لا أحد يفهم ما هو الوعي أو كيف يعمل، لا أحد يفهم ميكانيكا الكم أيضًا، هل يمكن أن يكون ذلك مجرد صدفة.
«لا أستطيع تحديد المشكلة الحقيقية، لذلك أظن أنه لا توجد مشكلة حقيقية، لكني لست متأكدًا من أنه لا توجد مشكلة حقيقية»، هذا ما قاله ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) عن الألغاز والمفارقات في ميكانيكا الكم التي يستخدمها علماء الفيزياء لوصف أصغر الأشياء في الكون، لكنه ربما كان يتكلم عن المشكلة العقيمة المماثلة وهي مشكلة الوعي.
بعض العلماء يعتقدون أننا نفهم بالفعل ما هو الوعي، أو أنه مجرد وهم، لكن العديد من العلماء الآخرين يشعرون أننا لم ندرك من أين جاء الوعي أساسًا.
وقاد لغز الوعي الأبدي بعض الباحثين إلى استدعاء فيزياء الكم لشرح ذلك، لكن هذه الفكرة كانت دائمًا تُجابه بالتشكيك وهذا ليس من المستغرب؛ لأنه لا يبدو من الحكمة أن تحل أحد الألغاز بلغز آخر.
لكن من الواضح أن هذه الأفكار ليست سخيفة كما أنها ليست اعتباطية.
أحد الأسباب الذي جعل العقل أكثر الأمور إزعاجًا للفيزيائيين هو أنه تغلل في نظرية الكم البدائية، ليس هذا فقط بل من المتوقع أن الحواسيب الكمية تكون قادرة على إنجاز الأشياء التي لا يمكن للحواسيب الاعتيادية إنجازها، وهذا يذكرنا كيف يمكن لأدمغتنا إنجاز الأشياء التي ما زالت تتجاوز قدرة الذكاء الاصطناعي.
ميكانيكا الكم هي أفضل نظرية لدينا لوصف العالم على المستوى الذري والجسيمات دون الذرية، وربما الخاصية الأكثر شهرة على غموضها هو حقيقة أن نتيجة التجربة الكمية يمكن أن تتغير اعتمادًا على اختيارنا أو عدم اختيارنا لقياس بعض خصائص الجسيمات المعنية.
عندما لاحظ رواد ميكانيكا الكم الأوائل تأثير الشخص الفاحص أو المراقب على نتائج التجارب كانوا قلقين للغاية، يبدو أنه يفسد الافتراض الأساسي وراء كل العلم، بأن هناك عالم موضوعي في الخارج بغض النظر عنا، فإذا كانت الطريقة التي يتصرف بها العالم تتوقف على كيفية نظرتنا له، فما الذي يمكن أن يعنيه الواقع بالضبط؟
وشعر بعض هؤلاء الباحثين بأنهم مجبرين على الاستنتاج بأن الموضوعية كانت مجرد وهم، ويجب إعطاء الوعي دور فعال في نظرية الكم، أما بالنسبة للآخرين فإن ذلك لا يعني شيئًا.
بلا شك أن أينشتاين احتج ذات مرة عندما قال أنا لا أحبذ أن يكون القمر غير موجود عندما لا ننظر إليه.
واليوم يشك بعض الفيزيائيين فيما إذا كان الوعي يؤثر على ميكانيكا الكم أم لا، في الحقيقة من المحتمل أن ينشأ الوعي بسبب ميكانيكا الكم.
حيث يعتقدون بأن نظرية الكم قد تكون ضرورية لفهم كيفية عمل الدماغ بشكل كامل.
قد يكون ذلك مشابه للأجسام الكمومية التي بإمكانها التواجد في مكانين في آن واحد، لذلك فإن الدماغ الكمي يمكن أن يحمل اثنتين من الأفكار المتبادلة في نفس الوقت.
هذه الأفكار تخمينية فقد اتضح أن الفيزياء الكمومية ليس لها دور أساسي سواء في عمل الدماغ أو التأثير على عمله.
إذا لم يكن هناك شيء آخر، فإن هذه الاحتمالات تظهر كيف أن نظرية الكم الغريبة تجبرنا على التفكير.
إن التأثير الأشهر للعقل على ميكانيكا الكم يظهر في تجربة الشق المزدوج، تخيّل تسليط حزمة من الشعاع الضوئي على حاجز يحتوي على اثنين من الشقوق المتقاربة والمتوازية، جزء من الضوء يمر عبر الشقين ويضرب حاجز آخر.
