شكل الحجم الصغير لبعض سلالات الكلاب سرًّا حاول الباحثون فهمه فترة طويلة، لكن اتضح مؤخرًا أن هذا الحجم الصغير عند بعض سلالات الكلاب مثل التشيواوا والبوميرانيان ناجم عن طفرات جينية بدأت بالظهور قبل أن يبدأ البشر بترويض الكلاب، بل حتى أنهم استطاعوا اكتشاف هذه الطفرات عند ذئاب عاشت قبل أكثر من 50 ألف سنة.
استطاع الباحثون تحديد موقع هذه الطفرات بدقة، إذ وُجدَت الطفرة في الجين المعبر عن عامل النمو الشبيه بالإنسولين-1 (IGF1) وذلك في أثناء دراسة أُجريت ضمن مشروع جينوم الكلاب التابع لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، وهو مشروع جماعي يجمع الباحثون فيه عينات من الحمض النووي للكلاب الأليفة، وتبين عبر البحث أن الطفرة غير موجودة تمامًا على جين عامل النمو الشبيه بالإنسولين-1، إنما على جزء من الحمض النووي مجاور له والمسؤول عن تنظيم التعبير عنه. وبعد استشارة باحثين إنجليز وألمان، اكتشف الباحثون أن هذه الطفرة موجودة في الحمض النووي لأحافير تعود إلى الذئاب السيبيرية التي تُسمى بذئاب السهوب منذ 54 ألف سنة إضافة إلى جميع عينات الحمض النووي المأخوذة من مختلف أفراد الكلبيات الحديثة مثل ابن آوى وذئب البراري والكلب البري الأفريقي.
وضحت إيلين أوستراندر، الباحثة المشرفة على هذه الدراسة وعالمة الوراثة المتخصصة بالكلاب في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية: «يبدو الأمر وكأن الطبيعة خبأت لنا هذه المعلومات في جعبتها عشرات الآلاف من السنين إلى حين نحتاجها، إنه اكتشاف يساعدنا على ربط معرفتنا عن ترويض الكلاب بحجم جسدها».
طفرة غير اعتيادية
لفهم أفضل لمدى تأثير الجينات على الحجم، نحتاج لمعرفة ماهية الجينات. في الواقع، تُعَد الجينات قطعًا محددةً من الحمض النووي التي تُشكل حجر الأساس لبناء بروتينات الكائن الحي المختلفة، ويتشكل كل جين من تركيبة فريدة من مركبات أصغر تُدعى الأسس النكليوتيدية، وهي الأدنين والسيتوزين والغوانين والثايمين، ولاصطناع بروتين من هذه الجينات، تبدأ الخلايا بفك شريطي الحمض النووي، وذلك لقراءة تسلسل الأسس النكليوتيدية المقابلة لهذا الجين، وينتج بعد عملية القراءة بواسطة عملية خاصة نسخة من الحمض النووي تُدعى الحمض النووي الريبوزي، وهو جزيء مشابه للحمض النووي، إلا أنه يختلف عنه بأنه مكون من شريط مفرد إضافةً لاختلاف في السكر المكون له فهو يتكون من الريبوز بدلًا من الريبوز منقوص الأوكسجين في الحمض النووي، وينتج أيضًا عن عملية النسخ هذه استبدال أساس الثايمين في الحمض النووي باليوراسيل في الحمض النووي الريبوزي، وهذا ما يُعرَف بالانتساخ.
تتوضع هذه الطفرة في الجزء من الحمض النووي المجاور لموقع جين عامل النمو الشبيه بالإنسولين-1 التي تُعَد كما ذكرنا سابقًا مسؤولة عن تنظيم التعبير عنه وهي ما يؤثر على حجم الكلاب. من المعروف أن جسد الكائن الحي يملك أليليْن من كل جين، أي نسختين. يملك واحد من الأليليْن أساس سيتوزين C إضافي، وهو ما اتضح أنه مسؤول عن التعبير عن حجم أصغر لجسد بعض سلالات الكلاب، بينما امتلك الآخر أساس ثايمين T إضافي وهو مسؤول بدوره عن التعبير عن حجم أكبر لبعض لسلالات الكلاب، ومن المعروف أن كل كائن حي يكتسب هاتين النسختين من أبويه، نسخة من كل أب، وهذا ما يضعنا عند التفكير بحجم الكلب أمام ثلاثة احتمالات:
- إما أن يحصل على نسختي الأليل المسؤول عن حجم صغير CC.
