تُعد الكهوف الملاجئ الأولى للبشر على سطح الأرض، إذ مثّلت ملاذًا للحماية عندما كانت العصي والحجارة والفراء والنار التقنيات الوحيدة للدفاع عن النفس. أيضًا اعتبر أجدادنا الأوائل الكهوف أماكن توفّر لهم الوقاية من أشعة الشمس والمطر ومَهجَعًا للنوم، ومطبخًا لإعداد الطعام على النار، وملجأً يحميهم من الحيوانات المفترسة.
يتشابه زوار القمر حاليًا مع أجدادنا الأوائل، القمر حيث لا مكان للاحتماء به إلّا الكهوف، التي يمكن أن تحمينا كما حمت أجدادنا الأوائل على سطح الأرض.
ما المخاطر التي يمكن مواجهتها على سطح القمر؟
توجد مخاطر عديدة قد تواجه زوار القمر ومستكشفيه، منها الإشعاعات الكونية والنيازك وتقلبات درجات الحرارة وتأثير المقذوفات.
وجد مستكشف القمر المداري (LRO) المئات من الفتحات القمرية والمواقع التي تشكّلت جراء فوران قنوات من الحمم البركانية، ما جعل هذه القنوات فارغة بما يشبه الكهوف.
من الصعب الجزم دون استكشاف، ولكن قد توجد أنفاق الحمم البركانية هذه التي يبلغ قطرها مئات الأمتار على سطح القمر.
تُعد هذه المساحة الكبيرة أمرًا إيجابيًا، إذ ستمكن الباحثين من العمل على توفير المأوى والحماية التي يحتاجها رواد الفضاء. تتمثل الفكرة في أنّ السقف الصخري لنفق الحمم البركانية يوفر حماية لرواد الفضاء من الأشعة الضارة وغياب الغلاف الجوي على السطح.
تدرس الصين الفكرة الآن، تمامًا كما درسها أناسٌ من قبلهم. إذ إن كهوف الحمم القمرية قد تكون موردًا ثمينًا للغاية، ولا يمكن تجاهله.
تسمى أنفاق الحمم أيضًا بالقنوات الحرارية، إذ تتشكل هذه القنوات الحرارية عندما تبدأ الحمم المتدفقة عبر سطح القمر بالبرود، ويكوّن الجزء العلوي من الحمم المتدفقة قشرة صلبة فيما تستمر الحمم المنصهرة في التدفق تحتها، وفي النهاية تُصرّف وتترك نفقًا فارغًا. الظاهرة نفسها موجودة على سطح الأرض.
لا توجد أدلة تؤكد متى انتهت هذه البراكين القمرية، إذ تشير بعض التقارير إلى أن انتهاء البراكين القمرية يعود إلى مليار عام مضى بينما بعض التقارير الأخرى تشير إلى انتهائها منذ 50 مليون عام مضى.
في كلتا الحالتين، فإن أنفاق الحمم البركانية القمرية قديمة للغاية ولم تُمس حتى الآن.
يجب على رواد الفضاء على القمر التعامل مع تقلبات درجات الحرارة، إذ يتعرض جانب واحد من القمر لأشعة الشمس المباشرة لنصف الوقت، وتصل درجات حرارة السطح فيه إلى 127 درجة مئوية، بينما الجانب المقابل الذي لا يتعرض لأشعة الشمس، الجانب المظلم، فتكون درجة حرارته منخفضة تصل إلى -173 درجة مئوية.
هذا التأرجح الحاد في درجات الحرارة يجعل من الصعب العمل على سطح القمر، وهندسة المعدات التي يمكن أن تكون فعالة في مثل هذا الظروف القاسية. وهنا يأتي دور أنفاق الحمم البركانية القمرية التي توفر بيئة ثابتة لدرجة الحرارة لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر على القمر.
من المخاطر الأخرى التي يواجهها رواد الفضاء على سطح القمر هو الإشعاع، يُعد الإشعاع بدوره خطرًا كبيرًا قد يؤدي إلى الموت، إذ يمكن أن يكون أقوى بـ 150 مرة من على سطح الأرض. لكن الكهوف القمرية ستؤمن الحماية اللازمة لرواد الفضاء وسيكونون محميين بعدة أمتار من الصخور العلوية وهذا ما يُعد حاجزًا سميكًا كفايةً ليوفر حمايةً فعالة.