يمكن اعتبار الضوء كنوع من الموجة، وعندما تخرج الموجات من الشقين يمكن أن تتداخل مع بعضها البعض.
إذا كانت قمم الموجات متزامنة فإنها تعزز بعضها البعض، في حين إذا تزامنت قمة مع قعر فتلغي أحدهما الأخرى ويطلق على التداخل الموجي هذا بالحيود (Diffraction).
وتنتج سلسلة متناوبة من الأشرطة المظلمة والمشرقة على الشاشة الخلفية.
حيث تقوم موجات الضوء أما بتعزيز نفسها أو إلغاء بعضها البعض.
وكان من المفهوم أن هذه التجربة هي خاصية من خصائص سلوك الموجة منذ أكثر من 200 عام، أي قبل وجود نظرية الكم.
ويمكن إجراء تجربة الشق المزدوج أيضًا على الجسيمات الكمية الأخرى كالإلكترونات وهي جسيمات صغيرة مشحونة وتعتبر من مكونات الذرات.
ما يثير الجدل أن هذه الجسيمات يمكن أن تتصرف كالموجات، وهذا يعني بأنها يمكن أن تتعرض للحيود عندما تمر حزمة من الإلكترونات خلال الشقين وإنتاج نمط التداخل.
افترض الآن بأن الجسيمات الكمية يتم إرسالها من خلال الشقوق واحدًا تلو الآخر، ويظهر وصولها إلى الشاشة أيضًا واحدًا تلو الآخر، على ما يبدو ليس هنالك أي شيء يتداخل مع الجسيم على طول مساره، مع ذلك فإن نمط الجسيمات التي تتراكم مع مرور الوقت تكشف عن حزم التداخل.
تبدو هذه الدلالة بأن كل جسيم يمر من كلا الشقين في نفس الوقت ويتداخل مع نفسه وتعرف هذه الحالة بالتراكب (Superposition).
ولكن هذا هو الشيء الغريب حقًا.
إذا وضعنا كاشفًا داخل أو وراء شق واحد، يمكننا اكتشاف ما إذا كان أي جسيم معين يمر من خلال الشق أم لا.
ولكن في هذه الحالة يختفي التداخل.
ببساطة عند مراقبة مسار الجسيمات حتى لو كانت هذه المراقبة لا تزعج حركة الجسيمات، فإننا نغير النتيجة.
يقول الفيزيائي باسكال جوردان (Pascual Jordan) الذي عمل مع المعلم الكمي نيلز بور (Niels Bohr) في كوبنهاغن في عشرينيات القرن الماضي: «إن المراقبات لا تزعج ما يجب قياسه فحسب، بل تنتجه، نحن نجبر الجسيم الكمومي على اتخاذ موقف محدد، بعبارة أخرى نحن ننتج نتائج القياسات بأنفسنا».
إذا كان الأمر كذلك، يبدو أن الواقع الموضوعي مجرد سراب، ويصبح أكثر غرابة إذا كانت الطبيعة تغير سلوكها اعتمادًا على ما إذا كنا ننظر أم لا.
يمكننا محاولة خداع الطبيعة في الكشف عن نيتها.
لفعل ذلك، بإمكاننا تحديد أي مسار اتخذت الجسيمات عند المرور من خلال هذين الشقين، ولكن بمجرد أن تمر من خلال الشقين، بعدها يجب أن تكون قد قررت إما أن تمر من أحد الشقوق أو كلاهما.
تم اقتراح التجربة عام 1970 من قبل الفيزيائي الأمريكي جون ويلر (John Wheeler) وأطلق عليها تجربة الاختيار المؤجل (Delayed Choice) وأجريت في العقد التالي، تم استخدام تقنيات ذكية لإجراء قياسات على مسارات الجسيمات الكمومية (على وجه العموم جسيمات الضوء وتسمى الفوتونات) بعد أن كان عليها اختيار أن تسلك مسارًا واحدًا أو تراكب اثنين.
كما تنبأ بور بكل ثقة، اتضح أنه لا فرق بين تأخير القياس أو عدم تأخيره، طالما أننا نقيس مسار الفوتون قبل تسجيله بشكل نهائي عند وصوله إلى الكاشف فإننا نفقد ظاهرة الحيود.
كما لو كانت الطبيعة تعرف ليس بمجرد أننا ننظر بل وحتى إذا كنا نخطط للنظر.
في هذه التجربة، كلما نكتشف مسار الجسيم الكمومي فإن مجموعة المسارات الممكنة تنهار إلى حالة واحدة معروفة.
