شيءٌ من عدم: الكون ونظرية الكم وطبيعة الواقع العجيبة
الجزء الأول: الطريق إلى نظرية الكم
شهد الربع الأوّل من القرن العشرين ثورةً كبيرةً في عالم الفيزياء انبثق عنها نظريتان؛ الأولى هي النظريّة النسبيّة العامّة، التّي تحكم قوة الجاذبيّة وبالتّالي الأبعاد الكبيرة، أمّا الثانية، التّي هي موضوعنا هنا، فهي النظريّة المعروفة باسم نظرية الكمّ (Quantum Theory)، وهي النظريّة الفيزيائيّة التّي تُعنى بقوانين الفيزياء التّي تحكم الأجسام الصغيرة جدًا، مثل الذرّة ونواتها.
تمخّضت نظريّة الكمّ عن واقعٍ غريبٍ جدًا، بعيدٍ كلّ البُعد عن فهمنا السليقي للطّبيعة وقوانينها، وأدّت إلى شرخٍ كبيرٍ بين علماءِ الفيزياء حول فهمهم للواقع الموضوعي ومعناه. على الرغم من هذا النقاش الكبير، تعدّ نظرية الكم أدّق نظريةٍ فيزيائيّةٍ عرفها البشر في تاريخهم، فهي تتفّق مع القياسات لبعض المقادير الفيزيائيّة (مثل عزم الإلكترون المغناطيسي) بدقة واحدٍ على مائة مليار، وهي دقّة تعادل قياس المسافة بين القدس وباريس بدقةٍ أكبر من سمك شعرةٍ واحدة!
تسمح نتائج هذه النظرية، وإن تبدو غريبة، بوجود الكون، وتُمكّن عمليّة الاشتعال التّي تضيء الشمس، وتحكم الذرّات والمركبات والدي-أن-إيه وغيرها ممّا لا يعدّ ولا يحصى من ظواهر فيزيائيّة وكيميائية وحتى بيولوجية.
تكمن هذه النتائج أيضاً وراء حياتنا المعاصرة المبنية على الاتصالات والإلكترونيات الحديثة والهواتف الذكية ونظام التموضع العالمي (GPS) وغيرها من الابتكارات الحديثة التّي نكاد لا نستطيع تخيّل حياتنا بدونها. تجدر الإشارة أن التقديرات تشير أن الصّناعات المرتبطّة بفيزياء الكمّ تشكّل اليوم أكثر من ٪30 من حجم الاقتصاد الأمريكي.
لا يناقش أي أحد في عالم الفيزياء صحّة الحسابات التّي تنتج عن نظريّة الكمّ، فكما ذكرت، دقتها تثير الدهشة والإعجاب. لكن الخلاف المركزيّ هو حول معناها وتداعياتها على فهم طبيعة الواقع وموضوعيته.
يُعتبر النقاش بين أينشتاين وبين العالم الدنماركي الشهير نيلس بوهر (Niels Bohr) ومؤيدو كلّ منهما من أشهر النقاشات التّي جرت حول هذا الموضوع.
يقف الخلاف في صلب هذا النقاش على الطبيعة الإحصائيّة (statistical) والاحتماليّة (probabilistic) لنظريّة الكمّ وإسقاطات قوانينها على معنى الواقع، وهو الأمر الذي رفضه أينشتاين بحدّة كاتبًا جملته الشّهيرة في رسالة إلى ماكس بورن (Max Born)، أحد عمالقة نظرية الكمّ، قائلًا: “أنا على قناعةٍ تامّة بأن [الله] لا يلعب النرد”.
سنعود إلى هذا النقاش وغيره لاحقًا، ولكني أودّ أن أشير إلى أن كثيرًا من الفيزيائيين يتجاهلون هذا النقاش ولا يفكرون فيه، بل يستعملون نظرية الكمّ بالرغم من عدم وضوح تفسيراتها. قال الفيزيائي الأمريكي ديفيد ميرمن (David Mermin) في تعبير عن هذا التوجّه السائد “اصمت وأحسب!” (!shut up and calculate)، معبًرا من خلاله عن الثقّة الكبيرة لعلماء الفيزياء بنتائج نظرية الكمّ وحساباتها والتقدّم الهائل الذّي نتج عنها في حلّ معضلاتٍ كثيرةٍ وفتح آفاقًا هائلةً أمام العلوم، ولكن أيضاً عن تجاهلهم المقصود للمعنى العميق لهذه النظرية ونتائجها المربكة في نفس الوقت.
