تقنيّتان من الممكن أن تكونا على وشك أن تتفوّقا على أقوى الحواسيب الرقميّة في غضون عامٍ أو ما يقارب ذلك، ولكن التحدّيات الرئيسيّة تبقى قيد الحلّ – بقلم نيل سافاج في 5 تمّوز 2017م-.
لطالما حلم العلماء بتطوير آلاتٍ تعتمد على القوانين الركنيّة للفيزياء – حواسيب كمّيّة -؛ لتقوم بمهامٍ لا تقوى عليها إمكانيّات الحواسيب العملاقة الحاليّة.
ونظريًّا، آلةٌ كهذه تستطيع خلق نماذج معقّدة للغاية بالنسبة للحواسيب النمطيّة، ممّا يوسّع نطاق ودقّة النّشرات الجوّيّة، وتوقّعات الأسواق الماليّة، بالإضافة إلى بعض الأمور الأخرى، وبإمكان هذه الحواسيب محاكاة العمليّات الفيزيائيّة، مثل: عمليّة التمثيل الضوئي، الأمر الذي يفتح آفاقًا جديدةً في مجال الطاقة الخضراء، ويمكن للحوسبة الكمّيّة أيضًا أن تدفع الذكاء الاصطناعي إلى مستوى متطوّرٍ وأعلى بكثير، وإذا كان بإمكان حاسوب واتسون لشركة IBM أن يفوز بلعبة Jeopardy!، ويقوم ببعض التشخيصات الطبّيّة، فتخيّل ماذا يمكن أن تقوم به نسخةٌ أذكى بكثير.
ولتحقيق هذه الرؤى، على العلماء أن يكتشفوا أوّلًا كيفيّة بناء حاسوبٍ كمّي، يقوم بإنجاز عمليّاتٍ أكثر من العمليّات البسيطة، وقد أصبحوا الآن أقرب من أيّ وقتٍ مضى، ومع إعلان شركة IBM في شهر أيّار أكثر حاسوبٍ رقميٍ تعقيدًا حتّى يومنا هذا، ومع قول شركة غوغل إنّها تقترب من كشف النقاب عن معالجٍ بقدراتٍ تدعى بـ (التفوّق الكمّي)، لا يستطيع أيّ حاسوبٍ تقليدي مجاراتها.
إن الأنظمة الصغيرة موجودة، ولكن الخطوات التالية في السباق في جعلهم أكبر، هي التي ستحدّد ما إذا كانت الحواسيب الكمّيّة ستتمكن من تحقيق قدراتها، وقد ركّز العلماء، والصناعيّون بشكلٍ كبيرٍ على إحدى المقاربتين، فتمّ تبريد حلقةٍ من الأسلاك لما يقارب الـ (273.15) درجةً مئويّةً، أو الصفر المطلق، مما يجعلها ناقلًا فائقًا، بحيث يتدفّق التيّار نظريًّا بلا مقاومة، وتعتمد المقاربة الأخرى على الأيونات المحصورة – ذرّاتٌ مشحونةٌ من العنصر الأرضي النادر (الايتربيوم) الذي يتمّ وضعه في حجرة خاويةٍ عبر حزم ليزر، والتحكّم به عبر لايزرات أخرى-، وتتصرّف الشحنات المتذبذبة في كلٍّ من الأسلاك والأيونات المحصورة، كبت كمّي، أو ما يسمّى بالـ (كيوبت)، التي يمكن استخدامها لتنفيذ عمليّات الحاسوب.
الوثبات الكمّيّة
تكمن الخدعة في كلتا المقاربتين بتبيّن كيفيّة الانتقال من اللأنظمة التي تمّ توضيحها مسبقًا- التي تحتوي بضع الكيوبات- إلى تلك التي تستطيع أن تعالج المئات، والآلاف من الكيوبات المطلوبة للحمولة الثقيلة التي تعد بها التقنيّة الكمّيّة، وقد صنّعت شركة IBM معالجًا كمّيًا بخمس كيوبات متوفّرٍ للمطوّرين.
كي يقوم الباحثون والمبرمجون ببعض التجارب عبر بوّابته السحابيّة، ولقد حقّقت الشركة تقدّمًا ملحوظًا مذهلًا، وكشفت في شهر أيّار، عن أنّها قد طوّرت حاسوبها الكمّي السحابيّ إلى معالج بـ (16 ) كيوبت، وأنتجت معالجًا بـ (17) كيوبت محكم هندسيًّا بشكلٍ أكبر، ويمكن له أن يصبح أساسًا للنظم التجاريّة، ويعتمد كلا المعالجان على دارات من حلقات أسلاك الناقل الفائق، كمعالج غوغل الذي بـ (20) كيوبت، الذي أعلنت عنه الشركة في مؤتمرٍ، أُقيم في ميونخ في ألمانيا في 22 حزيران، وأخبر (آلان هو)- المهندس في مختبر غوغل للذكاء الإصطناعي الكمّي- الحاضرين في المؤتمر، إنّ شركته تتوقّع تحصيل تفوّقٍ كمّي عبر رقاقة بـ (49) كيوبت في نهاية هذه السنة.