ما هو أكثر من ذلك، إن تجربة الاختيار المؤجل تعني أن فعل الملاحظة المطلق الناجم عن القياس يمكن أن يسبب الانهيار أكثر من أي اضطراب فيزيائي.
لكن هل هذا يعني أن الانهيار الحقيقي لا يحدث إلا عندما تمس نتيجة القياس وعينا؟
لقد أعترف الفيزيائي الهنغاري يوجين فينغر (Eugene Wigner) بهذا الاحتمال في الثلاثينيات حيث يقول: «قد تبين أن الوصف الكمي للأشياء يتأثر بالانطباعات التي تدخل وعيي، وقد يكون الأيمان بالذات متناسق منطقيًا مع ميكانيكا الكم الحالية».
اعتقد ويلر أن وجود الكائنات الحية القادرة على الملاحظة قد حوّلت ما كان في السابق عدد من الأحداث الكمية الماضية إلى تاريخ واحد ملموس.
حيث يقول: «أصبحنا مشاركين في تطور الكون منذ بدايته، وهذا يعني أننا نعيش في كون تشاركي».
حتى يومنا هذا لا يوافق الفيزيائيون على الطريقة الأفضل لتفسير هذه التجارب الكمومية، ولكن من الصعب تجنب ما يترتب على ذلك من ارتباط الوعي بميكانيكا الكم بطريقة أو بأخرى.
في بداية الثمانينيات، اقترح الفيزيائي البريطاني روجر بنروز (Roger Penrose) أن الربط قد يعمل في الاتجاه الآخر، ربما أن ميكانيكا الكم مشاركة في الوعي سواء كان الوعي يؤثر على ميكانيكا الكم أم لا.
وقد سأل بنروز، ماذا لو كانت هناك هياكل جزيئية في أدمغتنا قادرة على تغيير حالتها استجابة لحدث كمومي واحد؟ وهل يمكن لهذه التراكيب أن تتبنى حالة التراكب الكمي تمامًا مثل الجسيمات في تجربة الشق المزدوج؟ وهل يظهر التراكب الكمي في الطرق التي يتم فيها تحفيز الخلايا العصبية للتواصل عبر الإشارات الكهربائية؟
يقول بنروز قد تكون قدرتنا على تحمل الحالات الذهنية الغير متوافقة ظاهريًا ليست هلوسة في الإدراك وإنما هذا تأثير ميكانيكا الكم الحقيقي.
بالنتيجة، يبدو أن الدماغ البشري قادرًا على التعامل مع العمليات المعرفية التي لا تزال تتجاوز بكثير قدرات أجهزة الكمبيوتر الرقمية.
ربما يمكننا حتى تنفيذ المهام الحسابية التي من المستحيل على أجهزة الكمبيوتر العادية تنفيذها، والتي تستخدم المنطق الرقمي الكلاسيكي.
اقترح بنروز لأول مرة أن ميكانيكا الكم تؤثر على الإدراك البشري من خلال كتابه عام 1989 بعنوان العقل الجديد للإمبراطور (The Emperor’s New Mind)، حيث يعتقد بنروز أن انهيار التداخل الكمومي والتراكب الكمي عملية حقيقية وعملية فيزيائية مثل انفجار فقاعة وأطلق على هذه الفكرة (Orch-OR) بمعنى الاختزال الموضوعي المنظم (Orchestrated Objective Reduction).
لفتت فكرة (Orch-OR) انتباه بنروز إلى أن الجاذبية هي المسؤولة على عدم ظهور تأثير ميكانيكا الكم في الأشياء اليومية مثل الكراسي والكواكب.
حيث يعتقد أن التراكب الكمي يصبح مستحيلًا في الأشياء التي يبلغ حجمها أكبر من الذرات، لأن تأثير جاذبيتها سيفرض تواجد حالتين غير متوافقتين من الزمكان في نفس الوقت.
طوّر بنروز هذه الفكرة مع الطبيب الأمريكي ستيوارت هاميروف (Stuart Hameroff)، حيث اقترح في كتابه ظلال العقل (Shadows of the Mind) عام 1994 أن الهياكل التي تساهم في الإدراك الكمي قد تكون بروتينات تسمى الأنابيب المايكروية (Microtubules)، وتوجد هذه الأنابيب في معظم خلايانا بما في ذلك الخلايا العصبية في أدمغتنا.