إذًا فما هي هذه النظرية وما الغريب فيها وهل هناك حدود لتطبيقها؟
سوف أشرح في هذا المقال جذور نظريّة الكمّ، التاريخيّة والعلميّة، وأعرض نتائجها المهمّة، كما وسأسبر أعماقها وأتفحّص الواقع المربك الذي تصفه، وأذكر بعض التفسيرات الأساسية لها.
هدفي الأساسيّ من هذا المقال هو تفحّص علاقة إحدى النتائج الغريبة والتّي تظهر بشكلٍ طبيعي في نظرية الكمّ، وهي ما يسمى طاقة الفراغ (vacuum energy)، بنشأة كوننا قبل حوالي الـ 14 مليار عام، والانتشار المتسارع الذي نرصده في الكون في الحقبة الحالية!
جسمٌ أم موجة؟
دفع نجاح الفيزياء الكلاسيكيّة (الميكانيكا النيوتونيّة، نظريّة الأمواج ونظريّة الكهرومغناطيسيّة) الكبير في نهاية القرن التاسع عشر بالكثيرين إلى الظّنّ بأنّنا نفهم كل شيء عن القوانين الأساسيّة للطبيعة، وما تبقى للفيزيائيين هو فقط “استكمال بعض التفاصيل” (يعزى هذا القول خطأ للورد كلفين، أحد أكبر فيزيائيو القرن التاسع عشر).
كانت الثقّة بهذه الفيزياء كبيرة لدرجة أنّه كان هناك اعتقادٌ سائدٌ بأنّ الفيزياء هي موضوع “ميت” لأنّه لا يحمل في طياته أسئلة تدعو لأبحاث جدّية تكشف عن حقائق أساسيّة جديدة حول الطبيعة، فكلّ شيء مفهوم في قوانينها.
لم يكن أحد في حينه يحلم بحجم عواصف التّغيير العاتيّة التي ستحصل في بداية القرن العشرين والتّي ستغيّر كل ما نعرفه عن الطبيعة وقوانينها.
أتتنا هذه الّتغييرات بالنظريّة النسبيّة العامّة والخاصّة ونظريّة الكمّ التّي هي موضوعنا هنا. دعونا بدايةً نفحص ما هي جوانب الفيزياء الكلاسيكيّة المهمّة التي تتحداها نظريّة الكم وما هي التّغيرات التّي كان على العلماء التعايش معها.
هناك فرقٌ واضحٌ في الفيزياء الكلاسيكيّة بين الجسم والموجة. الجسم المادي هو عبارة عن تجمّع مادة يشغل حيّز ذو امتداد في الفراغ وله كتلةٌ معينةٌ، واعتبر أغلب علماء الفيزياء الكلاسيكيّة بأنّنا نستطيع تجزئة الأجسام الماديّة إلى جسيماتٍ صغيرةٍ نقطيّةٍ تقريبًا (corpusculism أو atomism)، وهي فكرةٌ تعود أساسًا للفيلسوف اليوناني ديمقريطس.
قد يكون الجسم المادي، كالغاز مثلًا، منتشرًا في حيّزٍ معيّن، ولكننا نستطيع مبدئيًا على الأقل، أن نحدّد مكان وسرعة كل جسيم من مركباته بدقةٍ كبيرةٍ جدًا، حتى لو كان هذا الجسم متناهيًا في الصّغر.
تحكم الأجسام بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة قوانين نيوتن وتحدّد حركتها بدقّةٍ كبيرةٍ، وهي قوانينٌ حتميّةٌ (deterministic laws) تتعامل مع الطّبيعة كآلةٍ ميكانيكيّةٍ كبيرةٍ، تعمل مثل آلية ساعة اليد وعقاربها، أو كما تتحرّك كرات البلياردو. ينظر للجسم بناءً على ذلك بحسب ميكانيكا نيوتن بأنّه كيانٌ واضحٌ وحتميّ التصرّف.