قد لا تبدو هذه الأرقام مثيرةً للاهتمام، ولكن تفوق قوّة الكيوبت قوّة البت الذي يستخدم كأصغر وحدة للبيانات في الكومبيوتر العادي، فتلك البتات تعتمد على تدفّق التيّار الكهربائي، وتشكّل اللغة الرقميّة التي تعمل على أساسها كلّ الحواسيب، فغلق الإشارة تعني (0)، وفتحها يعني (1)، وتضمّ هاتين الحالتين كل عمليّات الحاسوب، غير أنّ الكيوبات لا تعتمد على إشارات كهربائيّة ترمز إلى: (نعم/ لا) – بل على حالة الجزيئة الكمّيّة، كاتّجاه غزل الإلكترون، وفي العالم الكمّي، يمكن للجزيئة أن تتواجد في الوقت نفسه في عدّة حالات أشدّ تعقيدًا من مجرّد ( فتح الإشارة/ غلق الإشارة)- وتسمى هذه الظاهرة بالتركيب، ويمكنك الحصول على طرّة (نقشة)، وأيضًا الحصول على أيّ تركيب موزون، ويقول الفيزيائي كريستوفر مونرو في جامعة ماريلاند، كليّة بارك، والمؤسّس لـ (LONQ)، الذي يحاول بدء العمل على بناء حاسوب كمّي بأيونات محصورة: إنه “يمكنك الحصول على 70- 30 طرّة – نقشة”.
يقول الفيزيائي النظري في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (CalTech)- (جون برسكيل): تسمح قدرة الكيوبات على التواجد في حالاتٍ متعدّدةٍ أكثر من ثنائيّةٍ بالقيام بعدّة عمليّات حسابيّة في الوقت ذاته، ممّا يوسّع ذلك بشكلٍ كبيرٍ قدراتهم الحسابيّة، وتنمو هذه القدرة باطرادٍ مع زيادة عدد الكيوبات؛ لذلك في مرحلةٍ ما، عند (49)، أو (50) كيبت، تصل الحواسيب الكمّيّة إلى قدرةٍ توازي ما يقارب الـ (10) كوادريليون بت، وتصبح قادرةً على إجراء حساباتٍ لا يستطيع أي حاسوب كلاسيكي مجاراتها، ويتابع: “إذا كانت الحواسيب ستقوم بأمور نافعة، سيشكّل هذا سؤال مختلف”.
ويقول (جيري تشاو)، مدير الحوسبة الكمّيّة التجريبيّة في مركز أبحاث ت.ج واتسون في شركة IBM في يوركتاون هايتس في نيويورك: “لدى كلّ من دارات الناقل الفائق، والأيونات المحصورة فرصة جيّدة في الوصول إلى عتبة الـ 50 كيوبت”، وسيوحي التفكير التقليدي أنّه كلّما زادت الكيوبات، زادت القوّة، ويشير تشاو إلى أنّ الأمر لا يتعلّق فقط بعدد الكيوبات، وأنّه مهتمّ بعدد ونوعيّة العمليّات الحسابيّة التي يمكن للآلة إجرائها، وبقياس يطلق عليه اسم: (الحجم الكمّي)، وهذا يتضمّن عوامل إضافيّة، كسرعة الكيوبات في إجراء العمليّات الحسابيّة، ومدى قدرتها على تجنّب أو تصحيح الأخطاء التي قد تنسلّ، وقد تعمل بعض هذه العوامل ضدّ بعضها البعض؛ لذا فإنّ إضافة الكيوبات، قد تزيد نسبة انتقال الأخطاء من كيوبت إلى آخر.
ويقول تشاو: “علينا كوننا من المجتمع أن نركّز – سواء أكنّا نعمل على كيوبات الناقل الفائق، أو على الأيونات المحصورة أو غيره – على دفع هذا الحجم الكمّي أكثر وأكثر؛ لنتمكّن حقيقةً من صنع معالج كمّي أقوى وأقوى، ونقوم بإنجاز أشياء لم نفكّر بإنجازها قطّ.”
