في وقت ما قرب نهاية العصر الجليدي الأخير، اقترب ذئب رمادي بحذر شديد من معسكر بشري، فوضعت تلك الخطوات المؤقتة الأولى جنسه على طريق تحول جذري: قبل ما لا يقل عن 15000 عام، أصبحت تلك الذئاب كلابًا، ولم تكن (لا هي ولا رفاقها) من البشر أبدًا كما كانت. لكن كيفية تطور هذه العلاقة على مدى آلاف السنين التي تلت ذلك كان لغزًا، وبدأ العلماء الآن بملء بعض الفراغات بالمقارنة الأكثر شمولًا بين الكلاب القديمة والحمض النووي البشري، وكشفوا عن الأماكن التي سافر إليها البشر والكلاب معًا، والأماكن التي ربما افترقوا فيها.
يقول ولفجانج هاك -عالم الآثار في معهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ البشرية-: «إنها دراسة رائعة حقًا … لقد بدأنا أخيرًا برؤية كيفية تطابق قصة الكلب مع قصة الإنسان».
يُعد تدجين الكلاب واحدًا من أكبر الألغاز، ومع أن هذه الدراسات بدأت منذ عقود، فإن العلماء لم يكتشفوا إلى الآن مكان الكلاب ونشأتها وكيفية حدوث ذلك.
خلصت دراسة أجريت عام 2016 إلى أن تدجين الكلاب ربما حدث مرتين، مرة في آسيا ومرة في أوروبا أو الشرق الأدنى، لكن وفقًا لآراء النقاد، لم توجد أدلة كافية للتأكد من صحة ذلك. بعد بضع سنوات، أبلغ الباحثون عن علامات على وجود كلاب في الأمريكتين منذ 10000 عام، ومع ذلك يبدو أنها اختفت دون أثر وراثي. وجدت دراسات أخرى دليلًا على وجود كلاب قديمة في سيبيريا وأماكن أخرى، لكن العلماء لا يعرفون كيف وصلت إلى هناك أو كيفية ارتباطهما.
لملء بعض الفراغات، تعاون اسمان كبيران في علم الوراثة البشرية والكلاب وهما: غريغور لارسن -عالم الأحياء التطورية في جامعة أكسفورد- وبونتوس سكوغلوند -عالم الحفريات القديمة في معهد فرانسيس كريك-، وفحص لارسن وسكوغلوند وزملاؤهم أكثر من 2000 مجموعة من بقايا الكلاب القديمة التي يعود تاريخها إلى 11000 عام تقريبًا من أوروبا وسيبيريا والشرق الأدنى. خلال هذه العملية أضافوا 27 جينومًا للكلاب القديمة إلى خمس جينومات مسجلة مسبقًا، ثم قارنوها مع جينومات 17 شخصًا عاشوا في نفس الأماكن والأوقات التي عاشت فيها الكلاب.
كشف الحمض النووي للكلب وحده عن بعض المفاجآت، فمنذ 11000 عام كانت توجد بالفعل خمس سلالات متميزة من الكلاب، أدى ذلك إلى ظهور الكلاب في الشرق الأدنى وشمال أوروبا وسيبيريا وغينيا الجديدة والأمريكتين، وفقًا لتقرير الفريق في مجلة Science. يقول سكوغلوند: «كان يجب أن يحدث التدجين قبل ذلك بوقت طويل» لأن الكلاب كانت قد تنوعت كثيرًا بحلول ذلك الوقت.
يتناسب ذلك مع الأدلة الأثرية التي عُثر عليها: أقدم بقايا كلب نهائي جاءت من ألمانيا منذ حوالي 15000 إلى 16000 عام. من اللافت للنظر أن قطعًا من هذه السلالات القديمة لا تزال موجودة في كلاب اليوم.
مثلًا، وجد الفريق أنه من الممكن تتبع بعض أسلاف كلاب الشيواوا وصولًا إلى الكلاب الأمريكية المبكرة، كما تمتلك كلاب الهاسكي الدلائل الجينية لكلاب سيبيريا القديمة. يقول سكوجلوند: «إذا رأيت مجموعة من الكلاب المختلفة في متنزه للكلاب، فقد يكون لديهم جميعًا أسلاف مختلفة تعود إلى 11000 عام».
