السكر! من بداية متواضعة بوصفه علاجًا يزرع في الحدائق إلى قوةٍ اقتصادية، إذ حفز الطلب المتزايد عليه إلى استعمار العالم الجديد من قبل القوى الأوروبية، وجلَبَ الرقّ إلى الواجهة وعزز الثورات والحروب الوحشية. ويذكر أن المركز الجغرافي لزراعة قصب السكر تحول تدريجيًا عبر العالم على مدى 3000 سنة من الهند إلى بلاد فارس، على طول البحر الأبيض المتوسط إلى الجزر القريبة من ساحل أفريقيا ثم الأمريكتين، قبل أن يتحول مرة أخرى عبر العالم إلى إندونيسيا. وقد ابتكر نوع جديد من الزراعة لإنتاج السكر، وهو ما يعرف بنظام المزارع.
كان قصب السكر أول منتوج تمت زراعته في هذا النظام ولزيادة إنتاجية هذه المزارع وربحيتها، تم استيراد العبيد أو الخدم بعقود لصيانة وحصاد المحاصيل.
بدايات زراعة السكر
لا يوجد سجل أثري يذكر متى وأين بدأ البشر في زراعة قصب السكر كمحصول، ولكن على الأرجح أن ذلك حدث قبل حوالي 10 آلاف عام في غينيا الجديدة اليوم. وكان الناس في غينيا الجديدة من بين أكثر المزارعين الذين عرفهم العالم إبداعًا. فقد دجّنوا مجموعة واسعة من أنواع النباتات المحلية، ليس فقط قصب السكر، بل أيضًا القلقاس والموز واليام.
ثم انتقلت زراعة قصب السكر باتجاه الشرق عبر المحيط الهادئ، وانتشرت في جزر سليمان المجاورة، وجزر نيو هيبريدس، وكاليدونيا الجديدة، وفي النهاية في بولينيزيا. كما انتقلت زراعة قصب السكر أيضًا غربًا إلى قارة آسيا وإندونيسيا والفلبين ثم شمال الهند.
لفترة طويلة، احتفظ الشعب الهندي بعملية صناعة السكر برمتها سرًا، وأدى ذلك إلى أرباح ضخمة من خلال التجارة عبر شبه القارة الهندية. لكن تغير كل هذا عندما قام داريوس الأول (حكم بين 522 – 486 قبل الميلاد)، حاكم الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، بغزو الهند عام 510 قبل الميلاد، إذ أعاد المنتصرون التكنولوجيا إلى بلاد فارس وبدؤوا في إنتاج السكر. وبحلول القرن الحادي عشر الميلادي، شكل السكر جزءًا كبيرًا من التجارة بين الشرق وأوروبا.
صناعة السكر في البحر الأبيض المتوسط
حدث تغير كبير في الزراعة في منطقة البحر الأبيض المتوسط كلها، إذ إن قصب السكر تم إدخاله من قبل العرب إلى مصر في عام 710، ومن مصر انتشر قصب السكر غربًا عبر شمال أفريقيا وصولًا إلى المغرب وإسبانيا في منتصف القرن السابع.
ثم انطلق إنتاج شبه الجزيرة الإيبيرية من السكر حوالي عام 900، وشهد ازدهارًا في عام 1300، حتى 1500. ويذكر أن هذه المناطق ظلت تحت سيطرة العرب طوال هذه الفترة.
وأدخل العرب أيضًا زراعة السكر إلى قبرص وكريت وصقلية في أوائل القرن الثامن، ولكن إنتاج السكر فعليًا لم يبدأ في هذه الجزر إلا بعد فترة طويلة من فقدان العرب السيطرة على معظمها. وكانت ذروة الإنتاج في قبرص من 1300 إلى 1500، عندما هيمن تجار جنوة على الجزيرة. ومن ناحية أخرى كانت سنوات الازدهار في كريت من 1400 إلى 1500 تحت حكم البندقية. أما في صقلية، فكانت السنوات الذهبية من الإنتاج من 800 إلى 1050 عندما كانت الجزيرة تحت سيطرة العرب ثم مرة أخرى من 1380 إلى 1520 تحت الحكم الإسباني.
التوسع في إنتاج السكر من جانب البرتغاليين والإسبان
سيطر البرتغاليون في نهاية المطاف على إنتاج السكر في جميع أنحاء العالم في القرن الخامس عشر نتيجة لاستكشافهم واستعمارهم لجزر المحيط الأطلسي على طول الساحل الأفريقي. وأنشئت المزارع الأولى بعد الاستعمار البرتغالي لماديرا عندما قرر الأمير هنري إرسال فنيي سكر ذوي خبرة إلى صقلية إلى مصانع قصب السكر.