دفعت هذه الحتميّة الميكانيكيّة في القرن الثامن عشر بالعالم الفرنسي الكبير لابلاس بأن يقول إنّه إذا عرف كائنٌ ما مكان وسرعة كلّ جسمٍ في الكون بدقةٍ كبيرةٍ جدًا في لحظةٍ معيّنة، استطاع هذا الكائن بأن يتنبأ وضع الكون وكلّ ما فيه في أيّ لحظةٍ من الزمن في المستقبل (والماضي).
أطلق على مثل هذا الكائن اسم شيطان لابلاس (Laplace’s demon)، إنه هذا الجانب من ميكانيكا نيوتن الذي أثار حفيظة عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين تساءلوا: إذا كان كلّ شيءٍ محدّدًا بحسب قوانين الطبيعة الفيزيائيّة، فمن أين تأتي إذا الإرادة الحرّة؟ هل هذا يعني بأن الإنسان يعمل كالسّاعة التي حُدّد مصيرها سلفًا؟ (سأعود لهذا باقتضاب لاحقًا).
تعدّ الموجة في المقابل، اضطرابٌ يحمل طاقةً يتحرك في خلال وسطٍ مادي (كأمواج الصّوت) أو في الفراغ (كالأمواج الكهرومغناطيسيّة).
إنّ انتقال الموجة من مكانٍ إلى آخر هو انتقالٌ لا يحمل معه مادةً بل هو مجرد انتقال الاضطراب من مكانٍ إلى آخر. خذ حركة وتر العود مثلًا، فهي حركةٌ موجيةٌ تحدث نتيجةً للاضطراب الذي تحدثهُ ريشة العازف فيه، وعندما ينتقل هذا الاضطراب من مكانٍ لآخر على طول الوتر، يبقى الوتر مكانه.
للأمواج عادةٌ صفةٌ دورية، بحيث أنها تكرّر نفسها، وما يميّزها هو طول الموجة و ذبذبتها (عدد الأمواج التّي تمرّ في كلّ ثانيةٍ) اللتّان معًا تحدّدان سرعة انتشار الموجة.
إنّ تاريخ نظريّة الأمواج طويلٌ ومثيرٌ للاهتمام لا يسعني الحديث عنه هنا لضيق المجال، لكنّي أودّ الإشارة هنا إلى حقيقتين تتعلّقان بالضوء. لم يكن هناك اتفاقٌ حتّى بداية القرن التاسع عشر على ما إذا كان الضوء أمواجاً أم جسيمات، حتى أتى توماس يانغ (Thomas Young) وعرض في عام 1804 تجربة تداخل الضوء التي سأذكرها لاحقًا والتي أثبت من خلالها بأنّ الضوء موجة.
كان هناك اعتقادٌ راسخٌ، حتى بداية القرن العشرين، بأنّ الأمواج بحاجةٍ إلى وسطٍ معيّن حتى تنتشر من خلاله، كأمواج الماء والصّوت، لكن إذا كان الضوء موجةٌ، فما هو الوسط الذّي ينتشر من خلاله؟
اعتقد أغلب العلماء بأنّ هناك وسطًا غير مرئي سمّوه الأثير (نسبةً لعنصر فيزياء أرسطو الخامس)، والضوء هو مجرد اضطرابٍ في هذا الوسط. في الحقيقة، نحن نعرف منذ بداية القرن العشرين أنّه ليس هناك وسطًا كهذا وأنّ الضوء يستطيع الانتشار في الفراغ، لكن هذا جزءٌ من قصّةٍ أخرى سأتحدث عنها عندما أغطي تاريخ النظرية النسبيّة الخاصّة وأفكارها.
لنعد إلى موضوعنا. تختلف صفات الأمواج إذًا عن صفات الأجسام بشكلٍ جوهري. تصف الصورة المرفقة ما يسمّى بالموجة المستوية، وهي موجةٌ يميّزها وجود جبهة مستوية وعددٌ لا نهائي من القمّم والوديان.