كما برهن بنروز وهاميروف أن الاهتزازات للأنابيب المايكروية يمكن أن تعتمد مبدأ التراكب الكمي، ولكن لا يوجد دليل على أن مثل هذا الشيء ممكن.
تمت الإشارة إلى أن فكرة التراكب الكمي في الأنابيب المايكروية مدعومة بتجارب أجريت عام 2013 ولكن في الواقع لم تشر تلك الدراسات إلى الآثار الكمومية.
بالإضافة إلى ذلك يعتقد معظم الباحثين أن فكرة (Orch-OR) تم استبعادها من قبل دراسة نشرت في عام 2000.
وقال الفيزيائي ماكس تيجمارك (Max Tegmark) أن التراكب الكمي للجزيئات المشاركة في الإشارات العصبية لا يمكن أن يستمر حتى لجزء صغير من الوقت اللازم لمثل هذه الإشارات للوصول لمكان ما.
التأثيرات الكمية مثل التراكب الكمي يتم تدميرها بسهولة بسبب ظاهرة تدعى فك الترابط الكمي (Decoherence) ويرجع ذلك إلى تفاعل الجسيم الكمي مع البيئة المحيطة به والتي من خلالها يتم محو خصائص الكمّ من النظام.
من المتوقع أن يكون فك الترابط الكمي سريعًا للغاية في البيئات الرطبة والدافئة مثل الخلايا الحية.
الإشارات العصبية هي نبضات كهربائية، ناجمة عن مرور ذرات مشحونة كهربائيًا عبر جدران الخلايا العصبية، إذا كانت إحدى هذه الذرات في تراكب كمي ثم اصطدمت مع الخلايا العصبية فإن التراكب يجب أن يضمحل في أقل من مليار مليار جزء من الثانية كما يقول تيجمارك، وذلك يستغرق على الأقل عشرة آلاف تريليون مرة ريثما تقوم الخلايا العصبية بتفريغ الإشارة.
نتيجة لذلك هنالك شكوك كبيرة حول فكرة تأثير ميكانيكا الكم على الدماغ.
مع ذلك بنروز غير مبالٍ من هذه الحجج ومتمسك بفرضية (Orch-OR).
على الرغم من تنبؤ تيجمارك حول فك الترابط الكمي فائق السرعة في الخلايا، وجد باحثون آخرون على الآثار الكمومية في الكائنات الحية.
تشير الأدلة أن النظم البيولوجية تستخدم ظواهر ميكانيكا الكم في عدة جوانب، عملية البناء الضوئي على سبيل المثال حيث تساهم التأثيرات الكمية على تحويل أشعة الشمس لصنع السكريات في عملية التمثيل الضوئي، لاحظ العلماء أيضًا أن الطيور المهاجرة لديها بوصلة كمّية خاصة تمكّنها من استغلال المجال المغناطيسي للأرض والملاحة، كما أن حاسة الشم لدى الإنسان تستند على إحدى أهم خصائص ميكانيكا الكم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن فكرة أن الدماغ قد يستخدم الحيل الكمومية لا مفرّ منها وهنالك حجة مختلفة تمامًا.
قام الفيزيائي ماثيو فيشر (Matthew Fisher) من جامعة كاليفورنيا بنشر ورقة بحثية عام 2015 يقترح فيها أن الدماغ قد يحتوي على جزيئات قادرة على الحفاظ على التراكب الكمي بشكل متين، على وجه التحديد أنوية ذرات الفسفور قد تمتلك هذه القدرة.
تتواجد ذرات الفسفور في كل مكان في الخلايا الحية.
وعادة ما تتخذ شكل أيونات الفوسفات، حيث تنضم ذرة فسفور واحدة مع أربع ذرات أكسجين.
هذه الأيونات هي الوحدة الأساسية للطاقة داخل الخلايا، يتم تخزين الكثير من طاقة الخلية في جزيئات تسمى (ATP) التي تحتوي على سلسلة مكونة من ثلاث مجموعات من الفوسفات مرتبطة بالجزيء العضوي، وعند قطع أحد مجاميع الفوسفات يتم تحرير الطاقة للخلية لاستخدامها.
تمتلك الخلايا آلات جزيئية لتجميع أيونات الفوسفات في مجموعات ومن ثم فسخها مرة أخرى.
اقترح فيشر مخططًا يمكن فيه وضع أثنين من أيونات الفوسفات في نوع خاص من التراكب الكمي يسمى حالة التشابك الكمي (Entangled State).
