أصبحت الريعية الرأسمالية موضوعًا يناقش بشكل متزايد. وعلى الرغم من أن مجاورة مصطلحي الرأسمالية والريعية لبعضهما البعض حديث نسبيًا، فهو يقوم على مفهوم اقتصادي كلاسيكي وهو الاقتصاد الريعي.
الاقتصاد الريعي هو القيمة غير المكتسبة ضمن الربح. ويشير مصطلح “الريعي” إلى الشخص الذي يستولي على هذه القيمة غير المكتسبة. وبعبارةٍ أخرى، الريعي هو الشخص الذي يحصل على الربح من أساسٍ آخر غير نشاطه المنتج. في الاقتصاد الريعي واحدة من مصادر القيمة المعروفة هي من الموارد الطبيعية (بما في ذلك الأرض، والنفط، والمياه، والغابات، والمجال الجوي، والمعادن، إلخ).
وتعد الأرض إحدى أكثر الأمثلة الكلاسيكية لما سبق (مثلما أشار آدم سميث في “ثروة الأمم”) إذ قال: «بمجرد أن تصبح الأرض في أي بلد ملكيةً خاصةً، عندها يحبّ الملّاك، كباقي الرجال، أن يحصدوا ما لم يزرعوه فيها، وأن يطالبوا بمستحقات ما أنتجت». إن المعنى المتداول لمصطلح “الإيجار” كما هو مستخدم في العقارات السكنية أو التجارية هو أحد الأمثلة الرئيسة على زيادة القيمة غير المكتسبة من الأرض. عندما يدفع المرء إيجار عقارٍ ما، فإنه لا يدفع مقابل منتج أو خدمة، وإنما مقابل وصول محدود إلى الأرض التى ادعى مالكها (أو في هذا السياق “الريعي”) احتكاره لها بالفعل.
تزداد القيمة السوقية للأرض بما يتناسب مع ندرتها، وهذا ما يمكن أن يُصادق عليه أيّ مستأجر في مدينة نيويورك أو هونج كونج أو لندن. تعدّ العقارات في نيويورك أغلى منها في ريف ألبرتا لأن الطلب عليها أعلى وبالتالي هي أكثر ندرةً. ولكن، وكما أشار هنري جورج، يمكن أن يتأثر الطلب على الموارد الطبيعية وندرتها أيضًا بتراكم القيمة الاجتماعية. إذ تملك أرض مدينة نيويورك قيمةً سوقيةً مرتفعةً، ولكن ليس بسبب تربتها الغنية أو مناظرها الطبيعية الأجمل من مزرعة ريفية مطلة على جبال الروكي في ألبرتا.
ويمكن لأرضٍ ما في مدينة مانهاتن أن تعود بإيجار أعلى، نظرًا لكثافة الفرص الاقتصادية والأعمال التجارية والتنمية والثقافة في المدينة. وذلك يجعلها مكانًا مرغوبًا للعيش به، ما يجذب المزيد من الناس، وبالتالي جعلها مكانًا للعيش ذا قيمة أعلى، ما يؤدي إلى ندرة أكثر وطلب أعلى على العقارات. وهكذا، فإن مالك العقار في نيويورك هو المستفيد من قيمة الأرض التي تُعتبر نتيجةً مشتركةً لقيمتها المتأصلة والقيمة التي يساهم بها المجتمع من حوله.
يعد الربح الريعي أكثر تميزًا من الربح الرأسمالي. إذ يكتسب الرأسمالي القيمة من عمل الآخرين، لكنه بحاجة إلى إعادة استثمار ذلك الربح من أجل الحفاظ على قدرته التنافسية. إن الرأسمالي الماركسي الكلاسيكي مهتم بالنشاط الإنتاجي. وعلى النقيض من ذلك، لا يُجبر الريعي على الاستثمار في نشاط إنتاجي، ولكنه يجمع ببساطة الأرباح التي قد تُستخدَم أو لا تُستخدَم لتوسيع حصته من الاحتكارات المنتجة للريع. (لهذا السبب وصف كينز الريعي بـ “المستثمر غير المنتج”).
لقد كانت الشخصية البرجوازية لصاحب المصنع أو عملاق الصناعة بالنسبة لماركس هي الرأسمالية الأيقونية. لكن للرأسمالية المعاصرة أشكالًا أكثر بكثير من التصنيع فحسب، فهي تشمل أشكالًا أخرى من الخدمات بالإضافة إلى البضائع غير الملموسة. يُناقش جاي ستاندنج وآخرون تمثيل الرأسمالية الحالية بشكل متزايد من قبل الريعيين. ويأخذ هذا أشكالًا متعددة، بما في ذلك قوانين الملكية الفكرية المتطرفة، والاقتصاد المموّل، و”المنصات الرأسمالية”، أو الشركات التي تستفيد من رأس مال الآخرين، كشركة Airbnb.
إن مبدأ الاقتصاد الريعي بسيط إلى حدٍ ما، لكنه يشكل بشكل جذري أساس اقتصادنا العالمي المعاصر. للأسف، يميل الاقتصاد الريعي إلى تركيز الثروة بين أيدي قلة من الناس. ويقودنا هذا إلى شكلٍ آخر من الربح الريعي: إذ يتركز رأس المال بشكلٍ متزايد في عدد قليل من الشركات والأفراد، بينما الغالبية العظمى ممن يمارسون نشاطًا إنتاجيًا لا يجنون أرباح القيمة الجمعية ولا أرباح ناتجة عن نشاطاتهم تلك، بل هم بحاجة إلى اقتراض المال من أجل معيشتهم من أولئك الذين يستولون على رأس المال. وهذا بدوره يخوّل لأصحاب الثروات اقتطاع أرباح الإيجار من ديون الآخرين عن طريق فرض أسعار فائدة باهظة. وتحدث المزيد من الفرص الريعية في كل من حسومات الضريبة التنازلية والتصاعدية (يعوّض الأخير انخفاض أجور العمل).
توجد بعض المخاوف الجادة فيما يتعلق بمرحلة البحث عن الريع للرأسمالية المعاصرة، كما يشرح الخبير الاقتصادي جاي ستاندنج في “الأكاذيب الخمسة للرأسمالية الريعية”. ويعالج ستاندنج المخاوف المتعلقة بالرأسمالية من وجهة نظر براغماتية: إن الوعود الأيديولوجية للرأسمالية تُقَوّض بممارسة الاستحواذ على الريع الخاص. سأستكشف في المقالة التالية من هذه السلسلة بعض القضايا التي طرحها ستاندنج وغيرها من القضايا الأخلاقية التي أثارتها الرأسمالية الريعية.
اقرأ أيضًا:
التحليل التقني للأسهم وتوجهات السوق
ترجمة: ذوالفقار مقديد
تدقيق : إدريس زويتن
مراجعة: آية فحماوي