عندما قارن الباحثون الحمض النووي للكلاب مع الحمض النووي الحديث والقديم للذئاب، جاءتهم مفاجأة أخرى. تلتقط معظم الحيوانات المستأنسة مادتها الوراثية من أقاربها البرية حتى بعد التدجين، لأن النوعين غالبًا ما يعيشان على مقربة شديدة ويمكنهما التزاوج (كما هو حال الخنازير والخنازير البرية). لكن الكلاب لا تظهر مثل هذا التدفق الجيني من الذئاب. وبدلًا من ذلك، اكتسبت الذئاب حمضًا نوويًا جديدًا من الكلاب.
يرجع لارسون ذلك إلى العلاقة الحميمة بين الكلاب والبشر. إذ أوضح أنه إذا أصبح خنزيرك أو دجاجتك أكثر وحشية بعض الشيء بفضل تدفق الحمض النووي الوحشي، فذلك غير مهم، لأنك ستأكلهما على أي حال، لكن الكلاب المحليين سيكونون حرّاسًا ورفاق صيد وأصدقاء سيئين. يقول لارسون: «إذا كنت كلبًا ولديك القليل من الذئب بداخلك، فهذا سيكون فظيعًا» فالناس سيتخلصون من الكلب.
يشير تحليل الكلب الذئب أيضًا إلى أن الكلاب تطورت مرة واحدة فقط، من مجموعة الذئاب المنقرضة الآن. ومع ذلك، يقول لارسون الذي قاد دراسة 2016 حول أحداث التدجين المتعددة، إننا بحاجة إلى مزيد من البيانات لإتمام العملية.
ثم أدخل العلماء البشر في هذا المزيج، فاختاروا عينات من الحمض النووي البشري من نفس الأماكن والعصور التي عثروا فيها على الحمض النووي للكلاب القديمة، وتتبعوا التاريخ الجيني لكل منها. يقول سكوجلوند: «يبدو الأمر كما لو أن لديك نصًا قديمًا بلغتين مختلفتين، وأنت تتطلع إلى معرفة كيف تغيرت كلتا اللغتين بمرور الوقت».
وجد الفريق تداخلًا قويًا بين جينومات الإنسان والكلاب في كثير من الأماكن، على سبيل المثال، يتتبع المزارعون وصغارهم في السويد أسلافهم في الشرق الأدنى منذ حوالي 5000 عام. ويشير ذلك إلى أن المزارعين الأوائل اصطحبوا كلابهم معهم مع انتشار الزراعة في جميع أنحاء القارة. يقول لارسون: «يبدو أن البشر يتحركون كثيرًا، ويتنقلون مع كلابهم».
لكن في بعض الأحيان لا تتطابق القصص مع بعضها. جاء المزارعون في ألمانيا منذ حوالي 7000 عام من الشرق الأدنى وعاشوا أيضًا مع الكلاب. لكن هذه الحيوانات بدت أكثر شبهًا بصغار الجراء التي جاءت من سيبيريا وأوروبا.
يقول هاك: «يشير هذا إلى أن العديد من المهاجرين الأوائل تبنوا كلابًا محلية كانت تتكيف بشكل أفضل مع بيئتها الجديدة». ويضيف بيتر سافولاينن أيضًا -عالم الوراثة في المعهد الملكي للتكنولوجيا والخبير في أصول الكلاب-: «كانت الفوائد كثيرة … لقد كانت لطيفة. يمكنك الاستفادة منها، وبوسعك حتى أكلها».
يصف سافولاينن الدراسة بأنها شاملة للغاية، وأنه من الرائع أن يتمكن الباحثون من جمع الكثير من البيانات معًا. لكنه جادل منذ فترة طويلة بأن الكلاب نشأت في جنوب شرق آسيا، ويقول إن العمل غير مكتمل دون وجود عينات من تلك الزاوية من الكرة الأرضية: «من دونها قد تفقد جزءًا مهمًا من الصورة».
في الوقت الحالي، يقول لارسون إن فريقه يحلل الكثير من جينومات الذئاب والكلاب، بدأ وزملاؤه أيضًا بالنظر إلى شكل الجمجمة القديم والعلامات الجينية التي قد تعطي أدلة على شكل الكلاب المبكرة. ومهما وجد، فهو يتوقع أن يتفاجأ. يقول: «علينا أن نتوقع ما هو غير متوقع، لأن هذا هو كل ما سنحصل عليه من الحمض النووي القديم».
اقرأ أيضًا:
الكلاب مهيئة منذ ولادتها لفهم البشر
دراسة تكشف عن التغيرات التي طرأت على أدمغة الكلاب عبر القرون بفعل البشر
ترجمة: ديانا بريمو
تدقيق: وسام عمارة
مراجعة: محمد حسان عجك