يعد المحيط الجنوبي نطاقًا واسعًا من المياه المفتوحة التي تحيط بالكوكب بالكامل من القارة القطبية الجنوبية إلى نصف الكرة الجنوبي. إنه أكثر الأماكن المكتظة بالغيوم على الأرض، ويؤدي ضوء الشمس المنعكس أو المار عبر تلك الغيوم دورًا مهمًا في المناخ العالمي. ويؤثر على أشكال الطقس، وتيارات المحيطات، والغطاء الجليدي البحري في القطب الجنوبي ودرجة حرارة سطح البحر وهطول الأمطار في المناطق الاستوائية.
ولكن لأن المحيط الجنوبي يعد من الأماكن النائية عن البشر، كان من الصعب دراسة الغيوم هناك من كثب. وبسبب هذا النقص في المعلومات، فإن نماذج الحاسوب التي تحاكي وتتنبأ بحالات الطقس الحالية والمستقبلية تبالغ في تنبؤ كمية أشعة الشمس التي تصل إلى سطح المحيط بالمقارنة مع ما رصدته الأقمار الصناعية بالفعل.
إن السبب الرئيسي وراء هذا التباين هو كيفية محاكاة نماذج الحاسوب للغيوم الموجودة. ولكن لا أحد كان يعلم تمامًا ما السبب وراء اختلاف حالة الغيوم الحقيقية عن الحالة المتنبأ بها في النماذج. يحتاج الباحثون لفهم أفضل لكيفية تشكل الغيوم هناك، لكي تعمل النماذج بشكل أفضل.
لاكتشاف ما يحدث بالفعل في الغيوم فوق المحيط الجنوبي، مضت مجموعة صغيرة من علماء الطقس لمعرفة كيف تتشكل تلك الغيوم في ذلك الجزء البعيد من العالم، ومتى؟ ما وجدناه كان مفاجئة، على عكس المحيطات في نصف الكرة الشمالي، لم يحتو الهواء فوق المحيط الجنوبي والذي أُخذت عينات منه على أي جسيمات من اليابسة تقريبًا. وهذا قد يرجح اختلاف الآلية التي تتكون بها الغيوم في تلك المنطقة، مقارنةً بالمناطق الأخرى. ويمكن استخدام تلك البيانات لتحسين النماذج المناخية.
غيوم جليدية وغيوم سائلة
تتكون الغيوم من قطرات صغيرة من الماء، أو بلورات ثلجية، أو غالبًا خليط من الاثنين. يؤدي نوع الجسيم المكوّن للغيوم دورًا كبيرًا في تحديد هل ستتكون الغيوم من قطرات سائلة أو بلورات ثلجية؟ من الممكن أن تكون تلك الجسيمات طبيعية مثل رذاذ البحر أو الغبار أو حتى البكتيريا، أو من مصادر بشرية مثل السيارات والمواقد ومحطات الطاقة وما إلى ذلك.
بالنسبة لغير المختص، تبدو غيوم الثلج والغيوم السائلة متشابهةً إلى حد كبير، ولكن لكل منها خصائصها المختلفة. تعكس الغيوم الثلجية كميةً أقل من ضوء الشمس، وتزول سريعًا فلا تبقى فترات طويلة مثل الغيوم السائلة.
تميل نماذج المحاكاة إلى توقع وجود عدد كبير جدًا من الغيوم الثلجية فوق المحيط الجنوبي وعدم وجود غيوم سائلة كافية مقارنةً بما أظهرته الأقمار الصناعية. ولكن من الجدير بالذكر أن قياسات الأقمار الصناعية حول الأقطاب تكون في غاية الصعوبة، وذات دقة أقل مقارنةً بالمناطق الأخرى من الكوكب. لذلك أردنا جمع أدلة مباشرة على كمية الغيوم السائلة الموجودة بالفعل، وتحديد سبب وجود كمية أكثر عن التي أظهرتها نماذج المحاكاة.
كان هذا هو اللغز: لماذا هناك من الغيوم السائلة أكثر مما يتنبأ به نموذج المحاكاة؟ لكي نحل ذلك الأمر كنا بحاجة إلى معرفة نوع الجزيئات التي تطفو في الغلاف الجوي فوق القارة القطبية.
اقترحت نماذج بعض الدراسات أن تكون الجزيئات الثلجية التي وُجدت فوق المحيط الجنوبي مختلفةً تمامًا عن التي وُجدت في نصف الكرة الشمالي. يعد الغبار مكونًا رئيسيًّا للغيوم الثلجية، وبسبب نقص مصادر الأتربة في نصف الكرة الجنوبي، افترض بعض العلماء أنواعًا أخرى من الجزيئات قد تنشأ عنها الغيوم الثلجية فوق المحيط الجنوبي.
