غالبًا ما تكون ذكريات العمر المبكر مشبعةً بالعاطفة ومنسوجةً في هويتنا وأساس ما نحن عليه، لكن هل يمكن الوثوق بهذه الذكريات؟ بمعنى آخر، ما مدى دقة ذكرياتنا؟
عادةً، تكون الذكريات دقيقةً إلى حدّ ما، خاصةً إذا كانت ترتبط بأحداث وتجارب مخيفة أو مؤلمة.
تقول البروفيسور كارول بيترسون Carole Peterson عالمة نفسية وأستاذة في جامعة ميومريال في نيوفاوندلاند، ومتخصصة في علم ذاكرة الطفولة المبكرة: «إن ذكرياتنا ليست معصومة عن الخطأ، وقد يكون لدى كل من الأطفال والبالغين ذكريات غير دقيقة تمامًا وربما لم تحدث مطلقًا. فالذكريات في كل الأعمار قد تكون مرنة. وهذا ينطبق على ذكريات العمر المبكر».
نكون في جميع الأعمار عرضةً للتخيلات، مع أن الأطفال الأصغر سنًا يكونون أكثر عرضة لهذه التخيلات من الأطفال الأكبر سنًا أو البالغين.
وقد أفادت الأبحاث أن الناس غالبًا ينسون الأحداث بسرعة نسبية بعد حدوثها، خاصة إذا كانت ذكريات عادية.
في دراسة أجريت عام 2020 ونشرت في مجلة العلوم النفسية، وجد الباحثون أن الناس لديهم ذكريات أقل عن أحداث العالم الحقيقي وتقل كلما مر وقت أطول على حدوثها.
كانت تفاصيل هذه الذكريات تقل أيضًا مع مرور الوقت. مع ذلك، لاحظ الفريق أيضًا أنه عندما تذكر المشاركون حادثةً ما بنجاح، كانوا دقيقين بنسبة 93% إلى 95% من الوقت، بصرف النظر عن مقدار الوقت الذي انقضى.
إذن، ماذا يعني هذا فيما يتعلق بإثبات دقة الذكريات الأولى؟
في دراسة نشرت في مجلة تنمية الطفل Child Development في عام 2011، أجرى بيترسون وزملاؤه مقابلات مع أطفال تتراوح أعمارهم بين 4 إلى 13 عامًا حول ذكرياتهم الأولى وأعادوا مقابلتهم بعد عامين. ووجدوا أن الأحداث المفعمة بالعاطفة كانت أكثر قابلية لاسترجاعها وتذكرها. بالإضافة إلى ذلك، إذا كانت ذاكرة الطفل واضحة وليست مشوشة -أي إذا كانت منظمة ومرتبة ترتيبًا زمنيًا- فمن المرجح أن تُذكر أكثر.
إضافةً إلى ذلك، أفادت أبحاث بيترسون وجود صلة قوية بين العواطف والذكريات الدقيقة. على سبيل المثال، إذا كان الحدث مروعًا أو مؤلمًا، فغالبًا تكون جودة الذاكرة أعلى.
دُعم هذا البحث بواسطة دراسة أجريت عام 2015 عندما أجرى الباحثون مقابلات مع أطفال في مرحلة ما قبل المدرسة حول إصابات خطيرة بدرجة كافية تطلبت العلاج في المستشفى.
قالت بيترسون: «لقد تمت متابعة الأمر بعد عقد من الزمن لمعرفة مقدار ما يتذكره المراهقون من إصابات الطفولة الأولى». وأجرى الباحثون مقابلات مع البالغين الذين شهدوا الإصابات بعد وقت قصير من حدوثها ليكون بمثابة سجل دقيق.
وأضافت: «كان المراهقون دقيقين في تذكر تفاصيل هذه الذكريات والأحداث العاطفية البارزة للغاية، لقد فوجئنا بهذا!».
في بعض الحالات، يمكن الأشخاص -الأطفال على وجه الخصوص- تكوين ذكريات زائفة، أو ذكريات حية لأحداث لم تحدث أبدًا.
في كتاب «الذكريات المؤلمة والنسيان المفيد»، يذكر المؤلف الطبيب النفسي الألماني مايكل ليندن: «إن التوقعات الاجتماعية العالية قد تؤدي إلى تطوير ذكريات كاذبة لدى الأطفال الذين يتعلمون الاستجابة كما هو متوقع منهم. وقد تكون هذه الذكريات الكاذبة واقعية ومفصّلة بشكل ملحوظ، ما قد يجعل من الصعب تمييزها عن الذكريات الحقيقية».
حاولت دراسة أجريت عام 2011 ونشرت في مجلة Medical Hypotheses تحديد سبب حدوث الذكريات الكاذبة، واقترح الباحثون فيها أن الانقياد العاطفي كان بارزًا في الذكريات الكاذبة، إضافةً إلى أن العواطف قد تطغى أو تحل محل مشاعر الشك وعدم اليقين لذكرى غير صحيحة.
لاحظ مؤلفو هذه الدراسة أيضًا أن “الإيحاء” يبدو عاملًا رئيسيًا في تكوين الذكريات الكاذبة قبل أن يستنتجوا أن مفهوم الذاكرة الكاذبة في حد ذاته يمثل تحديًا لصورتنا الذاتية العقلانية الصادقة في نقل الذكريات الفعلية.
تكون ذكريات العمر المبكر عند كثير من الناس مبتذلة أو سطحية أو مجردة. لذلك، نظرًا لكوننا نتذكر الأحداث العاطفية بدرجة كبيرة من الوضوح، فما مدى احتمالية أن تكون هذه الذكريات دقيقة وذات معنى؟
نشر بيترسون دراسة في عام 2017 شملت الأطفال ممن كانت تتراوح أعمارهم بين 4 و9 سنوات، استرجع فيها الأطفال ذكرياتهم الأولى في البداية وسُئلوا عنها مرة أخرى بعد مضي ثماني سنوات.
قالت بيترسون: «تذكر الأطفال مع بعض التلميحات العامة معظم الأحداث وليس جميعها، وكان المحتوى المحدد الذي ذكروه مختلفًا في كثير من الأحيان».
وتضيف: «بالنسبة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 6 سنوات وما فوق في أثناء فترة تكوين الذكريات الأولية، وُجد القليل جدًا من المحتوى المتناقض، واختلف حسب ما اختار الأطفال الحديث عنه. على سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر برحلة تخييم معينة، غالبًا يصف الأطفال مكونات مختلفة. ومع ذلك، كان الأطفال في الرابعة أو الخامسة وقت المقابلة الأولية أكثر عرضة لمناقضة ما قالوه سابقًا».
في النهاية قالت الباحثة بيترسون: «من الصعب جدًا تحديد الدقة الحقيقية للذكريات، خاصة التي مصدرها مرحلة الطفولة الباكرة، ما لم يُسجل الحدث آنذاك ووجود دليل بالفيديو» .
اقرأ أيضًا:
اكتشاف نوع جديد من الخلايا العصبية يلقي الضوء على تشكل الذكريات
لماذا يحيي الاستماع إلى الموسيقى ذكرياتنا؟
ترجمة: زينب عبد الكريم
تدقيق: لين الشيخ عبيد