- أو أن يحصل على نسخة من كل أليل CT.
- أو أن يحصل على نسختي الأليل المسؤول عن حجم كبير TT.
وقد درس الباحثون الحمض النووي لمختلف سلالات الكلاب، ووجدوا ارتباطًا وثيقًا بين آليلات هذا الجين وحجم جسمها، إذ كانت الكلاب صغيرة الحجم CC، ومتوسطة الحجم CT، وكبيرة الحجم TT.
متى بدأ هذا التضاؤل؟
بعد اكتشافهم لهذه الطفرة ودورها في تحديد حجم جسم سلالات الكلاب، أراد باحثو معاهد الصحة الوطنية الأمريكية تحديد تاريخ بدءها في السلسلة التطورية للكلبيات، هذا ما دفعهم إلى البحث عن الطفرات في عينات حمض نووي لذئاب قديمة من مشاريع جينوم سابقة، وعبرت أوستراندر عن دهشتها من النتائج: «لقد صُدمنَا باكتشاف هذين الأليلين في حمض نووي يعود لكائنات عاشت قبل أكثر من 54 ألف سنة، وجاءت نتائج هذه الدراسة مخالفة لتوقع الباحثين الذين اعتقدوا أن الأليل المسؤول عن الحجم الأصغر حديث نسبيًا.
كان من الواضح امتلاك طفرة جين عامل النمو الشبيه بالإنسولين-1 دورًا هامًا في تطور كلاب أصغر مثل ابن آوى وذئب البراري والكلب البري الأفريقي التي امتلكت جميعها الأليلين المسؤولين عن الحجم الأصغر CC. مع ذلك، فمن غير المرجح أبدًا حدوث التطور نحو حجم أصغر بانتقاء طبيعي دون تدخل البشر للتربية والترويض، وتوضح أوستراندر: «رغم وجوده منذ زمن بعيد، إلا أن الأليل المسؤول عن الحجم الأصغر C بقي موجودًا بنسب قليلة بين أفراد سلالات الكلاب مدة عشرات آلاف السنين إلى أن بدأ البشر ترويض وتهجين الكلاب. إذ تم انتقاء الكلاب الأصغر حجمًا، وجاء تهجين هذه الكلاب وانتقاء الصغيرة منها في محاولة لإكثار الكلاب ذات البنية الصغيرة التي كان باستطاعتها اصطياد فرائس صغيرة مثل الأرانب، ووفقًا للباحثين، فقد ظهرت أولى سلالات الكلاب صغيرة الحجم نسبيًا، التي هُجنت وانتُقيت لاحقًا لإنتاج الكلاب الصغيرة جدًا التي نعرفها حاليًا، بين 7000-9500 سنة.
فهم أعمق لحجم سلالات الكلاب
رغم دورها الكبير في تحديد حجم الجسد، فإن طفرة جين عامل النمو الشبيه بالإنسولين-1 لا تعد الوحيدة المؤثرة على ذلك، إذ يوجد ما لا يقل عن 20 جينًا آخر ذا دور أقل في تحديد حجم الجسد من جين IGF-1 المسؤول وحده عن 15% عن الحجم، وهي نسبة كبيرة جدًا على جين واحد إذا ما قارناها بعدد الجينات المسؤولة عن تحديد حجم جسم البشر التي يُقدَر عددها بالمئات، لكنه على وصف أوستراندر أمر مُبرَر نظرًا لأن معظم سلالات الكلاب هذه وُجدَت حديثًا منذ بضع مئات السنين فقط.
ما يزال الباحثون في عملية بحث مستمرة عن الجينات المؤثرة على حجم سلالات الكلاب وذلك للوصول إلى فهم تام لكيفية تفاعل هذه الجينات معًا للتعبير عن حجم محدد لكل سلسلة من كلاب التشيواوا إلى الكلب الدنماركي الضخم، وتختم أوستراند: «هدفنا القادم في هذه الدراسة هو تحديد كيفية عمل هذه الجينات سوية لإعطاء كلاب صغيرة الحجم أو كبيرة، وجميع التنوعات بينهما».
اقرأ أيضًا:
الكلاب مهيئة منذ ولادتها لفهم البشر
هل نباح الكلاب يقابل الكلام عند البشر؟
ترجمة: محمد أديب قناديل
تدقيق: أمنيه يسري محمد
مراجعة: نغم رابي