أفضل، لا أكبر
أجرى مونرو حديثًا، مقارنة بين نظامه الـ (5) كيوبت الذي يعتمد على الأيونات المحصورة، وبين معالج شركة IBM الـ (5) كيوبت، عبر تشغيل الخوارزميّة البسيطة ذاتها على كلّ منهما، ووجد أنّ أداء الاثنين متقارب، ويقول: إنّ الفارق الأكبر، هو أنّ الأيونات المحصورة، متّصلة ببعضها البعض عبر قوى كهرومغناطيسيّة، فذبذب أيّ أيونٍ في سلسلةٍ من (30) أيونًا، وسيتفاعل كلّ واحدٍ من هذه الأيونات، ممّا يجعل انتقال المعلومات بينها بشكلٍ سريعٍ ودقيقٍ، عمليّةً سهلةً، وفي دارة حلقة أسلاك الناقل الفائق، فقط بضع الكيوبات متّصلة، ممّا يبطّئ انتقال المعلومات، ويقود إلى الأخطاء.
إن أحد ميزات دارات النقل الفائق، أنّها سهلة البناء كعمليّة بناء رقاقات الحاسوب، وتقوم بإجراء عمليّات البوّابات المنطقيّة للحاسوب، أي: الجمع، والطرح، أو غير ذلك من التلاعب بالبتات، في غضون جزءٍ من المليار من الثانية، ومن جهة أخرى، تحافظ الكيوبات من هذا النوع على حالتها الكمّيّة لبضع الميلّي ثانية -جزءٌ من ألف من الثانية-؛ لذلك على أيّ عمليّة أن يتمّ إنجازها خلال ذلك الوقت.
وعلى عكس ذلك، تحافظ الأيونات المحصورة على حالاتها الكمّيّة لعدّة ثوانٍ – في بعض الأحيان حتّى لدقائق أو لساعات- وتعمل البوّابات المنطقيّة في هذا النظام أبطأ بما يقارب الـ (1000) مرّة، من الحوسبة الكمّيّة المعتمدة على الناقل الفائق، ولا يشكّل تخفيض السرعة فارقًا في العمليّات البسيطة التي تتطلّب بضع الكيوبات، – كما يقول مونرو-، ويمكن لهذا الأمر أن يصبح مشكلةً، عندما نريد الحصول على جواب بوقت معقول، عندما يزداد عدد الكيوبات، ورفع الأعداد بالنسبة لكيوبات الناقل الفائق، قد يعني المزيد من الكفاح لوصلها ببعضها.
إنّ زيادة عدد الكيوبات، بصرف النظر عن التقنيّة المستخدمة، يصعّب توصيلها ببعضها والتلاعب بها؛ لأنّ هذا يجب أن يحصل عند إبقاء هذه الكيوبات منفصلةً عن باقي العالم؛ كي تحافظ على حالاتها الكمّيّة، وكلّما زادت الذرّات أو الإلكترونات المجموعة سويًّا بأعداد كبيرة، كلّما انطلقت قوانين الفيزياء الكلاسيكيّة، وكلّما قلّت أهمّيّة الخصائص الكمّيّة للذرّات المنفردة بالنسبة لتصرّف المنظومة ككلّ، يقول مونرو: “عندما تجعل من الحاسوب الكمّي كبيرًا، سيصبح أقلّ كمّية.”
ويظنّ تشاو أنّ الحواسيب الكمّيّة ستصبح قويّة؛ لتستطيع أن تقوم بأمرٍ يفوق قدرة الحاسوب الكلاسيكي -لربّما محاكاة في الكيمياء الكمّيّة- في غضون 5 أيّام.
ويقول مونرو: “إنّه لمن المنطقي أن نتوقّع خلال عقدٍ من الزمن أو ما يقاربه، وجود أنظمةٍ تحتوي بضع الآلاف من الكيوبات لحدٍّ ما”، ويضيف: “إنّ الباحثين لن يستطيعوا أن يدركوا ما يمكنهم القيام به بهكذا أنظمة، حتّى يتبيّنوا كيفيّة بنائها”، ويقول برسكيل البالغ من العمر 64 سنة، إنّه يظنّ أنّه سيتمكّن من العيش مطوّلًا؛ ليتمكن من رؤية أنّ الحواسيب الكمّيّة، قد تركت أثرًا على المجتمع بالطريقة نفسها، التي ترك بها الإنترنت والهواتف النقّالة أثرًا – مع أنّه لا يستطيع تحديد أيّ أثرٍ هذا
ويتابع: “هذه الأنظمة الكمّيّة تتكلّم بلغةٍ لا تفهمها الأنظمة الرقميّة، ونحن نعلم على إثر التاريخ أنّنا لانستطيع أن نتخيّل أين ستؤدّي بنا تقنيّات المعلومات الجديدة هذه”.
- ترجمة: منال جابر
- تدقيق: رجاء العطاونة
- تحرير: أحمد عزب