إذًا، وبعكس الأجسام، نحن لا نستطيع أن نحدّد بدّقةٍ مكان الموجة المستويّة فهي تمتدّ على مسافاتٍ كبيرةٍ. فمثلًا، يمتدّ موقع الموجة التّي تصلنا من الشّمس من هنا حتى الشّمس ويستمر في الانتشار، وما يصل عيوننا هو جبهات موجة الضوء التي تؤثر على شبكيّة العين وتحفّز عصب النّظر.
تختلف القوانين التّي تحكم حركة الأمواج عن قوانين نيوتن (وإن كان بعضها مشتقًا من الميكانيكا الكلاسيكيّة)، وتعرف باسم معادلات الأمواج.
أذكر هنا، ببعضٍ من التّفصيل، ثلاثُ مميّزاتٍ للأمواج والتي سوف نحتاجها لاحقًا:
1- الانعكاس: وهي ظاهرةٌ تحدثُ مثلًا عندما تواجه الموجة عائقًا صلبًا كما يحدث في المرآة، أو حين تقع أشعة الشّمس على الأرض وتنعكس في كلّ الاتجاهات لتنير النّهار، وغيرها ممّا لا يحصى من ظواهر.
لكن الانعكاس يحدث في حالاتٍ عامّةٍ أكثر عندما تنتقل الموجة من وسطٍ إلى آخر (ليس بالضرورة عائق) كما يحدث عندما تنتقل أشعة الشّمس من الهواء إلى الماء، إذ عادةً ينتقل جزءٌ من الأشعة إلى داخل الماء و ينعكس جزءٌ آخر منها (في زوايا معيّنة تنعكس كل أشعة الشّمس).
ما يميّز الانعكاس أن الزاوية التي تنعكس بها جبهة الموجة تساوي الزاوية التّي تسقط بها على السطح الصلب أو الذّي يفصل بين الوسطين.
2- الحيود diffraction)). وهي ما يحدث للموجة عندما يواجهها عائقٌ معيّنٌ ذو بعدٍ محدود. تنعطف جبهة الموجة في مثل هذه الحالة فتتقدّم بشكلٍ منحنٍ (دائري) لتصل إلى خلف العائق. يبيّن الشّق اليميني من الرسم المرفق أعلاه موجةً مستويةً تأتي من يسار الرسمة، كما يبيّن السهم الأزرق، بحيث تواجه سدًا به شق ضيق.
يمرّ القليل من هذا الثقب الضيّق ويتصرّف كموجةٍ دائريةٍ مصدرها هذا الشّق. هذه هي ظاهرة الحيود. نرى هنا فرقًا أساسيًا بين الموجةِ والجسم، فالجسم لا يتصرف بهذا الشكل أبدًا! أو هذا على الأقلّ ما تعتقده الفيزياء الكلاسيكيّة.
اقتطعت الشّق اليساريّ من الصّورة المرفقة أعلاه من غوغل الكرة الأرضية (Google Earth) وهي صورةٌ لكاسحة أمواجٍ في ميناء حيفا. تظهر أمواج البحر كموجةٍ مستويةٍ، جبهتها واتجاهها تظهر في يسار الصورة ( يُشار إلى إحداها باللّون الأصفر).
تتغيّر هذه الموجة عندما تواجه العائق الحجري إلى جبهةٍ دائريةٍ كما يظهر في يمين الصورة والتّي يبيّن أحدها الخطّ الأحمر، كما أننا نرى جزءًا من الموجة يسير خلف الحاجز.
3- التّداخل (interference). وهي ما يحدث عندما تتقابل موجتان من نفس النوع معًا، فبعكس الأجسام التّي عادةً لا تخترق بعضها بعضًا، تستطيع الأمواج أن تتداخل مع بعضها بحيث تبني الموجة أختها حيث تتوافقان وتهدمها حيث تتعاكسان.
