العلماء يقتربون من إعادة كتابة الشيفرة الوراثية
تقدم علماء الوراثة بخطوة سباقة تجسدت في إعادة ترميز الجينوم البشري وذلك بحقن 62,214 زوج قاعدي من «الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين- DNA» مكان جينوم صناعي لجرثومة العصية القولونية.
ويرى العلماء أن إعادة ترميز الجينوم على نطاق واسع قد يمكننا من تطور كائنات حية مقاومة للفيروسات! بل ربما يسمح لعلماء الأحياء بترميز جميع الأحماض الأمينية الاصطناعية؛ أي يسمح لنا بإعادة برمجة الحياة!
ويقول «بيتر كار» المهندس البيولوجي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو ليس من فريق الأبحاث الأخيرة «الأمر صعب، لكننا وصلنا إلى القدرة على هندسة الحياة على مستوى عميق كالشيفرة الوراثية مثلاً.»
ولنفهم هذا الإنجاز الذي توصل إليه الباحثون أخيرًا علينا أولاً فهم كيفية عمل الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين، فشيفرة هذا الحمض بقواعده الأربعة (أدينين-A، ثيمين -T، سيتوزين-C، جوانين-G) تترجم إلى «الحمض النووي الريبي غير منقوص الأكسجين – RNA،» وتُرتب الشيفرة الوراثية في ثلاثيات كل منها شيفرة لحمض أميني معين يمثل حجر أساس لبناء الخلية الحية. فمثلًا تسهم الشيفرة A – G – G في تشكيل الحمض الأميني المسمى الأرجينين، وتسهم الشيفرة C – C- G في تركيب البرولين.
ويقول «مارك لوجوي- Marc Lajoie،» أحد الباحثين لصحيفة «ببيولر ميكانيكز- Popular Mechanics»: تشترك جميع أشكال الحياة على الأرض بشيفرة وراثية عامة، فمثلًا تعني الشيفرة A – G – G وراثيًا الشيء ذاته في جميع الكائنات الحية، بدءًا من خلايا جسمك، مرورًا بالخلايا النباتية، وصولاً إلى خلايا الخميرة.»
لكن يوجد 64 ثلاثية (شيفرة وراثية) يقابلها 20 نوع فقط من الأحماض الأمينية في الطبيعة، أي أن كل ثلاث أو أربع شيفرات وراثية قد تكون الأساس لتشكيل الحمض الأميني ذاته، ويحدث هنا بعض التداخل، فمثلاً لدينا الثلاثيتان C – C- C و C -C – G وكلتاهما تساهمان في تركيب الحمض الأميني البرولين، وتتعامل معهما الخلية بالطريقة ذاتها ولا تميز بينهما!
إلا أن الباحثين في جامعة هارفارد عملوا على التقليل من ذلك التداخل عند عملهم على جرثومة العصية القولونية وذلك عبر تغيير 62,214 زوج من القواعد الوراثية وحذف 7 من أصل 64 ثلاثية ضمن جينات الجرثومة التي تبلغ في الأصل 3548 جينة.
قد تظن أن التجربة ستترك أثارًا سيئة على الخلية لكن الفريق البحثي اختبر 63% من الجينات المعادة التشفير (البديلة) التي أوجدوها، فأنتجت جميعًا تقريبًا جراثيم عصيات قولونية بحالة جيدة.
ويقول «باتريك كاي – Patrick Cai» عالم الأحياء الاصطناعية في جامعة إدنبرة في المملكة المتحدة، والذي لم يشارك في البحث أيضًا »كم هو أمر مثير للدهشة أن نراقب كيفية عمل الجينوم الاصطناعي،» ويضيف «والأمر المشوق أيضًا أن ترى كيف تطورت مجموعة من التقنيات المتقدمة، مثل تقنية التصميم الحاسوبي، وتقنية التخليق والتجميع، بالإضافة إلى اختبارات تشابه الأنماط الجينية، إلى مستوى يدعم عملنا في إعادة هيكلة الجينوم على هذا المستوى.»
الأمر الأكثر إثارة في هذه التجارب هو أنها تشق الطريق للوصول إلى نوع من الجراثيم المقاومة لجميع أنواع الفيروسات.
وفي ورقة بحثية أخرى نشرت في مجلة العلوم، حقق فريق العلماء ذلك عبر إزالة الآلية التي تعتمد عليها العصية القولونية في فهم الشيفرات الوراثية، فعندما كانت تتم قراءة الثلاثية U – A – G أزالوا البروتين المسمى RF1، لكن الأمر الغريب أن آلية عمل الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين لم تتوقف كما العادة. ويعني هذا أن خلايا الجرثومة قرأت المعلومات المدرجة ضمن الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين قراءة مختلفة، فلو أضيفت الشيفرة U – A – G لاحقًا، وأُجبرت الخلية على قراءته فإنها لن تعلم ما الذي يجب أن تفعله حينها، ولهذا لن تتأثر بناءً على ذلك.
يحدث هذا الإدخال الإجباري للمادة الوراثية عادة الطبيعة، وذلك عندما تصيب الفيروسات إحدى الخلايا الحية إذ أنها تعمل على إدخال جينومها الفيروسي وحقنه الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين للخلية المضيفة فتبدأ بإنتاج فيروسات جديدة.
ويقول لوجوي «عندما يصيب أحد الفيروسات الخلية المضيفة فإنه يعمل أساساً على حقن مادته الوراثية ضمنها وإجبارها على تركيب فيروسات جديدة. لكن عندما يحدث هذا للكائنات المعادة التشفير وراثيًا، فإن ذلك لن يحدث لأن التعليمات الوراثية التي يحقنها الفيروس ستغدو بلا فائدة، ولن تعمل، وبذلك لن يتمكن الفيروس من إتمام دورة حياته»
يأمل الباحثون حاليًا استخدام هذه الشيفرات الوراثية المعادة البرمجة في تركيب أحماض أمينية اصطناعية في البكتيريا، وسيغير هذا من نوعية البروتين الذي تنتجه جرثومة العصية القولونية ويكون له الأثر الكبير في الصناعات التحويلية والعديد من المجالات الأخرى. إلا أن أمامهم طريق طويلة، فما زال عليهم تجربة جميع الجينات الاصطناعية، ثم جمع الشيفرات الوراثية مع بعضها لتشكيل الكائن الحي، ويعد هذا خطوة جيدة كبداية في عالم وصلنا فيه إلى القدرة على التعديل الجيني في الأجنة الحية.
ويقول «جورج تشرتش – George Church» من فريق هذا البحث في مختبرات جامعة هارفارد «هذا البحث هو الأكثر تطرفًا من ناحية الهندسة الوراثية، والبحث التالي -والذي نأمل أن يكون قريبًا – سيكون متعلقًا بالفهم الأعمق للجينوم والبدء بالاختبارات عن المقاومة الفيروسية، وأن نعرف كم عدد الحموض الأمينية التي بإمكاننا العمل عليها، لنؤكد عملية الاحتواء البيولوجي.»
ترجمة: علي شعبان
مراجعة: أحمد شهم شريف
المصدر