تمتلك أنوية الفسفور خاصية كمية تدعى اللف المغزلي (Spin)، التي تجعلها مشابهة إلى حد ما للمغانط الصغيرة ذات الأقطاب التي تشير إلى اتجاهات معينة.
في حالة التشابك، فإن اللف المغزلي لإحدى أنوية الفسفور يعتمد على الأخرى، بعبارة أخرى إن حالات التشابك هي حقًا حالات تراكب كمومي يشمل أكثر من جسيم كمومي واحد.
يقول فيشر أن السلوك الميكانيكي الكمي للف المغزلي لهذه الأنوية يمكن أن يقاوم بشكل معقول فك الترابط لفترات طويلة يمكن للبشر ملاحظتها.
هو يتفق مع تيجمارك أن الاهتزازات الكمومية سوف تتأثر بشدة مع محيطها كما افترضها بنروز وهاميروف وسوف يحصل فك الترابط على الفور تقريبًا، لكن اللف المغزلي للأنوية لا تتفاعل بشدة مع محيطها.
على الرغم من ذلك، السلوك الكمي في اللف المغزلي لأنوية الفسفور سيكون محمي من فك الترابط.
يقول فيشر قد يحدث ذلك إذا تم دمج ذرات الفسفور في أجسام أكبر تدعى جزيئات بوسنر (Posner molecules).
وهي مجموعات مكونة من ستة أيونات فوسفات مرتبطة بتسعة أيونات كالسيوم، حيث توجد أدلة على إمكانية وجود هذه الجزيئات في الخلايا الحيّة، على الرغم من أن هذا بعيد الآن عن الدليل الحاسم.
يقول فيشر أن اللف المغزلي للفسفور يقاوم فك الترابط لمدة يوم أو نحو ذلك حتى في الخلايا الحية، وهذا يعني أنها يمكن أن تؤثر على كيفية عمل الدماغ.
الفكرة هي أن جزيئات بوسنر يمكن ابتلاعها من قبل الخلايا العصبية، وحالما تكون جزيئات بوسنر في الداخل يمكنها تحفيز الخلايا العصبية على إطلاق إشارة إلى خلية أخرى عن طريق التفكك وتحرير أيونات الكالسيوم.
وبسبب التشابك في جزيئات بوسنر، قد تتشابك أثنين من هذه الإشارات بدورهما كنوع من التراكب الكمي للأفكار، يقول فيشر: «إذا كانت المعالجات الكمومية ذات اللف المغزلي النووي موجودة بالفعل في الدماغ، فسيكون ذلك أمرًا شائعًا للغاية، ويحدث في كل وقت».
لقد حصل فيشر أولًا على هذه الفكرة عندما بدأ التفكير في أصحاب الأمراض العقلية حيث يقول: «لقد بدأ دخولي في الكيمياء الحيوية للدماغ عندما قررت قبل ثلاث أو أربع سنوات استكشاف كيف يمكن لأيون الليثيوم أن يكون له مثل هذا التأثير الكبير في علاج الأمراض العقلية».
حيث تستخدم أدوية الليثيوم على نطاق واسع لعلاج الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar Disorder)، إنها تعمل ولكن لا أحد يعرف بالضبط كيف تعمل.
لم يكن فيشر يبحث عن تفسير كمومي، ولكن بعد ذلك قدم ورقة بحثية تفيد بأن أدوية الليثيوم لها تأثيرات مختلفة على سلوك الفئران اعتمادًا على نظير الليثيوم المستخدم.
في النظرة الأولى، كان ذلك محيرًا للغاية، من الناحية الكيميائية، أن النظائر المختلفة يجب أن تتصرف بشكل مطابق تقريبًا، فإذ كان الليثيوم قد عمل كعلاج تقليدي فينبغي أن يكون لجميع النظائر نفس التأثير.
ولكن فيشر أدرك أن أنوية ذرات نظائر الليثيوم المختلفة يمكن أن يكون لها دور مختلف، وقد تؤثر هذه الخاصية الكمية على طريقة عمل أدوية الليثيوم.
على سبيل المثال إذا تم استبدال الليثيوم بدل الكالسيوم في جزيئات بوسنر، فإن اللف المغزلي لليثيوم قد يشعر ويؤثر على اللف المغزلي لذرات الفسفور وبالتالي يتداخل مع تشابكها الكمي.
إذا كان ذلك صحيحًا، فإنه يساعد على تفسير لماذا يستخدم الليثيوم لعلاج الاضطراب ثنائي القطب.
