برز مصطلح «التقارب» في الفترة بين أواخر الستينيات وأواخر السبعينيات من القرن الماضي، التي شهدت تقاربًا ملحوظًا بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في أثناء قيام الحرب الباردة، وأسفرت تلك المرحلة عن مفاوضات ومعاهدات مثمرة بشأن الحد من الأسلحة النووية وتحسين العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، ثم كان من شأن الأحداث التي وقعت في نهاية العقد أن تعيد قطبي العالم المتوتر إلى شفا الحرب.
يشير استخدام مصطلح (التقارب -detent ) -كلمة فرنسية تعني «الاسترخاء»- إلى تخفيف العلاقات الجيوسياسية المتوترة إلى فترة «الاتفاق الودي»، الذي أبرمته مملكة بريطانيا العظمى والجمهورية الفرنسية عام 1904، معلنةً إنهاء قرون من الحروب المتقطعة بين الطرفين، ومبشرةً بمعاهدات أنتجت صعود قوى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وما تلاها.
في سياق الحرب الباردة، وصف رئيسا الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد مرحلة «التقارب» بأنها «تذويب» لا بد منه للدبلوماسية النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لتجنب المواجهة النووية.
الانفتاح، على طراز الحرب الباردة:
بينما كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي متوترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بلغت المخاوف من اندلاع حرب بين القوتين النوويتين العظيمتين أشُدها مع أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وكان تصاعد تلك الأزمة أشبه باليوم الأخير للبشرية. حفز هذا قادة كلا البلدين على تنفيذ بعض اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية التي شهدها العالم لأول مرة، متضمنةً معاهدة الحظر المحدود للتجارب في عام 1963.
ومن ثمار أزمة الصواريخ الكوبية، وضع خط هاتف مباشر -ما يُعرف بالهاتف الأحمر- بين البيت الأبيض الأمريكي والكرملين السوفيتي في موسكو، ما سمح لقادة البلدين بالتواصل مباشرةً، من أجل تقليل مخاطر الحرب النووية.
على الرغم من السوابق السلمية، التي حددها هذا المشروع المبكر من تقارب البلدين، فإن التصعيد السريع لحرب فيتنام في منتصف الستينيات زاد من التوترات السوفيتية الأمريكية، وجعل إجراء المزيد من المحادثات حول الأسلحة النووية أمرًا مستحيلًا.
لكن بحلول أواخر الستينيات، أدركت الحكومتان السوفييتية والأمريكية حقيقة واحدة كُبرى -لا مفر منها- حول سباق التسلح النووي؛ أنه كان مكلفًا للغاية. تركت تكاليف تحويل أجزاء كبيرة من ميزانياتهما للأبحاث العسكرية كلا البلدين في مواجهة صعوبات اقتصادية محلية.
في الوقت نفسه، مع التدهور السريع للعلاقات بين الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية خلال الحرب الباردة، بدت فكرة التقارب مع الولايات المتحدة أفضل بالنسبة للاتحاد السوفيتي.
في الولايات المتحدة، أدت التكاليف الباهظة والتداعيات السياسية لحرب فيتنام إلى رؤية صناع السياسة أن تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتي خطوة مفيدة في سبيل تجنب حروب مماثلة في المستقبل.
مع استعداد كلا الجانبين لاستكشاف فكرة الحد من التسلح على الأقل، فإن أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، شهدت فترة تقارب ذات إنتاجية أكثر إثمارًا.
أولى معاهدات التقارب:
كان أول دليل على التعاون في عصر الانفتاح بين الطرفين معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) لعام 1968، وهي اتفاقية وقعتها دول نووية عدة، وأيضًا الدول غير النووية الرئيسية، التي تتعهد بالتعاون في وقف انتشار التكنولوجيا النووية.
لم تمنع معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية انتشارها في نهاية المطاف، لكنها مهدت الطريق إلى الجولة الأولى من محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، التي امتدت من نوفمبر 1969 إلى مايو 1972. وقد أسفرت محادثات معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية عن معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية. إضافةً إلى اتفاقية مؤقتة تحدد عدد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات (ICBMs)، التي يمكن أن يمتلكها كل جانب.
في عام 1975، أسفرت مفاوضات استمرت عامين -من قبل مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا- عن صدور وثيقة هلسنكي النهائية. وتناول القانون الذي وقعته 35 دولة مجموعة من القضايا العالمية ذات الآثار المترتبة على الحرب الباردة، متضمنةً الفرص الجديدة للتجارة والتبادل الثقافي والسياسات التي تعزز الحماية العالمية لحقوق الإنسان.
موت التقارب وإعادة إحيائه من جديد:
لسوء الحظ، لم ينته الأمر هنا. وبحلول نهاية عقد السبعينيات، بدأ الوهج الدافئ للتقارب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بالتلاشي. بينما وافق دبلوماسيون من كلا البلدين على اتفاقية SALT II، لم توقع عليها أي من الحكومتين. وبدلاً من ذلك، اتفقت الدولتان على الاستمرار بالالتزام بأحكام خفض الأسلحة الواردة في ميثاقSALT II القديم في انتظار مفاوضات مستقبلية.
مع انهيار تقارب الدولتين، توقف التقدم في الحد من الأسلحة النووية تمامًا. ومع استمرار تآكل علاقتهما، أصبح من الواضح أن كلا الدولتين قد بالغتا في تقدير المدى الذي يمكن أن يساهم فيه تقاربهما إلى نهاية مقبولة وسلمية للحرب الباردة.
انتهى تقارب الدولتين تقريبًا عندما غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان عام 1979، وأثار الرئيس جيمي كارتر غضب السوفييت نتيجة لزيادة الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة ودعم جهود المجاهدين المناهضين للسوفييت في أفغانستان وباكستان.
