العلاقات التبادلية: هي علاقات ذات منفعة متبادلة بين الأنواع. تُعد العلاقات التبادلية بين النباتات والملقّحات مهمةً على وجه الخصوص، وتتضمن حوالي 170000 نوع نباتي و200000 نوع حيواني. توجد العلاقات التبادلية في كل مكان في الطبيعة. يتضمن هذا النوع من العلاقات بين الأنواع تبادل المؤن أو الخدمات بين نوعين يسميان الشريكين التبادليين. من خلال التعريف يجب أن يتلقى كلا النوعين المرتبطين بعلاقة تبادلية منفعة من العلاقة، وتأتي هذه المنفعة عادةً بتكلفة (Bronstein 1994).
مع ذلك لا يتلقى الشركاء التبادليون بالضرورة منافع متساوية أو يتعرضون لتكلفة متساوية، وبالرغم من أن تصرفات الشريك تفيد النوع الآخر بطريقة أو بأخرى، لا يتصرف أي من النوعين بإيثار. بدلًا من ذلك، يسعى كل نوع لمصلحته الأنانية، وأي فائدة يدفعها للشريك التبادلي هي نتيجة غير مقصودة لهذه العلاقة.
اعترف داروين بأن العلاقات التبادلية ليست إيثارية عندما كتب في كتابه في أصل الأنواع (1859): «أنا لا أعتقد بأن أي حيوان في العالم يعمل من أجل المصلحة الحصرية لنوع آخر منفصل عنه، ومع ذلك، يحاول كل نوع أن يستفيد من غرائز الآخرين».
يشترك العديد من الأنواع المختلفة من الكائنات الحية في علاقات تبادلية، لذلك تتنوع كثيرًا المؤن والخدمات المتبادلة، علاوةً على ذلك، تتنوع الآليات التي يتم من خلالها التبادل.
على سبيل المثال: تختلف العلاقات التبادلية بين النباتات الزهرية والملقّحات الحيوانية (الصورة الأولى) كثيرًا عن العلاقات بين أشجار السنط والنمل الذي يستوطنها ويحميها (Janzen 1966)، أو العلاقات بين النباتات والأنواع الفطرية التي تشكل الجذريات الفطرية mycorrhizae (van der Heijden and Horton 2009).
صعَّبت الطبيعة المتنوعة للعلاقات التبادلية تطوير نماذج رياضية كمية تنطبق على كل العلاقات التبادلية، مع ذلك، فقد طُوّرت نماذج كمية لأنواع محددة من العلاقات التبادلية (مثل العلاقات بين النباتات والملقّحات) (Mitchell et al. 2009).
هذه النحلة الطنانة تتغذى على أزهار نبات Dicentra cucullaria، ويمكنك رؤية اللقاح على الجانب السفلي من النحلة.
علاقات التلقيح التبادلية
تُعد العلاقات التبادلية بين النباتات والملقّحات أمثلةً جيدة على العلاقات التبادلية؛ لأن ما يقرب من ثلاثة أرباع النباتات الزهرية الموجودة حاليًا (كاسيات البذور) تتلقى خدمة التلقيح من الحيوانات (المجلس الوطني للبحوث 2007).
يُعد التلقيح بواسطة الحيوانات الشكل القديم للتلقيح في كاسيات البذور (Hu et al. 2008)، ويُعزى التنوع السريع الذي حدث للنباتات الزهرية قبل ٩٠-١٣٠ مليون عام إلى العلاقات التبادلية الخاصة بعملية التلقيح (كربت 2008).
يشيع النحل والفراش والعث والذباب والدبابير والخنافس من الحشرات التي تقوم بالتلقيح (المجلس الوطني للبحوث 2007). ومن الجدير بالذكر: تُعتبر العديد من الطيور والخفافيش أنواعًا ملقحةً مهمة أيضًا.
تتلقى النباتات دائمًا خدمات التلقيح من خلال العلاقات التبادلية، ولكن تتنوع المؤن والخدمات التي تتلقاها الحيوانات الملقحة، إذ تتلقى أغلب الملقحات الحيوانية الطعام على شكل لقاح أو رحيق، ولكن بعض النحل يستعمل الشمع والراتنج أيضًا من الأزهار لبناء خلاياه (Michener 2007). وتستعمل ذكور نحل السحلب مركبات متطايرة من أزهار الأوركيد عطرًا لجذب الجنس الآخر (Zimmermann et al. 2006).
