لم يحدّث مفهوم الثانية (الوحدة الأساسية للزمن في نظام القياس الحالي) منذ أكثر من70 سنة، أي إضافة أو أخذ بعض الأجزاء من بليون جزء من الثانية. لكن هذه الحال قد لا تدوم في العقد القادم أو نحو ذلك، فالساعة الذرية الضوئية فائقة الدقة المعتمدة على الضوء المرئي في طريقها لإرساء التعريف الجديد للثانية.
تعد هذه الإصدارات الجديدة للساعة الذرية الضوئية أدق نظريًا على الأقل من ساعة السيزيوم ذات المعيار الذهبي التي تقيس الثانية بناءً على تذبذب ذرات عنصر السيزيوم في أثناء تعرضها للموجات الدقيقة.
قال جيفري شيرمان، باحث في قسم الزمن والتردد بالمعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا في مدينة بولدر بولاية كولورادو، للموقع الإخباري Live Science: «يشبه الأمر امتلاك مسطرة ذات علامات تجزئة عند كل مليمتر في مقابل عصا تقيس مترًا واحدًا فقط».
ذكرت صحيفة نيويورك تايمز إنه بحلول شهر يونيو 2022 قد يضع المكتب الدولي للأوزان والقياسات المعايير اللازمة لأي تعريف مستقبلي للثانية، ولكن لا توجد حتى اللحظة أي ساعة ذرية ضوئية جاهزة كليًا للإطلاق.
قال شيرمان إنه مع ذلك قد يُقّر رسميًا تعريف جديد بحلول عام 2030.
قد يكشف النوع الجديد من الساعات الذرية الضوئية عن المادة المظلمة، المكون الخفي الذي لا نعرف بوجوده إلا عن طريق قوى الجاذبية التي يمارسها، أو بإيجاد بقايا الانفجار العظيم المسماة موجات الجاذبية، وهي تموجات في الزمكان تنبأت بوجودها النظرية النسبية لأينشتاين.
الوحدة الأساسية للقياس
الثانية المعيارية الحالية مبنية على تجربة تعود إلى سنة 1957 استُعمل فيها نظير أو بديل لعنصر السيزيوم. تكون ذرات السيزيوم في أثناء نبضها تحت تأثير طول موجي محدد لطاقة الموجات الدقيقة في قمة «الإثارة»، وبذلك تطلق أكبر عدد ممكن من الفوتونات أو وحدات الضوء.
يجعل هذا الطول الموجي -المسمى تردد الرنين الطبيعي للسيزيوم- ذرات السيزيوم تنبض أو تُتكتك 9.192.631.770 مرة في الثانية.
رُبط هذا التعريف الأولي حسب صحيفة نيويورك تايمز بطول اليوم في عام 1957، ورُبط اليوم بدوره بأشياء مختلفة مثل دوران الأرض ومواقع الأجسام السماوية الأخرى وقتها.
في المقابل، تقيس الساعة الذرية الضوئية تذبذب الذرات التي تنبض أسرع بكثير من ذرات السيزيوم النابضة تحت تأثير موجات ضوئية من المدى المرئي للطيف الكهرومغناطيسي، ونظرًا إلى قدرتها على النبض بسرعة أعلى بكثير فهذا يعني نظريًا أنها قادرة على تحديد الثانية بدقة أكبر بكثير أيضًا.
قال شيرمان إنه يوجد العديد من المنافسين الذين يمكنهم حل محل السيزيوم في كونه ضابط الوقت السائد، بما في ذلك السترونتيوم والإيتربيوم والألمنيوم، ولكل من هذه العناصر مزاياه وعيوبه.
يجب على الباحثين من أجل إنجاز ساعات مثل هذه تعليق الذرات ثم تبريدها حتى توشك أن تبلغ الصفر المطلق، وبعد ذلك ذبذبتها بلون (موجة ضوئية) مضبوط بدقة من الضوء المرئي قادر على إثارة الذرات إلى أقصى حد.
يسلط جزء من النظام الضوء على الذرات، بينما يحسب الجزء الآخر التذبذبات.
قال شيرمان إن بعض أكبر التحديات تأتي من التأكد من كون الليزر المستعمل يصدر لون الضوء الصحيح بدقة، مثل ظل محدد للون الأزرق أو الأحمر، اللازم لدفع الذرات إلى ترددها الرنان.
قال شيرمان إن الخطوة الثانية، أي حساب التذبذبات، تتطلب ما يسمى مشط تردد ليزر الفيمتو ثانية الذي يرسل نبضات متفرقة من الضوء على فترات زمنية صغيرة جدًا.
قال شيرمان إن كلا العنصريين يمثلان عملًا هندسيًا معقدًا مذهلًا، ويمكنهما شغل غرفة مختبر كاملة بمفردهما.
استعمالات الساعة الذرية الضوئية
حسنًا، لماذا يريد العلماء ساعة ذرية ضوئية أكثر دقةً من أي وقت مضى لقياس الثانية؟ إنه ليس مجرد تمرين أكاديمي.
الوقت لا يسير ببساطة على نسقه الخاص، فالنظرية النسبية لأينشتاين تقول إنه يتعرض للتشويه تحت تأثير الكتلة والجاذبية، ونتيجة لذلك قد يمر الوقت أبطأ بنسبة قليلة جدًا عند مستوى سطح البحر، حيث يكون مجال جاذبية الأرض أقوى مقارنةً بقمة جبل إيفرست، حيث يكون أضعف قليلًا.
قد يظهر اكتشاف هذه التغيرات الدقيقة في تدفق الزمن عن أدلة على وجود فيزياء جديدة أيضًا، فقد اكتُشف مثلًا تأثير المادة المظلمة حتى الآن فقط في رقصة بعيدة لمجرات تدور حول بعضها، ومن انحناء الضوء حول الكواكب والنجوم، ومن الضوء المتبقي من الانفجار العظيم.
لكن إذا وجدت كتل من المادة المظلمة كامنة بالقرب من موطننا، فإن الساعات فائقة الدقة التي تكتشف التباطؤ الضئيل للوقت يمكن أن تجدها، فمثلما تهز موجات الجاذبية نسيج الزمكان، فإنها تسحق الزمن وتمدده بطريقة مشابهة، وقد كشف عن بعض أكبر موجات الجاذبية بواسطة مرصد القياس بالتداخل الليزري لموجات الجاذبية، وهو سباق بالتتابع للضوء لعدة آلاف من الأميال يقيس الومضات في الزمكان الناتجة عن الأحداث الكونية الكارثية مثل تصادمات الثقوب السوداء.
لكن يمكن أن تكتشف مجموعة كبيرة من الساعات الذرية الضوئية المزروعة في الفضاء تأثيرات تمدد الزمن لموجات الجاذبية الأبطأ، مثل تلك الصادرة عن الخلفية الكونية الميكروية.
قال شيرمان: «إنها تسمى موجات الجاذبية الأولية، وقد تكون بقايا من الانفجار العظيم».
اقرأ أيضًا:
كيف تستطيع الساعات الذرية الحفاظ على دقة الوقت لمليارات السنين؟
باستخدام الثوريوم، العلماء يقتربون من الساعة الأدق في العالم
تدقيق: سمية بن لكحل
مراجعة: لبنى حمزة