يُشير مصطلح تخليق الباريونات إلى أصل التناسق بين المادة والمادة المضادة في الكون، وتعني كلمة باريون الجسيمات دون الذرية من النيوترون أو البروتون، أو حالات طاقة مُثارة منها، مكونة من ثلاثة كواركات، يُمثل عدد الباريونات الفرق بين عدد الباريونات وعدد الباريونات المضادة، ويساوي ثُلث الفرق بين عدد الكواركات والكواركات المضادة. إن في الكون لغزًا يتعلق بالعدد الصغير جدًا للباريونات؛ إذ يوجد باريون واحد في كل خمسة أمتار مكعبة من الكون ، بعبارة أخرى؛ من بين كل 1010 (10 للأس 10) جسيم في الكون يوجد باريون واحد. يُفترض وجود وفرة في عدد الليبتونات، إذ نرى كل تلك الإلكترونات دون وجود إلكترونات مضادة، وتُعد النيوترينات ليبتونات أيضًا ولكنها صعبة الرصد، لذا لا نملك دليلًا على وجود خلل في توازن أعداد الليبتونات بطريقة أو بأخرى.
يتعقد اللغز أكثر، إذ لم تستطع أي تجربة مخبرية إثبات خرق عدد الباريونات، لأننا في المختبر نرى دائمًا نشوء وفناء الباريونات مرتبطًا بنشوء وفناء باريون مضاد ، وقد بحثت تجارب ضخمة، مثل تجربة مصادم كاميكوندي العملاق، دون جدوى عن تحلل البروتونات، إذ وضع العلماء في هذه التجربة حدود فترة حياة البروتون بـ 3310(10 للأس 33) سنة.
تقترح أفضل نظرياتنا لوصف أصل الكون، مثل نظرية التضخم، أن الكون بدأ دون وجود وفرة في عدد الباريونات -عدد صفري من الباريونات-. وضع عالم الفيزياء النووية الروسي (أندريه ساخاروف) ثلاثة شروط يجب أخذها بعين الاعتبار لشرح هذا اللغز:
● يجب أن يُخرق عدد الباريونات بشكل فعال في بداية الكون.
● يجب خرق تناظر الشحنة السوية (CP) وتناظرالشحنة (C) المتماثلة.
● يجب أن يتجاوز الكون مرحلة التوازن الحراري، في اللحظة المناسبة التي تحول فيها خرق عدد الباريونات من طريقة فعالة إلى طريقة الاحتفاظ.
الشرط الأول واضح، ويوجد الشرط الثاني بسبب علاقة التناظرات (C) و (CP) مع ما يحدث للباريونات والباريونات المضادة، ويوجد الشرط الثالث بسبب ما يعنيه التوازن الحراري لشروط الكون وتماثلها مع الزمن العكسي، وأن التناظر (CPT) المدمج هو بالتأكيد تناظر طبيعي، وهذا يعني أن التناظرات (T) و (CPT) متوافقة مع التناظر (CP)، الذي يخبرنا أن عدد الباريونات والباريونات المضادة يجب أن يكون ذاته.
هناك الكثير من الاقتراحات من العلماء عن كيفية ظهور الباريونات ، ولكن أغلبها يتطلب شروطًا فيزيائيةً تخمينية للغاية، وتتضمن بشكل عام كمية طاقة يصعب الوصول إليها في المسرعات الموجودة حاليًا، وهذا يعني للأسف، عدم قدرتنا على فهم الأمر في أي وقت قادم؛ ولهذا تُعد هذه الاقتراحات غير قابلة للتطبيق، على الأقل ضمن المختبر. هناك طرق أخرى لاختبار هذه التخمينات، وذلك عن طريق إيجاد افتراضات كونية، واخبتارها ضمن علم الكونيات، ولكن ليس هذا هو الهدف المنشود.