كما أدى غزو أفغانستان إلى قيام الولايات المتحدة بمقاطعة أولمبياد 1980 المقام في موسكو. في وقت لاحق من العام نفسه، ومع ذروة الحرب الباردة، فاز رونالد ريغان برئاسة للولايات المتحدة بعد ترشحه على منصة مناهضة للانفتاح. وفي أول مؤتمر صحفي له بصفته رئيسًا، وصف ريغان تقارب الدولتين بأنه «شارع ذو اتجاه واحد استخدمه الاتحاد السوفيتي لتحقيق أهدافه».
مع الغزو السوفيتي لأفغانستان وانتخاب ريغان، حدث النقيض تمامًا من الانفتاح بين الطرفين الذي أخذته حكومة الرئيس كارتر أسرع من اللازم. بموجب ما أصبح يعرف باسم «عقيدة ريغان»، قامت الولايات المتحدة ببناء أكبر قوة عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، وطبقت سياسات جديدة معادية -بصورة مباشرة- للاتحاد السوفيتي. أعاد ريغان إحياء برنامج القاذفة النووية طويلة المدى B-1 Lancer، الذي قطعته إدارة كارتر وأمرت بزيادة إنتاج نظام الصواريخ MX عالية الحركة. بعد بدء السوفييت بنشر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات متوسطة المدى من طراز RSD-10 بايونير، أقنع ريغان الناتو بنشر الصواريخ النووية في ألمانيا الغربية. أخيرًا، تخلى ريغان عن جميع المحاولات لتنفيذ أحكام اتفاقية الأسلحة النووية SALT II. ولن تستأنف محادثات الحد من التسلح حتى انتخاب ميخائيل غورباتشوف (المرشح الوحيد في الانتخابات) رئيسًا للاتحاد السوفيتي في عام 1990.
مع تطوير الولايات المتحدة ما يُعرف بنظام «حرب النجوم» للدفاع الاستراتيجي (SDI) ضد الصواريخ الباليستية، أدرك غورباتشوف أن تكاليف مواجهة التقدم الأمريكي في أنظمة الأسلحة النووية -بينما لا يزال يخوض حربًا في أفغانستان- سيؤدي في النهاية إلى إفلاس حكومته.
في مواجهة التكاليف المتزايدة، وافق غورباتشوف على محادثات جديدة للحد من التسلح مع الرئيس ريغان. أسفرت مفاوضاتهم عن معاهدتي تخفيض الأسلحة الاستراتيجية لعامي 1991 و1993. وبموجب الاتفاقين المعروفين باسم ستارت 1 وستارت 2، اتفقت كلتا الدولتين ليس فقط على وقف صنع أسلحة نووية جديدة، ولكن أيضًا على خفض منهجي لمخزونات أسلحتهما الحالية.
منذ سن معاهدات ستارت، انخفض عدد الأسلحة النووية التي تسيطر عليها القوتان العظيمتان في الحرب الباردة كثيرًا. في الولايات المتحدة، انخفض عدد الأجهزة النووية من أكثر من 31100 في عام 1965 إلى نحو 7200 في عام 2014. وانخفض المخزون النووي في روسيا (الاتحاد السوفيتي) من نحو 37000 في عام 1990 إلى 7500 في عام 2014.
تدعو معاهدات ستارت إلى استمرار خفض الأسلحة النووية حتى عام 2022، عندما تُخفض المخزونات إلى 3620 في الولايات المتحدة و3350 في روسيا.
الانفتاح بمواجهة التسوية:
بينما تسعى كلتا السياستين إلى الحفاظ على السلام، فإن الانفتاح والتسوية هما تعبيران مختلفان تمامًا في السياق الدولي للدبلوماسية الخارجية.
اعتمد نجاح انفتاح الدولتين على بعضهما، في سياقه الأكثر استخدامًا خلال الحرب الباردة، إلى حدٍ كبير على «التدمير المؤكد المتبادل» (MAD)، وهي النظرية المرعبة القائلة بأن استخدام الأسلحة النووية سيؤدي إلى الإبادة الكاملة لكل من المهاجم والمدافع. لمنع حدوث حرب نهاية العالم النووية، تطَلّبت سياسية الانفتاح من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تقديم تنازلات فيما بينهما على صورة اتفاقيات الحد من التسلح التي لا تزال قيد التفاوض حتى اليوم. بعبارة أخرى، كان تقارب الدولتين طريقًا ذا اتجاهين.
من ناحية أخرى، تميل التسوية إلى أن تكون أحادية الجانب في تقديم التنازلات في المفاوضات لمنع الحرب. قد يكون أفضل مثال على هذا النوع من تنازلات الجانب الواحد للتسوية، ما قامت به سياسة بريطانيا العظمى قبل الحرب العالمية الثانية تجاه إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية في الثلاثينيات. فبتوجيه من رئيس الوزراء البريطاني آنذاك نيفيل تشامبرلين، استوعبت بريطانيا الغزو الإيطالي لإثيوبيا في عام 1935، ولم تفعل شيئًا لمنع ألمانيا من ضم النمسا في عام 1938. وعندما هدد أدولف هتلر بالاستحواذ على مناطق متعددة من تشيكوسلوفاكيا ذات الغالبية العرقية الألمانية، حكومة تشامبرلين -حتى مع مواجهة المسيرة النازية عبر أوروبا- تفاوضت على اتفاقية ميونيخ سيئة السمعة، التي سمحت لألمانيا بضم سودتلاند، في غرب تشيكوسلوفاكيا.
اقرأ أيضًا:
يوم الهدنة: نهاية الحرب العالمية الأولى
ترجمة: علي حسين
تدقيق: طارق طويل
مراجعة: حسين جرود