تبيّن الصورة المرفقة ما يعرف بتجربة يانغ (نسبة لِ Thomas Young) والذّي بيّن من خلالها أنّ الضوء عبارة عن موجة. نرى في الرسم موجةً مستويةً تتقدّم من اليسار إلى اليمين تواجه في مسارها شقّان صغيران.
يؤدي حيود الموجة بواسطة كلٍّ منهما إلى نشوء موجتان دائريتان مصدر كلّ منهما الشّقان الضيّقان الموجودان في الحاجز.
تتداخل هاتان الموجتان حين تعبران خلال بعضهما البعض بحيث تبني وتهدم أحدها الأخرى بحسب الموقع كما تبيّن المناطق البيضاء والسوداء في الرسم، أيّ أنّ التداخل عمليًا هو جمع موجتين مصدرهما كلٌّ من الشقين في تجربة يانغ.
تسمى هذه الظاهرة أيضا بمبدأ التراكب (superposition principle)، وهي صفة خاصّة بالأمواج فقط بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة، لأنّ الأجسام لا يمكن أن تتصرّف هكذا!
إذًا، الجسم والموجة بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة هما كيانان مختلفان يتصرّفان جوهريًا بشكلٍ مغاير. بقي هذا الفصل الواضح بينهما جليًا حتى بداية القرن العشرين الذّي أتى بمعطياتٍ جديدةٍ قلبت كل المعايير السابقة.
في الحقيقة، كانت الشّروخ قد بدأت تبدو واضحةً في مبنى الفيزياء الكلاسيكية الكبير، حتى في القرن التاسع عشر، فمثلًا، لم تتماهى المعادلات التّي تحكم الكهرومغناطيسيّة (معادلات ماكسويل) تمامًا مع قوانين الميكانيكا، ممّا أدّى لاحقًا إلى اكتشاف النظريّة النسبيّة الخاصّة لأينشتاين. كما وقفت الفيزياء الكلاسيكيّة عاجزة تمامًا عن تفسير بعض الظواهر التي رأت النور بخصوص دراسة الذرّة وأشعتها، أيّ أنّ رياح التّغيير بدت جليةً للكثيرين مع مطلع القرن العشرين، ولكن لم يتوقع أحد حجم هذا التّغيير المذهل والذّي كانت فكرة الفصل ما بين الموجة والجسم المادي أولى ضحاياه.
لكن لربما كان اختراع أديسون البسيط والهام جدًا وهو المصباحُ الكهربائي أهم العوامل التي أدّت إلى بداية فيزياء الكمّ وثورتها.
بدايةُ ثورةٍ والسببُ… مصباحٌ
اخترع توماس أديسون في نهاية القرن التاسع عشر المصباح الكهربائي الذي أحدث تغييراً جذريّاً في حياة البشر.
أدّى هذا الاختراع إلى سباقٍ وتنافسٍ كبيرٍ بين شركاتٍ عدّةٍ يهدف إلى إنتاج مصباحٍ كهربائي يعمّر طويلاً وبأقلّ مصروفٍ للطاقة.
استعملت عدّة شركاتٍ في سبيل ذلك خدمات الفيزيائيّ النظريّ الألماني ماكس بلانك (Max Planck) للبحث في إمكانية تطوير مصباحٍ من هذا النوع. ابتدأ بلانك في دراسة صفات سلك التوهج في هذه المصابيح محاولًا فهم طبيعة طيف الضوء الذي يشّع منها. يسمى مثل هذا الطيف في الفيزياء طيف الجسم الأسود (blackbody spectrum).
يجدر التنويه إلى أنّ تسمية الجسم الأسود يجب أن لا تؤخذ حرفيًا، لأنّ ما يقصد بها هو أنّ الجسم في حالة اتزان حراري بين ما يصدره من أشعةٍ وما يمتصّهُ، والأمر الذي فاجئ الفيزيائيين هو أنّ طيف الجسم الأسود يعتمد فقط على درجة حرارة ذلك الجسم، فمثلًا، يكون لون الجسم الأسود أحمر عند حرارة 1000 درجةٍ مئويّةٍ (مثل الحديد المنصهر)، ويكون أبيض مائلٌ إلى الصفرة على درجة حرارة 6000 مئوية (مثل حرارة سطح الشّمس) والخ.