تضع بعض أنواع الحشرات مثل عث اليكة بيوضها داخل أزهار اليكة التي تلقحها، وتُستهلك بعض البذور الناتجة -لا كلها- لتغذية يرقات العث النامية (Pellmyr 2003).
ظلت العلاقات التبادلية الخاصة بعملية التلقيح محل اهتمام علماء الأحياء لأكثر من قرن. تناول داروين أهميتها المحتملة في عملية الانتقاء الطبيعي عندما كتب: «أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن تصبح زهرة ونحلة -ببطء إما بشكل متزامن أو واحدة تلو الأخرى- معدلتين ومتكيفتين بأفضل طريقة ممكنة لبعضهما، عن طريق المحافظة المستمرة على الأفراد الذين يظهرون انحرافات متبادلة وإيجابية قليلًا في التركيب». (Darwin 1859).
كانت الدراسات التقليدية لعملية التلقيح منصبّةً على دورات تكاثر الأنواع النباتية، مع تجاهل الملقحات إلى حد بعيد بدلًا من تناول أهميتها باعتبارها ناقلات للقاح. أخذت هذه الدراسات عادةً أحد النهجين: إما أنها ركزت على النتائج التطورية لديناميات التلقيح أو أنها ركزت على العمليات البيئية التي أدت إلى التلقيح.
تحاول البحوث الحالية في بيولوجيا التلقيح الانضمام إلى المناهج البيئية والتطورية باعتبارها طريقة لفهم العمليات التطورية في السياقات البيئية التي تحدث فيها؛ على سبيل المثال: كيفية تأثير سلوكيات الملقحات الباحثة عن الطعام على كفاءة النبات بواسطة تحديد أنظمة تزاوج النباتات (Mitchell et al. 2009).
تميَّز العلاقات التبادلية غالبًا بحسب نوع المؤن والخدمات المتبادله، لكن توجد طرق أخرى عديدة لتمييز هذه العلاقات: حسب درجة الاعتماد، ما إذا كانت العلاقة إجباريةً أو اختياريةً، وحسب درجة التخصص، ما إذا كانت العلاقة تحدث بين نوعين فقط أو بين مجموعة من الأنواع؛ وحسب درجة الترابط الجسدي (درجة اقتراب الشركاء التبادليين من بعضهم).
وتشتمل هذه الطرق الثلاثة للتمييز على طرق وسيطة. بصرف النظر عن الطريقة المستخدمة، فإن من المهم مراعاة منظور كل شريك تبادلي عند تمييز العلاقة.
العلاقات التبادلية الإجبارية والعلاقات الاختيارية
تكون العلاقة إجباريةْ عندما يعتمد أحد النوعين بشكل كامل على النوع الآخر في المؤن أو الخدمات، فمثلًا، يمتلك عث اليكة ونبات اليكة علاقةً إجباريةً متبادلةً؛ إذ لا يستطيع النبات تكوين البذور دون عث اليكة، وتصل يرقات العث إلى البلوغ فقط عند تناولها بذور اليكة النامية (Pellmyr 2003).
لا يعتمد الشركاء التبادليون بالضرورة على بعضهم بالتساوي. على سبيل المثال، يعتمد العديد من أنواع النباتات ثنائية الجنس بشكل كامل على الملقحات الحيوانية من أجل نجاح عملية التكاثر. لذا تُعتبر العلاقة إجباريةً من منظور النبات.
ومع ذلك فإن الأنواع الملقِّحة التي تزور الأزهار قد تحتاج وقد لا تحتاج للقاح أو الرحيق من تلك الأنواع النباتية لتعيش وتتكاثر، لذا يمكن أن تتراوح العلاقة من وجهة نظر الملقِّح بين الإجبارية والاختيارية.
بشكل مشابه يعتمد أغلب النحل في جميع احتياجاته على نواتج الأزهار (الرحيق واللقاح والشمع… الخ)، لذا تُعتبر العلاقة إجباريةً من منظور النحل. ومع ذلك تستطيع أغلب أنواع النحل استخدام منتجات كثير من النباتات الزهرية، لذا ليس للنحل بالضرورة علاقات إجبارية مع أنواع نباتية مفردة.
على النقيض من ذلك، تُعد بعض أنواع النباتات الخنثى متطابقةً ذاتيًا وقادرةً أيضًا على التلقيح الذاتي، لذا تستطيع إنتاج البذور سواء زارتها الملقحات أم لم تزُرها.
