وجدت دراسة جديدة أن عمال المناجم من السكان الأصليين فيما يعرف الآن بشبه جزيرة يوكاتان في نهاية العصر الجليدي الأخير، غامروا بحياتهم -داخل كهوف مظلمة لا تضيئها إلا نيرانهم- لاستخراج معدن ثمين.
لم يكن هذا المعدن الذهب أو الماس بل كان المغرة الحمراء، وهي طلاء شبيه بالطباشير استخدمه البشر قبل التاريخ في الشعائر الدينية والنشاطات اليومية مثل الرسم على الصخور وشعائر الدفن وطرد الحشرات.
لا نعرف بالضبط كيف استخدم السكان الأصليون لشبه جزيرة يوكاتان المغرة. فبعد تعدينهم للكهوف منذ ما يتراوح بين 10000 و12000 سنة، غرقت الكهوف بانتهاء العصر الجليدي وارتفاع منسوب مياه البحر. لكن المياه الراكدة في الكهوف حافظت على مخيمات عمال المناجم -وأبقت حتى رماد نيرانهم- فسمحت لعلماء الآثار أن يعرفوا بالضبط طريقة استخراج المعدن.
تقول براندي ماكدونالد واضعة الدراسة الرئيسية وأستاذة البحث المساعدة في مختبر علوم الآثار في مفاعل أبحاث جامعة ميسوري: «هذا الموقع بمثابة كبسولة زمنية تحت الماء، ويتيح لنا فرصة نادرة جدًا لرؤية شيء محفوظ بهذه الطريقة المدهشة».
اكتشف غواصو الكهوف المناجم القديمة هذه في أبريل سنة 2017، عندما اكتشف «فريد ديفوس» أحد المشاركين في الدراسة وغواص من مركز أبحاث أنظمة المياه الجوفية لولاية كينتانا رو «سينداك» وهي مجموعة محلية مهتمة بالحفاظ على البيئة، اكتشف ممرًا لم يُسَجل سابقًا ضمن مجموعة كهوف ساجيتاريو.
قادت الممرات الموجودة تحت الماء الغواصين إلى مجموعات فريدة من آثار تعدين مناجم العصر الحجري تضمنت أدوات وحُفرًا وعلامات على الصخور يُرجَّح أن عمال المناجم تركوها لترشدهم إلى طريقهم في الكهوف المظلمة. وبعد دعوة عالم الآثار الجيولوجية إدوارد راينهارديت من جامعة ماكماستر في كندا وهو أحد المشاركين في الدراسة إلى رحلة غوص داخل هذه الممرات، بدأ فهم مجموعة البحث لتاريخ هذه الكهوف يصبح أكثر وضوحًا، بحسب سامويل ميتشام، مشارك آخر في الدراسة ومؤسس مركز أبحاث سينداك، الذي رافق ديفوس في أول رحلة غوص داخل الممرات الغامضة.
قضى ميتشام مع زملائه أكثر من 25 عامًا يغوصون في مجموعة كهوف كينتانا رو. ويعرف العلماء أن هذه الكهوف قد استُكشِفَت منذ سكن البشر تلك المنطقة، لأن الغواصين استخرجوا هياكل عظمية بشرية من كهوف عديدة، من ضمنها كهوف هويو نيجرو وتشان هول بحسب مارك هوب أستاذ الأنثروبولوجيا من جامعة ولاية أوهايو الذي لم يشارك في الدراسة. لكن عجز العلماء مع هذا عن تفسير بعض الاكتشافات التي توصلوا إليها.
يقول ميتشام لمجلة لايف ساينس (Live Science): «وجدنا على مدار السنين أشياء غريبة داخل الكهوف لم نتمكن من تفسيرها، مثل صخور موضوعة في غير أماكنها، وأحجار مرصوصة فوق بعضها وأشياء لم يبد شكلها طبيعيًا، لكننا لم نجد تفسيرًا منطقيًا لها».
أصبح عند الغواصين وعلماء الآثار الآن تفسير واحد على الأقل. فبعد أن تواصل الغواصون مع مجموعة من علماء الآثار وزودوهم بآلاف الصور والعينات التي جمعوها من الكهوف، بات الدليل واضحًا على أن هذه الكهوف كانت مناجم قديمة. بحث فيها بشر ما قبل التاريخ عن معدن المغرة، وكانوا يصنعون أدواتهم من كل الأحجار ذات الحجم المناسب التي يجدونها في طريقهم، ومن ضمنها صواعد الكهوف المكسورة التي تبرز من الأرض والنوازل المتدلية من السقوف، التي استخدمها السكان الأصليون في طَرْق أحجار التدفق وتقطيعها وتحطيمها، وهي رواسب معدنية على شكل رقائق تغطي المغرة.