أيضًا تؤمِّن الكهوف القمرية الحماية من حوادث الارتطام والحُطام الناجم عنها، وهذا ما يميز هذه الكهوف كونها تعد ملاذًا حتى من بقايا الحطام الصغيرة.
درست فرق مختلفة من العلماء من دول ووكالات مختلفة فكرة استخدام أنفاق الحمم البركانية القمرية كملجأ. وقدم تشانغ تشونغ فنغ من أكاديمية شنغهاي لتكنولوجيا الرحلات الفضائية دراسة حول عالم أنفاق الحمم البركانية تحت الأرض في مؤتمرٍ عقد مؤخرًا في الصين، إذ أقدم باحثون صينيون على عمل ميداني في أنفاق الحمم الصينية لفهم كيفية استخدامها على القمر.
وفقًا لتشانغ، هناك تشابه كافٕ بين أنابيب الحمم البركانية القمرية والأرضية لكي يكون أحدهما مناظرًا للآخر. فلكليهما نوعان من المداخل، رأسية ومنحدرة.
معظم ما وجدناه على القمر هي أنابيب مفتوحة رأسيًا، وقد يعود سبب ذلك للرؤية العلوية. تسمى هذه الفتحات بالمناور، وتشكلّت بسبب انهيار السقف وتراكم الحطام تحتها على أرضية النفق، وللدخول لهذه الفتحات قد يتطلب الأمر إما الطيران أو استخدام نوع من معدات الرفع الرأسي.
أما المداخل المنحدرة تجعل الدخول والخروج أسهل بكثير من المداخل الرأسية ومن المحتمل أن تتمكن العربات من السير داخلها بسهولة حتى لو اضطر رواد الفضاء لإزالة بعض الحطام المتراكم الذي يعترض طريق العربة. يفضل تشانغ المداخل المنحدرة لسهولة العمل والبحث.
تعطي الصين الأولوية لأنفاق الحمم القمرية في بحر الهدوء، (Mare Tranquillitatis) وبحر الخصوبة (Mare Fecunditatis) للاستكشاف. وتخطط الصين لإنشاء نظام روبوت قادر على استكشاف كهوف مثل الكهوف الموجودة في بحر الهدوء وسيكون للمسبار الأولي عجلات أو أقدام وسيُصمم للتكيف مع التضاريس الصعبة والتغلب على العقبات.
يمكن للمركبات المساعدة أن تنفصل عن المسبار الرئيسي للقيام بمزيد من الاستطلاع والمساعدة في الاتصالات وتزويد الطاقة، ويمكن تنويعها لتتمكن البعثة من التصدي لمختلف التحديات والعثرات التي قد تواجهها.
هذه المركبات المساعدة قد تشمل مجسات الزحف متعددة الأرجل، مجسات التدحرج وحتى مجسات الارتداد. وتزوّد هذه المركبات المساعدة أيضًا بأجهزة علمية لدراسة الغبار القمري، الإشعاع ووجود جليد الماء في الأنفاق.
وتخطط الصين أيضًا لإنشاء روبوت قادر على الطيران وعلى شق طريقه عبر أنفاق الحمم القمرية بشكلٕ مستقل باستخدام رادارات ميكروية والليزر.
تتمثل خطة الصين المستقبلية، بعد عملية الاستكشاف الناجحة، بإنشاء قاعدة مأهولة، إذ ستكون قاعدة لإجراء بحوث طويلة المدى في أنفاق الحمم القمرية، مع مركز دعم للطاقة والاتصالات عند مداخل هذه الأنفاق، وستضم القاعدة أيضًا مرافق سكنية وبحثية داخل النفق.