يُعد التخليق الكهروضعيف للباريونات اقتراحًا أنيقًا قدمه (مايكل شابوشينكوف)، يحاول فيه شرح وفرة عدد الباريونات باستخدام الفيزياء التي نعرفها فقط، أو تلك التي سنطبقها في تجارب فيزياء الجسيمات في المستقبل المنتظر.
يمكن شرح الاقتراح كما يلي؛ إنه على الرغم من عدم ملاحظة أحد لخرق عدد الباريونات، فإن النموذج المعياري المصغر-النظرية المصغرة المعاصرة لفيزياء الجسيمات- تُخمن أن هذا الخرق يجب أن يكون قد حدث.
يتضمن النموذج المعياري المصغر أساسًا كل الفيزياء الواجب وجودها لشرح وجود كل الجسيمات الفيزيائية المرصودة، ويجب أن يكون النموذج المعياري المصغر تفرعًا من نظرية فيزياء الجسيمات بغض النظر عن النظرية الحقيقية في فيزياء الجسيمات.
يحدث هذا الخرق من خلال شيء يدعى تحول سفاليرون، وهو مصطلح اخترعه نيك مونتان عام 1984م، واتضح أن هذا التحول ظاهرة غير نافعة إطلاقًا في الظروف الطبيعية، بينما تتحول إلى ظاهرة ذات نفع في درجات الحرارة العالية جدًا، أي: 1510 (10 للأس 15) درجة مئوية.
يتضمن النموذج المعياري المصغر خرقًا للتناظر (CP)، الذي يحدث فيه بشكل أفضل؛ لأن خرق التناظر (CP) رُصد في عدة تجارب مخبرية، وهناك احتمال على وجود انحراف في التوازن خلال الانتقال إلى المرحلة الكهروضعيفة.
هناك مشكلتان كبيرتان
الأولى هي أن خرق التناظر (CP) ضعيف جدًا ليستطيع شرح تخليق الباريونات، إذ يجب توفر شروحات فيزيائية أفضل كي تقدم شرحًا وافيًا عن خرق التناظر (CP). هناك حدود شديدة موضوعة على خرق التناظر (CP)، التي تشترط حدوث هذا الخرق من خلال تفاعلات يصعب جدًا قياسها في التجارب المستقبلية في فيزياء الجسيمات، وبكل الأحوال فإن خرق التماثل (CP) يجب أن يتضمن شروحات فيزيائية لا نعلم عنها شيئًا حتى الآن.
والمشكلة الثانية هي أنه، في النموذج المعياري المصغر، بما أننا نملك حدودًا مخففةً نوعًا ما حول كتلة بوزون هيغز، فنحن نعرف أنه لا يوجد انتقال إلى المرحلة الكهروضعيفة، لكن هذا لا يعني عدم وجود انتقال نحو المرحلة الكهروضعيفة في الطبيعة، ولكننا لا نعلم إن كان النموذج المعياري المصغر هو الوصف الأفضل للطبيعة، ولكي يحصل انتقال نحو المرحلة الكهروضعيفة يجب أن توجد جسيمات لم تكتشف بعد إلى جانب بوزون هيغز، إضافةً إلى أنه يجب أن تكون هذه الجسيمات خفيفةً ومقترنةً بمجال هيغز.
تعتمد الخفة على مدى الاقتران بمجال هيغز، فكلما كانت هذه الجسيمات ثقيلةً، كان الاقتران بمجال هيغز أكبر. فمثلًا، إذا كان مدى التناظر الفائق للنموذج القياسي صحيحًا، فيجب عندها أن يكون المرافق العددي للكوارك العلوي ذو كتلة أقل من (140) أو (150) جيجا إلكترون فولت. لم يُستبعد هذا الأمر تجريبياً؛ لكنه سؤال تجريبي لن نعرف إجابته لسنوات عديدة.
مقالات ذات صلة:
تطور الكون منذ الانفجار العظيم وحتى الآن
ترجمة: مازن سفّان
تدقيق: أسماء العجوري