مسلحين بهذه المعرفة، تمكن هؤلاء من إنشاء أول مزارع قصب السكر وبناء مصانع لمعالجة السكر، لتكون الجزيرة بذلك أكبر منتج للسكر في العالم عام 1460.
في القرن الخامس عشر، اكتشف البرتغاليون أيضًا جزر الأزور، وجزر الرأس الأخضر، وساو تومي، بينما غزا الإسبان جزر الكناري. ولم يصبح السكر مهمًا أبدًا في جزر الأزور وجزر الرأس الأخضر، ولكن أصبحت الكناري الإسبانية والبرتغالية ساو تومي منتجين رئيسيين للسكر بحلول أواخر القرن الرابع عشر.
ومنذ بداية إنتاج السكر في المحيط الأطلسي، كان عمل الرقيق هو المصدر الرئيسي للقوى العاملة، إذ بدأ الإسبان بإجبار السكان الأصليين على العمل في حقول القصب. وعندما أصبح هناك عدد ضئيل من السكان الأصليين الذين تركوا على قيد الحياة دون أن يفتك بهم المرض والعمل الزائد، لجأ الإسبان إلى استيراد العبيد الأفارقة.
البرازيل
في القرن السادس عشر، بدأ مركز إنتاج السكر يتحول إلى منطقة البحر الكاريبي الخاضعة للسيطرة الإسبانية، أولًا في سانتو دومينغو، ثم إلى حد أقل في كوبا وبورتوريكو. وكان كريستوفر كولومبوس (1451 – 1506) قد أدخل قصب السكر إلى المنطقة في رحلته الثانية في عام 1493، حيث كان الأسبان ما يزالون مهتمين أكثر بالعثور على الذهب والفضة، لكنهم وجدوا أرباح السكر مغرية للغاية ولا يمكن تفويتها.
اكتشف البرتغاليون البرازيل عام 1500، ولم يستغرقوا وقتًا طويلًا في بدء زراعة قصب السكر هناك، حيث أنشئت أول مزرعة للسكر في عام 1518، وبحلول أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، أصبحت البرازيل المورد الرئيسي للسكر إلى الأسواق الأوروبية. وقد سارعوا إلى إخضاع السكان المحليين للعمل في مناجمهم وحصد قصب السكر. ومع ذلك ، فقد ثبت أن السكان لم يتكيفوا جيدًا مع نمط الحياة الروتينية المستقرة للزراعة وكانوا عبيدًا غير متعاونين. فكان الحل البرتغالي لمشكلة العمالة هو اللجوء إلى تجارة الرقيق الأفريقية.
تم تمويل صناعة السكر المزدهرة للبرتغاليين إلى حد كبير من قبل التجار الهولنديين، لكن الهولنديين في النهاية أسسوا مستعمرتهم الخاصة في شمال شرق البرازيل. وكانوا منتجين نشطين للسكر هناك من 1630 إلى 1654، حتى طردهم من قبل البرتغاليين. فأخذ الهولنديون بعد ذلك أموالهم وخبراتهم وشحنهم إلى منطقة البحر الكاريبي، التي كانت مستعمرة من قبل البريطانيين والفرنسيين. وفي غضون 30 عامًا، سيطرت منطقة البحر الكاريبي على إنتاج السكر في جميع أنحاء العالم، وأدى ذلك إلى انخفاض سعر السكر البرازيلي بمقدار الثلثين وخفض صادراتها بشدة.
في منتصف القرن التاسع عشر، بنى الهولنديون صناعة للسكر ضخمة في جاوة من خلال استغلال السكان الأصليين. وكان قد طُلب من الجاويين زراعة قصب السكر لهم، وتسليمه إلى المصانع، ثم العمل في تلك المصانع في ما عرف بنظام الزراعة.
وعلى مدار النظام، عمل ملايين الجاويين في معالجة السكر ونقله عن طريق العمل الإجباري والمجاني، وأصبح إنتاج السكر في جاوة يمثل ثلث عائدات الحكومة الهولندية و4٪ من الناتج المحلي الإجمالي الهولندي، لتصبح جاوة واحدة من أكثر المستعمرات ربحًا في العالم.
سياسة السكر
تزامنت أكثر سنوات إنتاج السكر في منطقة البحر الكاريبي مع فترة مضطربة من السياسة الأوروبية، فقد كانت فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وهولندا في حالة حرب مستمرة. وامتدت جميع الصراعات الأوروبية إلى منطقة البحر الكاريبي، فكانت مزارع السكر في منطقة البحر الكاريبي مهمة للاقتصاد الأوروبي ولها آثار بعيدة المدى على أمريكا الشمالية.
وبحلول القرن الثامن عشر الميلادي، كان السكر أهم سلعة تُتداول دوليًا وتمثل ثلث الاقتصاد الأوروبي برمته.
