نظرًا لأن كل نقطة على الكائن الذي تم تصويره ستصدر فقط شعاعًا ضوئيًا واحدًا بالزاوية الصحيحة ليمرَّ من خلال الفتحة.
كانت نافذة غرفة فندق تورالبا أكبر من أن تنتج صورة حادة، وكان هو وفريمان يعرفان أن الكاميرات ذات الثقب العرضية المفيدة نادرة بشكل عام.
لكنهم أدركوا أن نوعًا من الكاميرات التي لا تحتوي على ثقب والمسمّاة (pinspeck)، والتي تتكون من أي جسم معتم صغير، تشكّل صورًا في كل مكان.
تخيّل أنك تصوّر الجدار الداخلي لغرفة من خلال شقٍّ في ستار النافذة.
لن يمكنك رؤية الكثير.
فجأة، تظهر ذراع شخص في مجال رؤيتك.
إن مقارنة شدة الضوء على الحائط عندما تكون الذراع موجودة وعندما تكون الذراع غير موجودة تكشف عن معلومات حول المشهد.
تُعترَض مجموعة من أشعة الضوء التي تصل إلى الجدار في إطار الفيديو الأول لفترة وجيزة من قبل الذراع.
وعن طريق طرح البيانات في الصورة الثانية من الصورة الأولى، قال فريمان: «يمكنك التوصّل إلى ما حُجِب من الذراع»، وقال: «إذا سمحت لنفسك بالنظر إلى الأشياء التي تحجب الضوء، وكذلك الأشياء التي تسمح بدخول الضوء، فيمكنك حينئذ توسيع قائمة الأماكن التي يمكنك العثور فيها على هذه الصور المشابهة بصور الكاميرا ذات الثقب».
إلى جانب عملهم على الكاميرات العرضية الهادف لالتقاط تغيّرات ضئيلة في الإضاءة، ابتكر فريمان وزملاؤه أيضًا خوارزميات للكشف عن التغيّرات اللونية الطفيفة وتضخيمها، كتلك التي تحدث في الوجه البشري أثناء ضخ الدم إليه، بالإضافة إلى حركات صغيرة، وهي الخدعة وراء كيس البطاطس المتحدّث.
ويمكنهم الآن بسهولة تمييز حركات ضئيلة تصل لجزء من مئة جزء من البكسل، والتي عادةّ ما تضيع مع التشويش.
بدأ العلماء حديثًا بدمج هذه التقنيات معًا.
ففي بحث نُشِر في أكتوبر الماضي قادته طالبة سابقة لفريمان تُدعى كايتي بومان (Katie Bouman)، والتي تعمل الآن في المركز السمثسوني للفيزياء الفلكية في جامعة هارفرد، بيّن الباحثون أن زوايا الأبنية تعمل ككاميرات تخلق صورًا مضطربة لما حولها.
كالكاميرات ذات الثقب، تحدّ الزوايا من مرور الأشعة الضوئية، وباستخدام أجهزة التسجيل الاعتيادية، كجهاز آيفون، وفي نور النهار، صوّرت بومان وزملاؤها (الظل المشعشع) لزاوية مبنى، وهي المنطقة من الظل التي تردّها حزم ضوئية قادمة من المنطقة المخفية من الزاوية.
إذا كان هناك شخص يمشي مرتديًا ملابس حمراء خلف الزاوية، على سبيل المثال، فإن ملابسه ستعكس ضوءًا أحمر سيصل جزء ضئيل منه إلى منطقة (الظل المشعشع) أو (penumbra)، وسينسحب هذا الضوء عبر هذه المنطقة، وعلى الرغم من أنه سيكون غير مرئي للعين المجردة فبإمكاننا جعله واضحًا كعين الشمس باستخدام برامج معيّنة.