تعدين المغرة
قد تكون هذه الكهوف مغطاة بالماء في وقتنا الحالي، لكن منذ ما يتراوح بين 8000 و21500 سنة كانت مجموعات كهوف كاميلو مينو ومونكي دَست وساجيتاريو جافة ويمكن المشي فيها، مع أن دخولها كان محفوفًا بالمخاطر.
كتب الباحثون في دراستهم: «كان السكان الأصليون داخل هذه المناجم يمشون عبر الممرات المظلمة -التي خلت من أي مصدر ضوء طبيعي- مخاطرين بسقوط شيء ما على رؤوسهم، عابرين المناطق الضيقة في ساجيتاريو، تفصلهم عن الضوء الطبيعي مسافة قد تصل إلى 650 مترًا».
جمع الغواصون عينات من المغرة، وبلورات الكالسيت -بلورات شريطية الشكل تتكون في المياه الراكدة- والفحم ليحللها العلماء ويُقدِّروا عمرها. احتوت المغرة على أكاسيد حديدية عالية النقاء، وهذا يعني أنها كانت تصلح لصناعة صبغة حمراء ذات لون حيوي وحبيات دقيقة.
قدَّر الفريق عمر نشاطات التعدين باستخدام الكربون المُشِع الموجود داخل الفحم، وبحثوا عن بقايا بلورات الكالسيت التي تكوَّنت بعد نشاطات التعدين، وراجعوا نسب ارتفاع مستويات البحر المُسجَّلة. وتوصلوا إلى أن السكان الأصليين قد استخرجوا المعادن من الجزء الغربي من مجموعة الكهوف منذ ما يتراوح بين 10700 و11400 سنة، في الفترة الانتقالية بين عصر البليستوسين (العصر الحديث الأقرب) والعصر الهولوسيني.
تقول ماكدونالد: «يدل هذا في رأيي على درجة مُعيَّنة من الخبرة المُتوارَثة بين الأجيال، توجد استمرارية في ممارسة أعمال التعدين، حصلت أعمال التعدين أيضًا في موقعين آخرين على الأقل ضمن مجموعة الكهوف، فمن الممكن أن تكون قد مورست على نطاق المنطقة كلها».
لماذا مارس السكان أعمال التعدين؟
لا نعرف بالضبط سبب استخدام السكان الأصليين للمغرة، تقترح بعض الدراسات السابقة استخدامهم لها لأغراض مثل: الوقاية من الشمس والطعام وطرد حشرات القُرَّاد والقمل. وقد تكون استُخدمت أيضًا في الدباغة وصناعة الأدوات والقضاء على الطفيليات.
احتوت المغرة التي استُخرِجَت من لا مينا وكاميلو مينو على نسب عالية من الزرنيخ، تقارب 4000 جزء في المليون. تقول ماكدونالد: «تفوق هذه النسبة بكثير نسبة الزرنيخ التي تسمح بها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في زجاجات المياه المعدنية مثلًا، فالزرنيخ سم عصبي معروف لطرد الحشرات، وقد يكون هذا هو سبب استخدام السكان الأصليين له. من يعلم؟ ربما كان غرضهم الوحيد فعلًا استخراج كميات كبيرة من المبيد الحشري».
يقول هوب في رسالة إلكترونية إلى مجلة لايف ساينس: «مهما كان الغرض من استخدام المغرة، فقد أثبتت هذه الدراسة أن المجموعات البشرية الأولى في الأمريكيتين كانت تمارس نشاطات معقدة تخطَّت الحفاظ على بقائها، تدل أعمال تعدين الكهوف على وجود معنى اجتماعي مهم لهذا المعدن، ومع أننا لم نستطع معرفة سبب استخدامهم له حتى الآن فإننا على يقين أنه كان قيمًا جدًا بالنسبة لهم».
نُشِرَت هذه الدراسة في 3 يوليو في مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances).
اقرأ أيضًا:
اكتشاف السر وراء لغز دوائر المحاصيل تحت الماء
هناك قارة مفقودة مختبئة تحت أوروبا
ترجمة: شريف فضل
تدقيق: وئام سليمان
مراجعة: صهيب الأغبري