كانت لصناعة السكر في منطقة البحر الكاريبي أهمية كبيرة جدًا بحيث لا يمكن تجاهلها وكانت عنصرًا مهمًا جدًا في الاقتصاد البريطاني للمستعمرات الشمالية. فلم يكن بالتالي أمام بريطانيا خيار سوى الحفاظ على هذه قوة الاقتصادية في منطقة البحر الكاريبي خلال الحرب الثورية. ومن المرجح أن هذا الاهتمام ساعد المستعمرين الشماليين مساعدة كبيرة في الفوز باستقلالهم عام 1776.
تمرد العبيد في دومينيك
بحلول القرن الثامن عشر، انتقل مركز إنتاج السكر إلى سانت دومينيك، النصف الفرنسي من هيسبانيولا، حيث تنتشر الآلاف من مزارع السكر في مناظرها الطبيعية وأصبحت أغنى جزيرة للسكر.
هذه الهيمنة اشتعلت حرفيًا في نهاية القرن عندما تمرد العبيد وأقاموا أمة حرة. وقد تم كسب هذه الحرية بهزيمة جيوش القوى الأوروبية الرائدة، أولًا في فرنسا ثم بريطانيا العظمى. وأصبح رجل يُدعى توسان الحاكم الفعلي للدومينيك، وأطلق على نفسه اسم (L’Ouverture – المفتتح). وأُعلن في الأول من يناير 1804 استقلال سانت دومينيك وأصبحت هايتي، ثاني دولة في الأمريكتين (بعد الولايات المتحدة) تتحرر من السيطرة الأوروبية.
لكن كان هناك خوف واسع النطاق من حدوث تمرد مماثل في جنوب الولايات المتحدة بين مئات الآلاف من العبيد المحتجزين في الأسر. لذلك ظل الاعتراف بهايتي في طي النسيان في الولايات المتحدة لأكثر من 60 عامًا. وبعد الثورة الهايتية، هرب العديد من مزارعي السكر إلى كوبا ولويزيانا. وسرعان ما أصبحت كوبا المركز العالمي لإنتاج السكر، بينما أصبحت لويزيانا مصدر السكر في الولايات المتحدة. ونُقل نظام المزارع بأكمله في منطقة البحر الكاريبي إلى كوبا ولويزيانا، حيث لا يزال الرق موجودًا.
لكن عندما بدأت الحرب الأهلية وقطعت إمدادات السكر من لويزيانا إلى الشمال، أصبحت هاواي مركز إنتاج السكر الجديد للولايات المتحدة. ووصل قصب السكر بالفعل إلى هاواي في عصور ما قبل التاريخ، ولكن المزارع الحديثة لم تنشأ حتى منتصف القرن 1800.
ظهور بنجر السكر وصناعة السكر اليوم
خلال الحروب النابليونية (1803-1815)، لم يعد قصب السكر متاحًا في أوروبا الخاضعة للسيطرة الفرنسية بسبب الحصار البحري الذي فرضه البريطانيون.
ولإرضاء السلطة الفرنسية، تمت زراعة البنجر المتواضع، وهو بالفعل مصدر للغذاء والأعلاف في أوروبا. وكانت كمية السكر في البنجر آنذاك أقل بكثير من قصب السكر، وعملية الاستخلاص أكثر تكلفة، لكنه كان المصدر الوحيد المتاح للسكر. فأمر نابليون بزراعة آلاف الأفدنة من بنجر السكر، وبحلول عام 1814 كان هناك أكثر من 300 مصنع يصنع السكر من البنجر. لكن عندما انهارت إمبراطورية نابليون بعد معركة واترلو، رفعت المقاطعة، واستعاد قصب السكر الكاريبي الأرخص هيمنته الأوروبية.
استمر إنتاج السكر من البنجر في التراجع عدة عقود، حتى حظر البريطانيون العبودية في منطقة البحر الكاريبي، ما تسبب في ارتفاع أسعار قصب السكر ارتفاعًا كبيرًا. وبحلول عام 1854، كان 11٪ من السكر في العالم يستخلص من البنجر وفي عام 1899 تم استخراج 65٪ من السكر من بنجر السكر متفوقًا على قصب السكر.
اليوم، تعد البرازيل مرة أخرى المنتج الرائد والرئيسي للسكر في العالم، تليها الهند، والاتحاد الأوروبي، والصين، وتايلاند، ثم الولايات المتحدة الأمريكية.
وما يزال معظم القوى العاملة في حقول قصب السكر اليوم عمالًا جُلبوا من خارج مناطق الإنتاج بواسطة مديري العمالة. ويستمر هؤلاء العمال بصفتهم عمالة رخيصة مثل العبيد تقريبًا إذ تُخصم أموال الطعام والسكن وغير ذلك من الضروريات الأخرى من رواتبهم ما يتركهم في الديون.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: مها الديماسي
تدقيق: حسين جرود