وفي عمل ثوري أُعلِن عنه في حزيران، قام فريمان وزملاؤه بإعادة بناء (الحقل الضوئي) لغرفةٍ (صورة لشدّة وجِهة الأشعة الضوئية في كامل الغرفة) من ظل نبتة غزيرة الأوراق قرب الحائط.
الأوراق تصرّفت ككاميرات (pinspeck)، إذ يعترض كل منها مجموعة مختلفة من الأشعة الضوئية.
وبمقارنة تباين ظل كل ورقة مع بقية ظلال الأوراق تستطيع تحديد ما لم يصله من أشعة ضوئية ما يكشف صورة لجزء من المشهد المخفي، ثم يقوم العلماء بتجميع الصور.
هذا النهج الذي يستخدم الحقول الضوئية يعطي صورًا أفضل وأنقى من عمل الكاميرات العرضية السابق، لأن معلومات مسبقة عن العالم تكمن في الخوارزميات المستخدمة.
الشكل المعروف للنبتة المنزلية، بافتراض أن الصور الطبيعية غالبًا ما تكون ملساء، وغيرها من المعلومات المسبقة تمكّن الباحثين من التنبؤ بالإشارات الناتجة عن التشويش ما يساعد على تحسين جودة الصورة.
يقول تورالبا: «إن تقنية الحقل الضوئي تتطلب معرفة واسعة عن البيئة للقيام بإعادة بناء الصورة، ولكنها ستعطيك الكثير من المعلومات».
الضوء المبعثر
في الوقت الذي كان فريمان وتورالبا وزملاؤهم يكشفون عن الصور المخفية الموجودة طوال الوقت، في مكان آخر في حرم معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كان راميش راسكار، عالم الرؤية الحاسوبية والمتحدّث في TED، قد اتخذ منهجًا يسمى (التصوير الفاعل) أو (active imaging)، والذي يستخدم أنظمة كاميرا-الليزر (camera-laser systems) المتطورة باهظة الثمن لإنتاج صور عالية الدقة لما حول الزوايا.
في عام 2012، حقق راسكار وفريقه فكرة شغلت باله لمدة خمس سنوات، إذ قاموا باختراع تقنية تتضمّن إطلاق نبضات ليزر على حائط بحيث يرتد جزء صغير من الضوء المتناثر عن حاجز.
بعد لحظات من كل نبضة، يستخدمون كاميرا ذات سرعة فائقة تلتقط فوتونات فردية بسرعة مليارات الإطارات خلال الثانية للكشف عن الفوتونات التي ترتد من الحائط.
من خلال قياس زمن رحلة الفوتونات، يمكن للباحثين معرفة المسافة التي قطعتها، وبالتالي إعادة بناء الهندسة التفصيلية ثلاثية الأبعاد للأجسام المخفية التي تنتشر عنها الفوتونات خلف الحاجز.
إحدى المشكلات هي وجوب مسح مساحة من الجدار باستخدام الليزر لتشكيل صورة ثلاثية الأبعاد.
لنفترض، على سبيل المثال، أن هنالك شخصًا مخفيًا حول زاوية.
«قد يصل الضوء من نقطة معيّنة على الرأس، ونقطة معيّنة على الكتف، ونقطة معيّنة على الركبة إلى الكاميرا في نفس الوقت بالضبط»، يقول راسكار.
«ولكن إذا قمت بتسليط الليزر في مكان مختلف قليلًا، فإن الضوء من النقاط الثلاث لن يصل في نفس الوقت بالضبط».
عليك أن تجمع كل الإشارات وتحل ما يعرف بمسألة العكس لإعادة بناء الهندسة ثلاثية الأبعاد المخفية.
كانت خوارزمية راسكار الأصلية لحل (مسألة العكس) مطلوبة من الناحية الحاسوبية، وكان جهازه يكلّف نصف مليون، ولكن تقدّمًا هائلًا أُحرِز في مجال تخفيض التكلفة وتبسيط العمليات الرياضية.