تنبأت النظريّة الكلاسيكيّة للضوء أن شدّة الضّوء في طيف الجسم الأسود تزداد كلما قصر طول الموجة (كما يبيّن الخطّ الأزرق في الرسم).
إذا قمنا بحساب كمية الطاقة الكلية التي تصدر من جسم يتبع الخطّ الأزرق سنتوصّل إلى أنّ مثل هذا الجسم يصدر ما لانهاية من الطّاقة، وهو أمرٌ غير معقول. تُعرفُ هذه المشكلة باسم الكارثة الفوق بنفسجيّة (ultraviolet catastrophe).
بالمقابل، ما يجدهُ القياس في المختبر هو أنه ابتداءً من طول موجةٍ معيّنة تبدأ كثافة الضّوء بالنزول بشكلٍ حادّ كلما قصر طول الموجة (كما يبيّن الخطّ الأحمر في الرسم).
كانت هناك عدّة محاولاتٍ لتفسير قياس طيف أشعة الجسم الأسود (الدالة المبيّنة بواسطة الخط الأحمر)، وباستخدام فرضياتٍ معيّنة استطاع البعض تفسير تصرف هذه الأشعة للأمواج الطويلة، وبحسب فرضياتٍ أخرى مختلفة تماماً يمكن تفسير تصرّف الطّيف في حالة الأمواج القصيرة، لكن لم يستطع أحدٌ إعطاء دالة واحدة تناسب كل أطوال الأمواج، حتى جاء ماكس بلانك!
يعدّ إنجاز بلانك الأول إيجاده، بمساعدة زيادة معامل ثابت (يسمى ثابت بلانك، h)، دالة واحدة تلائم قياسات طيف الجسم الأسود في عام 1900.
في أغلب الحالات، عندما يجد فيزيائيٌ دالةً رياضيّةً تلائم المعطيات، لا يكون لهذه الدالة معنًى عميق، لكن دالة بلانك، كما أصبحت تُعرف، لاءمت المعطيات التجريبيّة بدقةٍ غير مسبوقةٍ واستُعملت للتنبؤ بالنتائج المخبريّة بنجاحٍ هائلٍ ممّا أقنع بلانك بأنّ الدالة التي اكتشفها تحمل في طيّاتها معنًى عميق حول طبيعة الضّوء، وهذا هو إنجازه الكبير الثاني.
فرض بلانك فرضيتين جوهرتين ليفهم من أين أتت هذه الدالة، الأولى بأنه يمكن التعامل مع أشعة الجسم الأسود بواسطة نظرية الفيزياء الإحصائية التي تطبّق على الغازات، أيّ على مجموعةٍ من الجسيمات المادية، وليس على الأمواج، والثانية هي أنّه إذا أخذنا الأشعة ذات طول موجة (ذبذبة، ) معيّنة من طيف الجسم الأسود تكون مكونةً من كمّات (quanta) من الطاقة قدر كل منها هو، والتي أصبحت تعرف لاحقًا بالفوتونات.
عندها استطاع بلانك اشتقاق دالّته بشكلٍ طبيعي من الأسّس الفيزيائيّة المعروفة. لكن مهلًا! ألم تتعامل هاتين الفرضيتين مع الضوء كمجموعة أجسام وليس مجموعة أمواج؟
هذه كانت الفكرة الثورية التي أتى بها بلانك، لربما أكثر فيزيائي محافظ من بين أترابه. كانت هذه هي الطلقة الأولى لانطلاقة ثورة فيزياء الكمّ الكبيرة، وكل ذلك بفضل مصباح!
لكن، وكما نعلم، لا يتبنى الناس الأفكار الجديدة بسرعة، بل تُستقبل عادة بالشّك وحتى الاستخفاف.
العلماء ليسوا مختلفين، بل في كثير من الأحيان هم محافظون أكثر من باقي الناس وذلك لأن آرائهم وأفكارهم تكون مبنيةً على بياناتٍ تجريبيةٍ ونظرياتٍ أثبتت فعاليّتها على أرض الواقع.