لا تتمتع الصين بنفس الحماس لمشاركة المعلومات التي تملكها كما تفعل باقي المنظمات مثل وكالة ناسا، لذا من الصعب جدًا الكشف عن التفاصيل، ولكن مما لا شك فيه أن أنشطة الصين الفضائية أصبحت في صعود في الوقت الحالي، مع إنجاز العديد من المهام الناجحة، البعض منها ما يزال جاريًا، بالإضافة إلى التخطيط لمهام أخرى في المستقبل.
في ربيع عام 2023، أعلنت الصين عن خطط للبدء في بناء قاعدة قمرية بحلول عام 2028، ومع أنه ليس من الواضح ما إذا كان هذا الإعلان يشير إلى بناء قاعدة داخل أحد أنفاق الحمم القمرية. واعتبر الكثيرون أن هذا الإعلان مناقض لأحدث التصريحات الواردة من الصين التي تنص على أن الصين تخطط لتحقيق هبوط بشري على سطح القمر بحلول عام 2030.
يقول دينغ لي يون، وهو عالم بارز في جامعة هواتشونغ للعلوم والتكنولوجيا، لصحيفة تشاينا ساينس ديلي: «إن بناء قواعد استيطانية خارج الأرض أمر أساسي ليس فقط لسعي البشرية إلى استكشاف الفضاء ولكن أيضًا لاحتياجات الصين الاستراتيجية كقوة فضائية». هذه اللغة تشبه بالضبط تصريحات ناسا عندما تتحدث عن مشروع أرتميس.
استعدادًا لمزيد من البعثات القمرية، درس الباحثون كلًا من منطقتي بحر الخصوبة وبحر الهدوء، وقد نشر باحثون صينيون في عام 2022 الخصائص البركانية لمنطقة بحر الخصوبة في مجلة Remote Sensing.
منطقة بحر الخصوبة غنية بالمعالم البركانية، بما في ذلك أنفاق الحمم البركانية. وأشار بحث منشور عام 2022 إلى أنه لم تقطع أي بعثة إلى سطح القمر أكثر من 40 كم ولكن هذا سوف يتغير في المستقبل.
اقترح الباحثون مهمة لمدة خمس سنوات مماثلة لبعثات استكشاف المريخ التابعة لوكالة ناسا، إذ في غضون خمس سنوات، يمكن عربة صينية استكشاف منطقة بحر الخصوبة باجتياز 1400 كم وبدراسة الخصائص البركانية لأنفاق الحمم القمرية، يمكنهم تطوير فهم أكثر شمولًا لجيولوجيا القمر الإقليمية. ويمكنهم أيضًا اختيار موقع لقاعدة قمرية.
الصين ليست أول من اقترح فكرة إنشاء القواعد البحثية المأهولة في أنفاق الحمم القمرية. الفكرة موجودة منذ وقت طويل ولكن على ما يبدو سوف تصبح الصين وغيرها من الدول المرتادة للفضاء في وضع يسمح لها باستكشافها، والبدء بجدية في إجراء مثل هذه المحاولات.
إن استكشاف الفضاء والسياسة متشابكان، لذلك تبدو الصين متحفظة حول إعطاء المزيد من التفاصيل حول أفكارها وأبحاثها على سطح القمر، ولكن في النهاية فإن دولة الصين واضحة للغاية وأعلنت هدفها بكلّ شفافية وهو بناء قاعدة مأهولة في إحدى كهوف القمر.
بالتأكيد، ستراود روّاد الفضاء الصينيين المقيمين في الكهوف القمرية بعض الأفكار حول أجدادنا الأوائل وكيف عاشوا داخل هذه الكهوف واحتموا بها كما يفعلون هم الآن، ربما سيكون أحدهم أول من سيضع الرسوم على جدار الكهف القمري، ومن يعلم، في يوم من الأيام، بعد أن تتلاشى البشرية، قد يجد المستكشفون الفضائيون في المستقبل هذه العلامات ويفكرون في معناها ودلالاتها.
اقرأ أيضًا:
أولى أنواع الحياة على المريخ دمرت نفسها في أثناء أزمة مناخية
رصد أحد أثقل العناصر الكيميائية في الغلاف الجوي لكوكب خارجي
ترجمة: يزن دريوس
تدقيق: علام بخيت كباشي