في مارس، وضعت ورقة نُشِرت في مجلة Nature معيارًا جديدًا للتصوير ثلاثي الأبعاد الفعال وغير المكلّف، على وجه التحديد كان تمثالًا لأرنب حول الزاوية.
ابتكر مؤلفو الورقة، ماثيو أوتول (Matthew O’Toole) وديفيد ليندل (David Lindell) وجوردونويتزشتاين (Gordon Wetzstein) من جامعة ستانفورد، خوارزمية جديدة لحل مسألة العكس واستخدموا كاميرا SPAD منخفضة التكلفة نسبيًا ذات معدّل إطارات أقل من كاميرات التصوير الفائقة السرعة.
وصف راسكار، الذي أشرف على اثنين من المؤلفين في وقت سابق من حياتهم المهنية، العمل بأنه ذكي للغاية وبأنه «أحد أوراقه المفضلة».
بدأ الباحثون في مجموعة فريمان بدمج طريقتي التصوير الفاعلة والمنفعلة.
أظهرت ورقة بحثية نشرها الباحث كريستوس ثرامبوليديس (Christos Thrampoulidis) أنه في التصوير الفاعل باستخدام الليزر، يمكن الاستفادة من وجود شيء يعمل ككاميرا (pinspeck) من شكل معروف حول الزاوية لإعادة بناء المشهد الخفي، دون الحاجة إلى معلومات حول زمن رحلة الفوتون على الإطلاق.
يقول ثرامبوليديس: «يجب أن نكون قادرين على القيام بذلك باستخدام كاميرا CCD عادية».
يمكن لتقنيات التصوير هذه أن تساعد في يوم من الأيام فرق الإنقاذ ورجال الإطفاء، وفي مجال الرؤية الروبوتية.
تتعاون شركة Velten مع مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة NASA في مشروع يهدف إلى تصوير ما هو داخل الكهوف على القمر عن بُعد، كما استخدم راسكار وزملاؤه أسلوبهم في قراءة الصفحات القليلة الأولى من كتاب مغلق ورؤية مسافة قصيرة من خلال الضباب.
إلى جانب إعادة بناء الصوت، قد تكون لخوارزمية تضخيم الحركة لفريمان تطبيقات مفيدة في أجهزة الصحة والسلامة، أو اكتشاف الحركات الفلكية الصغيرة.
يقول ديفيد هوغ، عالم الفلك وعالم البيانات في جامعة نيويورك ومعهد فلاتيرون (Flatiron Institute): «إن هذه الخوارزمية فكرة جيّدة للغاية، أنا أظن أنه يجب علينا استخدام هذا في علم الفلك».
عندما سُئل عن مخاوف انتهاك الخصوصية التي أثارتها الاكتشافات الأخيرة قال: «هذه قضية فكّرتُ بها خلال مسيرتي المهنية كثيرًا».
وأضاف فريمان أنه عندما بدأ حياته المهنية، لم يكن يرغب في العمل على أي شيء ذي تطبيقات عسكرية أو تجسّسية، ولكن مع مرور الوقت، أصبح يعتقد أن «التكنولوجيا هي أداة يمكن استخدامها بطرق مختلفة.
إذا حاولت تجنّب أي شيء يمكن أن يكون له استخدام عسكري، فإنك لن تفعل أي شيء مفيد».
وأضاف: «حتى في المواقف العسكرية، يوجد طيف واسع جدًا لاستخدام الأشياء يمكن أن تساعد شخصًا ما على تجنب التعرّض للقتل على يد أحد المهاجمين».
ولكن ما يثير اهتمامه ليس التطبيقات التكنولوجية المحتملة، بل ببساطة العثور على ظاهرة مخبأة على مرأى من الناس، ويقول: «أعتقد أن العالم غني بالكثير من الأشياء التي لم يتم اكتشافها بعد».
- ترجمة: مهران يوسف.
- تدقيق: علي فرغلي.
- تحرير: عيسى هزيم.
- المصدر