يوجد جدل عالمي مستمر حول إمكانية خفض التضخم العالي الذي شهده العالم عقب تداعيات جائحة كورونا، دون الوقوع في ركود.

نيوزيلندا لم تكن محصنة أمام هذه القضية، وأضاف أدرين أور محافظ البنك الاحتياطي النيوزيلندي، أنه لا مفر من الكساد عند العمل على تحجيم التضخم، واصفًا ما يحدث بالهبوط الاضطراري. اعترض آخرون مجادلين بأنه يمكن، بل ويجب على نيوزيلندا أن تهدف إلى هبوط آمن، وهو الحد من التضخم دون الوقوع في الكساد، ولكن هل يرتبط انخفاض التضخم ارتباطًا لا انفصام به مع الركود؟

أظهر لنا تاريخ نيوزيلندا الاقتصادي، أنه بمقدوره تقديم بعض التوجيهات فيما يخص هذا، مشيرًا إلى عوامل الخطر المؤثرة على مستقبل البلد الاقتصادي.

هل دخلنا اليوم في مرحلة الركود؟

لم يُعرّف حتى اليوم الركود تعريفًا صارمًا وموجزًا، فمثلًا تستخدم عبارة الركود التقني على نطاق واسع للإشارة إلى فترة شهدت على ربعين متتاليين من زيادة حقيقية وسلبية في إجمالي الناتج المحلي، وتبعًا لهذا المعيار، دخلت نيوزيلندا مرحلة كسادها مع أواخر العام الماضي.

يُفضل الاقتصاديون التعريف البديل الصادر عن المكتب الوطني للبحوث العلمية NBER في الولايات المتحدة، الذي ينص على أن الركود هو فترة ما بين ذروة النشاط الاقتصادي وقاعه، أو مستواه الأدنى اللاحق .

الجدير بالذكر أنه لا تطابق دائم بين الركود التقني والركود المستوفي لمعايير NBER.

في 2014 شرع باحثان باستخدام خوارزمية براي بوشان المستندة على تعريف NBER، لتحديد فترات الركود التي خاضتها نيوزيلندا بين عامي 1947 و2012.

كانت الغاية من ذلك رؤية ما إذا كان بالإمكان تحديد فترات الركود في وقتها الحقيقي، عوضًا عن إدراكها بعد فوات الأوان، وتنص قاعدة السهم على أن الركود يمكن التنبؤ به عندما يأخذ معدل البطالة بالارتفاع بعد أن كان في أدنى مستوياته، ما سيساعد على تحليل الأوضاع الاقتصادية في الوقت المناسب.

نُشر في عام 1986 رسم بياني لمؤشر ركود اعتمدت بياناته على البطالة، ويتطابق المؤشر عادةً خلال ربع واحد منه مع بدايات الركود، بناءً على خوارزمية براي بوشان، وحسب بيانات ذلك المؤشر، نحن لم نكن في حالة من الركود في الربع الرابع من عام 2023، لكن احتمالية أن يضاء المؤشر قريبًا باللون الأحمر، تزداد مع ازدياد طلبات العمل عن بعد، وانخفاض في إعلانات العمل المعروضة.

عن الارتفاعات والانخفاضات في التضخم النيوزيلندي:

منذ عام 1961، شهدت نيوزيلندا ثمانية انخفاضات في تضخماتها أو ما يسمى بالانكماشات، وذلك بمعدل أربع نقاط مئوية أو أكثر. يشير الانكماش إلى انخفاض في التضخم، لكنه يبقى في حدوده الإيجابية، بينما يحدث الكساد عند سقوط معدلات التضخم إلى ما دون الصفر.

كانت هناك حاجة إلى انخفاض النقاط المئوية الأربعة هذه، حتى يصل التضخم في نيوزيلندا إلى هدف البنك الاحتياطي والبالغ 1-3%، بانخفاض عن 7.3%، والتي سُجلت في الربع الثالث من عام 2022.

كان للأزمة المالية الآسيوية ركود متاخر جدًا، وما يقارب نصف انخفاض التضخم قد حدث بالفعل قبل أن تترسخ الأزمة حتى.

كانت الرسالة هنا إيجابية. ليس بالضرورة أن يرتبط دومًا الانخفاض في التضخم مع الركود، كان انخفاض حلقات التضخم التاريخية أكثر إفادة من غيرها فيما قد يحدث في الوضع الراهن.

ظهرت بعض الانخفاضات الآمنة على أعقاب ارتفاع أسعار الفائدة قصيرة الأجل، مثل الذي شهدته نيوزيلندا في الفترة الأخيرة.

قد ساعدت بعض الانخفاضات الأخرى في تخفيض أسعار النفط إلى النصف، بين نوفمبر العام 1985 ومارس العام 1986.

كان هناك نوع من الحالات الشاذة في انخفاضات التضخم، مثل ذروة التضخم التي حدثت في 2011، الذي سجل أعلى مستوى مصطنع على غرار زيادة ضريبية على السلع والخدمات في عام 2010.

موضوع مشترك مع الهبوط الحاد:

بالانتقال للحديث عن الهبوط الحاد في العينة، شهدت بدايات عام 1974 زيادة كبيرة في أسعار النفط بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، وساهم الركود العالمي الناجم جنبًا إلى جنب مع السياسة المالية المحلية التقييدية في قمع التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار النفط بين الربع الثاني من عام 1976 والربع الأخير من عام 1978.

حدث هذا الانخفاض في التضخم مرة أخرى بين الربع الثاني من عام 1990 والربع الأول من عام 1992، على خلفية اقتصاد عالمي متباطئ، الذي أثر جزئيًا على زيادة أسعار النفط عام 1990، التي تسببت بها حرب الخليج والسياسات النقدية والمالية المحلية الصارمة.

ارتفعت أسعار النفط أيضًا لأكثر من 15٪ هذا العام، مع أنها لم تصل حتى الآن إلى أعلى مستوياتها التي شهدتها في منتصف عام 2022.

عكست بعض حالات الركود أحداثًا عالمية، مثل أحداث إيران التي أدت إلى زيادات في أسعار النفط، وأسهمت في أوائل الثمانينات بوساطة الإجراءات السياسية إلى ركود الولايات المتحدة.

تزامنت تضخمات أخرى مع انهيار سوق الأسهم في أكتوبر 1987، ما تسبب في حالة من عدم الاستقرار في النظام المالي النيوزيلندي المحرر حديثًا.

في الختام، يشير التاريخ إلى أن محاربة التضخم دون الوقوع في حالات الركود أمر ممكن بتوفر شروط عالمية مواتية، وخاصة الجغرافيا السياسية المناسبة، لكن الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط، بجانب الحرب المستمرة في أوكرانيا لا يمكن عدها أبدًا من العلامات الإيجابية.

اقرأ أيضًا:

أيهما أسوأ الكساد الاقتصادي أم الركود الاقتصادي؟

تاريخ الكساد العظيم

ترجمة: ريتا عمر

تدقيق: نور حمود

المصدر