فالعلاقة التبادلية اختيارية من منظور هذه النباتات بالرغم من انخفاض جودة البذور المنتجة بالتلقيح الذاتي مقارنةً بتلك المنتجة بالتلقيح الخلطي (Barrett 2003)، لذا تبقى هذه النباتات مستفيدةً من العلاقات التبادلية مع الملقحات.
العلاقات المتخصصة والعلاقات الواسعة
في مخطط شبكة التلقيح هذا، تمثل كل دائرة نوعًا حيوانيًا، ويمثل كل مربع نوعًا نباتيًا. تدل الخطوط التي تربط الدوائر والمربعات على علاقات تلقيح بين تلك الأنواع. لاحظ أن بعض الأنواع يمتلك شركاء تبادليين أكثر من غيره.
تُعد درجة التخصص طريقةً أخرى لتمييز العلاقة التبادلية. تندر العلاقات التبادلية عالية التخصص التي تتكون حصرًا بين نوعين (كالعلاقة بين نبات التين ودبور التين)، إذ تلقح إناث دبور التين البالغة أزهار نبات التين أثناء وضع بيوضها داخل نورات نبات التين المتخصصة.
تفقس البيوض وتستهلك يرقات الدبور بعض بذور التين لا كلها. هناك تقريبًا 700 نوع من التين، وفي أغلب الحالات يلقَّح كل نوع بواسطة نوع واحد فقط أو أنواع قليلة من الدبابير (Cook & Rasplus 2003).
على النقيض من ذلك تكون أغلب العلاقات التبادلية واسعةً نوعًا ما؛ يُلقَّح كل نوع نباتي بأنواع حيوانية متعددة، ويلقِّح كل نوع حيواني أنواعًا نباتيةً متعددةْ.
ومع ذلك تمتلك بعض الأنواع العديد من الشركاء التبادليين، مثل نحل العسل Apis mellifera المعروف بزيارته لأزهار مئات الأنواع النباتية بما فيها المزروعة والبرية (المجلس الوطني للبحوث 2007). والمنغروف الأبيض Laguncularia racemosa الذي يزور أزهاره 65 نوعًا على الأقل من الحشرات المختلفة (Landry et al. 2005).
تشيع العلاقات التبادلية الواسعة في المجتمعات المحلية، وتنتج عنها شبكات تلقيح تتألف من العديد من الأنواع النباتية والحيوانية المرتبطة معًا بعلاقات تبادلية (الصورة الثانية).
العلاقات داخلية الموطن والعلاقات خارجية الموطن
يمكن أن تتميز العلاقات التبادلية أيضًا بناءً على درجة الترابط الجسدي الذي يحدث بين الأنواع. تُعد أغلب علاقات التلقيح خارجية الموطن؛ لأن الملقحات تعيش بشكل منفصل عن النباتات التي تلقحها.
ومع ذلك تعيش بعض الملقحات داخل النباتات التي تلقحها لفترة من حياتها، وهذه علاقة داخلية الموطن. تُعد دبابير التين ونباتات التين (Cook & Rasplus 2003)، وعث اليكة ونبات اليكة (Pellmyr 2003) أمثلةً جيدةً على هذا النوع النادر جدًا من العلاقات.
يكون تمييز العلاقات التبادلية الأكثر محدوديّةً مترابطًا، وتميل العلاقات داخلية الموطن أيضًا إلى أن تكون عالية التخصص وإجباريةً. ومع ذلك ليس بالضرورة أن تكون العلاقات خارجيةُ الموطن اختياريةً أو واسعةً.
العلاقات التبادلية والأنواع الأخرى من العلاقات بين الأنواع
لتحديد ما إذا كانت العلاقة تبادليةً أم لا، لا بد من تحديد الفائدة التي يحصل عليها كل شريك تبادلي. تفاصيل العلاقة مهمة؛ لأن من الممكن أن يغش شريكٌ الشريك الآخر، وإذا حصل ذلك، لا تكون العلاقة تبادليةً.
مثال شائع على الغش: عندما تأخذ حشرة حاجتها من الرحيق دون تلقيح الأزهار (Darwin 1859, Michener 2007). تستهلك الحشرة الرحيق، لذلك تُدعى هذه العلاقة التغذي على الرحيق nectivory، وهي نوع خاص من التغذية النباتية (نمط غذاء الحيوانات العاشبة). وتُسمى الحشرة غالبًا (لص الرحيق).