في هذه المرحلة، يعتبر اقتراح فيشر ليس أكثر من فكرة مثيرة للاهتمام، ولكن هناك العديد من الطرق التي يمكن اختبار صحتها، بدءًا من فكرة أن اللف المغزلي للفسفور في جزيئات بوسنر يمكنه الحفاظ على الترابط الكمومي لفترات طويلة وهذا ما يهدف فيشر إلى القيام به لاحقًا.
رغم ذلك، فهو حذر من أن يكون قد تبنى الأفكار السابقة حول الوعي الكمي الذي يرى أنها متضاربة للغاية في أحسن الأحوال.
الفيزيائيون غير مرتاحين جدًا من إيجاد أنفسهم ضمن نظرياتهم، أكثر آمالهم هو أن الوعي والدماغ يمكن أن يبقى بعيدًا عن نظرية الكم وربما العكس بالعكس، وبعد كل هذا لا نعرف حتى ما هو الوعي؛ ناهيك عن وجود نظرية لوصف ذلك.
نتيجة لذلك فإن الفيزيائيين غالبًا ما يشعرون بالحرج بمجرد ذكر عبارة الكم والوعي في نفس الجملة.
ولكن بوضع ذلك جانبًا، إن الفكرة لها تاريخ طويل منذ أن اشترك تأثير المراقب والعقل في ميكانيكا الكم في الأيام الأولى، ومن الصعب جدًا إنكار العلاقة بين الوعي وميكانيكا الكم.
في عام 2016 تكهّن أدريان كينت (Adrian Kent) من جامعة كامبريدج أحد أكثر فلاسفة الكم احترامًا، أن الوعي قد يغيّر سلوك النظم الكمية بطرق غامضة ولكن يمكن اكتشافها.
كينت حذر جدًا حول هذه الفكرة حيث يعترف: «لا يوجد سبب مقنع من حيث المبدأ للاعتقاد بأن نظرية الكم هي النظرية الصحيحة التي تحاول صياغة نظرية الوعي، أو أن هنالك علاقة مشتركة بين مشاكل نظرية الكم مع مشكلة الوعي».
لكنه يقول إنه من الصعب تفسير جميع الخصائص التي يمتلكها الوعي بناءً على الفيزياء الكلاسيكية قبل نظرية الكم.
أحد الأسئلة المحيّرة بشكل خاص هو كيف يمكن لعقولنا الواعية تجربة أحاسيس فريدة من نوعها، مثل اللون الأحمر أو رائحة لحم الخنزير المقدد المقلي؟
بغض النظر عن الأشخاص الذين يعانون من إعاقات بصرية، نعلم جميعًا ما هو اللون الأحمر، ولكن ليس لدينا أي وسيلة لتوصيل الإحساس وليس هناك أي شيء في الفيزياء يقول لنا ما ينبغي أن يكون عليه.
الأحاسيس من هذا القبيل تسمى كوليا أو الكيفيات المحسوسة (Qualia)، نحن نتصورهم على أنها خصائص موحدة في جميع أنحاء العالم، ولكن في الحقيقة هي مجرد نواتج عن وعينا وهذا أمر يصعب تفسيره.
يقول كينت: «كل سلسلة من الأفكار حول علاقة الوعي بالفيزياء تؤدي إلى مشكلة عقيمة».
وهذا ما دفعه إلى اقتراح فكرة أن بإمكاننا إحراز تقدّم في فهم مشكلة تطوّر الوعي لو افترضنا أن الوعي يغير الاحتمالات الكمومية (وإن كانت قليلًا جدًا).
بعبارة أخرى، يمكن أن يؤثر العقل بشكل حقيقي على نتائج القياسات.
هي لا تحدد بالضبط ما هو حقيقي.
ولكن قد تؤثر على الفرصة بأن كل الحقائق الممكنة المسموح بها من قبل ميكانيكا الكم هي المراقبة التي نقوم بها في الواقع، بطريقة بحيث ميكانيكا الكم نفسها لا يمكنها التنبؤ بها.
يقول كينت: «أؤمن بنسبة 15% أن شيء ما في الوعي على وجه التحديد يسبب انحرافات في نظرية الكم، وربما أن هذا سيتم الكشف عنه تجريبيًا خلال السنوات الخمسين المقبلة».
وإذا حدث ذلك فهذا سيغير نظرتنا حول كل من الفيزياء والعقل، وهذه فرصة تستحق الاستكشاف.
- إعداد: سرمد يحيى
- تدقيق: دانه أبو فرحة
- تحرير: ناجية الأحمد
- المصدر