نظرًا لأن معظم النماذج اعتمدت على بيانات من نصف الكرة الشمالي، وإذا كانت الجزيئات في الغلاف الجوي في نصف الكرة الجنوبي مختلفةً عن الجزيئات في نصف الكرة الشمالي، قد يفسر ذلك الخللَ بين نماذج المحاكاة وما ترصده الأقمار الصناعية.
الخرائط البكتيرية
من الصعب معرفة مكونات الجزيئات فوق المحيط الجنوبي مباشرةً، ببساطة لعدم وجود الكثير من الجسيمات هناك. لذلك قمنا باستخدام طرق مختلفة غير مباشرة لمعرفة مم تتكون الغيوم؟ ألا وهي: البكتيريا الموجودة في الهواء.
إن الغلاف الجوي مليء بالكائنات الحية الدقيقة التي يحملها الهواء آلاف الكيلومترات قبل أن تعود إلى الأرض. تختلف تلك البكتيريا عن بعضها، وهي فريدة وبإمكانك تحديد المكان الذي أتت منه. وبما إن العلماء على علم بمعظم الأماكن التي تغطيها البكتيريا، فيمكننا إلقاء نظرة من كثب على الميكروبات في عينة الهواء وتحديد مصدر هذا الهواء. وفور معرفة ذلك يمكن أن نتنبأ بالمكان الذي أتت منه تلك الجزيئات.
من أجل أخذ عينات من بكتيريا هواء تلك المنطقة النائية، توجه أحدنا إلى المستقصيR/V التابع للمنشأة البحرية الأسترالية الوطنية. استغرقت الرحلة ستة أسابيع. كان الطقس متقلبًا للغاية، ولكن خلال يومين قمنا بامتصاص الهواء من أعلى السفينة، باستعمال مرشح يلتقط الجزيئات والبكتيريا المحمولة في الجو. ومن ثم قمنا بتجميد المرشحات للحفاظ على الحمض النووي للبكتيريا.
بكتيريا المحيط
يحتوي هواء معظم نطاقات المحيطات حول العالم، وخصوصًا في نصف الكرة الشمالي، حيث يوجد الكثير من اليابسة، على كل من الجزيئات البحرية والبرية، وهذا ما كنا نتوقعه بالخطأ في الجنوب.
مع عودة الفلاتر الحاملة للعينات بأمان إلى مختبراتنا في كولورادو، استخرجنا الحمض النووي من البكتيريا وقمنا بتحليلها لتحديد الأنواع التي حوتها العينة، لقد دُهشنا! فجميع البكتريا كانت تنتمي في الأساس للأنواع البحرية التي تعيش في المحيط الجنوبي. ولم نجد أي بكتيريا أرضية تقريبًا.
إذا كانت البكتيريا من المحيط فإن الجسيمات التي تشكل الغيوم ستكون من المحيط أيضًا، وهذا هو الجواب الذي كنا نبحث عنه.
برذاذ يتكون معظمه من الجزيئات البحرية المتطايرة في الهواء، نتوقع أن تتكون الغيوم من قطرات سائلة، وهذا ما لاحظناه. نظرًا لأن معظم نماذج المحاكاة تدرس الغيوم في تلك المنطقة بنفس الطريقة التي تدرس فيها الغيوم في نصف الكرة الشمالي الأكثر تأثرًا بالغبار والأتربة، كانت النماذج متباينةً ولا عجب في ذلك.
للمضي قدمًا
الآن بعد أن تيقنا من أن غيوم المحيط الجنوبي تتكون في الصيف من جزيئات بحرية، نحن بحاجة إلى معرفة أيحدث الشيء نفسه في الفصول المختلفة وعلى ارتفاعات أعلى؟ وفر المشروع الضخم الذي تضمن طائرات وسفنًا فكرةً أفضل بكثير للعلماء عن كل من الغيوم القريبة من سطح المحيط والعالية في الغلاف الجوي. يقوم مصممو نماذج المحاكاة بيننا بدمج تلك البيانات إلى نماذجهم. ونأمل أن تخرج نتائجهم إلى النور سريعًا.
اكتشاف أن جزيئات الهواء فوق المحيط الجنوبي تأتي غالبًا من المحيط هو حقًّا اكتشاف رائع! إنه لم يُحسِّن نماذجنا عن المناخ العالمي فحسب، بل أيضًا سيؤكد أن الهواء فوق المحيط الجنوبي أحد أكثر الأماكن التي تحوي هواءً نقيًا، وهو حيّز ربما لم تغيره الأنشطة البشرية كثيرًا. نأمل أن تُحسِّن نتائجنا النماذج المناخية.
اقرأ أيضًا:
التغير المناخي يقتل أعدادًا من الناس أكثر مما اعتقدنا!
تأكد الأمم المتحدة على ضرورة مكافحة التغير المناخي على اعتباره كارثة مثل جائحة كورونا
ترجمة: آية قاسم
تدقيق: رزوق النجار
مراجعة: رزان حميدة