هذا بالضّبط ما واجهه ماكس بلانك، الذي أُصيب بإحباطٍ شديدٍ نتيجة رفض الغالبيّة السّاحقة من أقرانه قبول نظريته.
بالمقابل، الذّين قبلوا نظريته هم علماءٌ من الجيل الجديد من الفيزيائيين مثل أينشتاين وبوهر وغيرهم. لهذا السبب قال بلانك جملته الشهيرة: “الحقيقة العلميّة لا تنتصر بإقناع خصومها وجعلهم يرون النور، بل لأنّ خصومها يموتون في نهاية المطاف وينمو جيلٌ جديدٌ معتادٌ عليها”.
توالت عدة اكتشافات أخرى بعد هذه البداية، دلّت جميعها على أنّ الضّوء يتصرف أيضًا كجسم، وليس فقط كموجة.
منها ظاهرة المواد التّي تحرّر إلكترونات حين يقع عليها ضوءٌ ذو طول موجةٍ معينةٍ، والمعروفة باسم التّأثير الكهربائي الضّوئي، والتّي فسرّها أينشتاين في مقال عام 1905 بواسطة كمّات الطاقة الضوئية، الفوتونات، بشكلٍ مشابهٍ لمفهوم بلانك إحدى هذه الاكتشافات.
من الجدير بالذكر أنّ أينشتاين حصل على جائزة نوبل للفيزياء على هذا المقال، وليس على انجازاته العظيمة الأخرى. ومن الظواهر الأخرى التّي أيضًا احتاجت مفهوم الفوتون، هي ظاهرة تبعثر الضوء على إلكترونات حرة، والمعروفة باسم ظاهرة كومبتون وغيرها من الظواهر العديدة.
تتحدى الظواهر التّي تمّ ذكرها الطبيعة الموجية للضوء، وتدّل أنّه يتصرّف أحيانًا كجسمٍ مادي. ولكن ماذا عن الحالة العكسيّة؟ هل يمكن لأجسام مادية أن تتصرّف كأمواج؟
الإجابة هنا أيضًا كانت مفاجئة، فهناك العديد من الظواهر التي ابتدأ العلماء باكتشافها في بداية القرن العشرين والتّي تَحْدُث على أبعادٍ ذرّيةٍ صغيرةٍ جدًا، تتصرّف بها أجسامٌ مثل الإلكترونات بشكلٍ واضح كأنها أمواج، مثلًا، ظاهرة الضّوء الذي يشعّه عنصر الهيدروجين والذّي يحمل أطوال أمواجٍ محدّدةٍ جدًا، ولا يشعّ أو يُبتلع في أطوال أمواجٍ أخرى.
تبيّن الصّورة المرفقة أدناه طيف ذرة الهيدروجين في مجال الضوء المرئي. يرينا طيف الابتلاع أطوال الأمواج التي يبتلعها الهيدروجين إذا ما مرّ ضوء من خلاله، بينما يبيّن طيف الإشعاع الأمواج التي يُشعّ بها الهيدروجين.
إنّ أطوال أمواج الطيف محددة جدًا في الحالتين ومعطاة في الرسم. استطاع العالم الدنماركي نيلس بوهر (Niels Bohr) تفسير خطوط الطيف هذه عندما افترض بأن الإلكترون يتصرف كموجة!
كما تم أيضا القيام بتجربة يانغ المذكورة أعلاه ولكن بدلًا من استعمال موجةٍ مستويةٍ أطلقوا حزمة إلكترونات على شقين ليروا بوضوح أن نمط التداخل يبدو تمامًا كما لو أن الالكترونات أمواج.
إذا، أصبح واضحًا تمامًا خلال العقدين الأولين من القرن العشرين بأنّ الفصل الكلاسيكي بين الجسم والموجة لا ينطبق على عالم الذرّة وفيزياء الأبعاد الصغيرة، كما وأصبح واضحًا أنّ هناك حاجة لنظريّة فيزيائيّة جديدة تفسر كل هذه الظواهر الغريبة من خلال إطارٍ منظمٍ وموحد.
- إعداد: البروفيسور سليم زاروبي
- تحرير: أحمد عزب