من ناحية أخرى، يحدث بشكل أقل شيوعًا أن تخدع النباتاتُ الملقحاتِ الحيوانيةَ من أجل الحصول على خدمات التلقيح. على سبيل المثال: تخدع بعض أنواع الأوركيد ملقحاتها من ذكور الدبابير عن طريق إنتاج أزهار تشبه في شكلها ورائحتها إناث الدبابير.
تقدم ذكور الدبابير خدمات التلقيح أثناء محاولتها التزاوج مع الأزهار التي تبدو مثل إناث الدبابير (Gaskett et al. 2008). تُعتبر هذه العلاقة نوعًا من التطفل؛ لأن الدبابير تصرف طاقةً (وأحيانًا نطفًا) عند تقديمها لخدمات التلقيح، ولكن لا تتلقى أي فائدة في المقابل.
شبكات التلقيح
يمكن للعلاقات التبادلية الخاصة بالتلقيح أن تؤثر على نتائج الأنواع الأخرى من العلاقات بين الأنواع. تخيل هذا المثال البسيط: لديك نوعان نباتيان يلقحان بواسطة الحيوانات، ولديك نوع حيواني ملقح واحد.
إذا أزهر النوعان النباتيان بشكل متزامن، فسوف يتنافسان مع بعضهما على خدمات التلقيح. وإذا كان الحيوان الملقح يفضل أحد النوعين على الآخر، فستكون هناك أفضلية تنافسية للنبات المفضل على النوع الثاني.
لكلا النوعين النباتيين علاقات تبادلية مع الملقح الحيواني، لكن تؤثر الكفاءة النسبية لكل علاقة تبادلية على نتيجة العلاقة التنافسية بين النوعين النباتيين.
تتضمن أغلب المجتمعات المحلية نباتات زهرية وملقّحات حيوانية أكثر بكثير من الأعداد الممثلة في هذا المثال، ما ينتج شبكةً من العلاقات التبادلية بين النباتات والملقّحات.
أظهرت الأبحاث الحديثة عدم جدوى شبكات التلقيح باعتبارها إطارًا لطرح أسئلة عن العمليات البيئية والتطورية التي تقود للأنماط المشاهدة من التنوع الأحيائي (Bascompte & Jordano 2007, Vasquez et al.2009).
تمثيل بصري لنوعين نباتيين (النوع A والنوع B) يتنافسان على خدمات التلقيح الخاصة بنوع ملقّح. لكل نبات علاقة تبادلية مع الملقح (العلاقات المفيدة مميزة بعلامة +)، لكن يؤثر تفضيل الملقح للنوع النباتي A (الممثل بأسهم أكثر كثافة) بشكل سلبي غير مباشر (-) على النوع النباتي B بسبب التنافس على خدمات التلقيح.
الآثار الاقتصادية
يعتمد الإنسان على الحشرات الملقحة في ثلث الطعام الذي نأكله تقريبًا، ويقدم نوع واحد أغلب خدمات التلقيح الضرورية، نحل العسل الأوربي Apis mellifera (Klein et al. 2007).
تُعد هذه الحشرات غالبًا نوعًا غازيًا من قبل علماء البيئة؛ لأنها انتشرت بشكل واسع بواسطة البشر، وهي قادرة على جمع كميات هائلة من نواتج الأزهار واستغلالها (Buchmann 1996).
عانى نحل العسل من عدد من الأمراض خلال العقود القليلة الماضية، من ضمنها غزو السوس والإصابات الفيروسية وانخفاض الوظيفة المناعية، ومؤخرًا عانى من اضطراب انهيار المستعمرة (Ratnieks & Carreck 2010).
بينما يستمر علماء الأحياء في البحث عن حلول للمشاكل التي تفتك بمستعمرات نحل العسل الأوربي، يحقق علماء البيئة المتخصصون بالتلقيح أيضًا في إمكانية استعمال النحل البري لتلقيح المحاصيل الزراعية (Richards 1996).
اقرأ أيضًا:
ما هو التكاثر اللاجنسي ؟ وكيف يحصل؟
كيف تحصل عملية التلقيح في النباتات ؟ آلية التلقيح
وأخيرًا، أصبحنا نعرف شكل أول زهرة على الأرض
ترجمة: عمار عبيد
تدقيق: سلمى توفيق
مراجعة: تسنيم الطيبي