تقدم الصور الجديدة للحفرة المظلمة الأكثر تألقًا في الكون نظرةً ثاقبةً على سلوك الثقب الأسود الغامض.
نحن نبحث للمرة الأولى عن مصدر تدفق هائل من البلازما ينفجر من حافة الثقب الأسود الهائل M-87. إنها أيضًا المرة الأولى التي نرى فيها ظل ثقب أسود وتدفقه معًا في الصورة ذاتها. لذا ستساعد هذه الصور علماء الفلك في معرفة نشأة هذه التدفقات العملاقة من البلازما.
يقول عالم الفلك رو سين لو من مرصد شنغهاي الصيني: «نعلم أن التدفقات تنطلق من المنطقة المحيطة بالثقوب السوداء، لكننا ما زلنا لا نفهم تمامًا كيف يحدث ذلك. لإنجاز الدراسة اللازمة نحتاج إلى رصد أصل التدفق من أقرب منطقة ممكنة إلى الثقب الأسود».
تشتهر الثقوب السوداء بعدم إصدار أي شيء يمكن رصده. إذ إنها كثيفة لدرجة أن الزمكان يلتف في شكل كرة حولها، لذلك لا توجد سرعة في الكون كافية لتحقيق سرعة الهروب. لكن المساحة خارج حدود تلك الكرة -ما نسميه أفق الحدث- هو مسألة أخرى.
إنها منطقة حدود قصوى تسود فيها الجاذبية. إذ تُلتقط أية مادة قريبة في محيطها، وتدور على شكل قرص من مواد تصب في الثقب الأسود كالماء في حفرة التصريف.
يؤدي الاحتكاك والجاذبية إلى تسخين هذه المادة، مسببًا توهجها؛ ذلك ما رأيناه في الصورة الشهيرة الآن لـ M-87 التي نُشرت لأول مرة عام 2019، اعتمادًا على البيانات التي جُمعت في عام 2017 من قبل تلسكوب الحدث الآفاقي EHT.
ولكن ليس بالضرورة أن تغرق كل المواد في ما وراء الأفق. إذ إن بعضها يسري على الحافة قبل إطلاقه في الفضاء من المناطق القطبية للثقب الأسود، على شكل تدفقات بسرعات قريبة من سرعة الضوء قاطعًة مسافات شاسعةً في الفضاء بين النجوم.
يعتقد علماء الفلك أن مسار هذه المادة يتحول من الحافة الداخلية للقرص على طول خطوط المجال المغناطيسي خارج الأفق، ثم تعمل خطوط المجال المغناطيسي هذه على تسريع الجسيمات فتنطلق بسرعة كبيرة في الفضاء عندما تصل إلى القطبين.
تلك هي الخصائص الجوهرية، لأنه من الصعب تحديد التفاصيل. فنحن نعلم أن الثقب الأسود M-87 يمتلك تدفقًا تصل أطواله الموجية الراديوية إلى 100 ألف سنة ضوئية، أي حوالي قطر مجرتنا. لذلك، في عام 2018 استخدم علماء الفلك تلسكوبات راديويةً قويةً تتّحد مع بعضها لتشكيل منظومة تدعى GMVA لمعرفة ما إذا كان بإمكانها التقاط المنطقة التي تنطلق منها التدفقات بالتفصيل. لقد جمعت بيانات بطول موجي أطول من EHT، كاشفةً عن معلومات مختلفة.
رُصد الثقب الأسود M-87 على مدى عقود عديدة، وقبل 100 عام كنا نعلم بوجود التدفق فقط. يقول لو:«مع GMVA، والمعدات الأساسية المرافقة لها، نستطيع الرصد بتردد أقل، لذلك نرى المزيد من التفاصيل. والآن نعلم بوجود المزيد من التفاصيل التي يجب رؤيتها».
تقع المجرة M-87 على بعد حوالي 55 مليون سنة ضوئية، تحوي ثقبًا أسودَ هائلًا تعادل كتلته حوالي 6.5 مليار مرة كتلة الشمس، وتجمع المادة بنشاط في قرص حولها.
لقد أظهرت الصورة التي التُقطت بواسطة EHT، ولأول مرة ظل هذا الثقب الأسود عبارةً عن منطقة مظلمة في وسط حلقة متوهجة من المواد، مشوهةٍ بسبب انحناء جاذبية الزمكان.
تُظهر الصورة الجديدة مساحةً أوسع من صورة EHT، ذلك يكشف أن مدى البلازما حول الثقب الأسود M-87 أكبر بكثير مما نراه في صورة EHT، بالإضافة إلى مصدر التدفق.
وبحسب عالم الفلك توني مينتر من المرصد الفلكي الراديوي الوطني: «كشف تصوير EHT الأصلي عن جزء فقط من القرص التراكمي المحيط بمركز الثقب الأسود. وبواسطة تغيير أطوال موجات المراقبة من 1.3 ملم إلى 3.5 ملم، يمكننا رؤية المزيد من القرص التراكمي، والآن نرى التدفق معه في الوقت نفسه. يكشف هذا أن الحلقة حول الثقب الأسود أكبر بنسبة 50٪ عمّا كنا نعتقد في السابق».
كشفت الصورة الجديدة أيضًا عن معلومات جديدة حول كيفية انطلاق التدفق من المنطقة حول الثقب الأسود، مؤكدةً أن خطوط المجال المغناطيسي لها بالفعل دور مهم في نقل المواد بعيدًا لكي تُطلق في شكل تدفقات، لكنّ تلك الخطوط لا تعمل بمفردها، إذ تنبعث رياح قوية من القرص نفسه، مدفوعةً بضغط الإشعاع. وتُظهر الصورة أن هذه الرياح تساهم في خلق تدفق الثقب الأسود M-87.
يُعد هذا إنجازًا مهمًا جدًا في علم الثقوب السوداء، لكن الباحثين لم ينتهوا بعد. إذ إن هناك كثيرًا مما يمكن رؤيته في الطيف الراديوي بأكمله، وقد أثبت M-87 قدرته على تقديم كل تلك المعلومات.
يقول عالم الفلك إدواردو روس من معهد ماكس بلانك لعلم الفلك الراديوي في ألمانيا: «نخطط لرصد المنطقة المحيطة بالثقب الأسود في مركز المجرة M-87 بأطوال موجية راديوية مختلفة من أجل مزيد من الدراسة لانبعاثات التدفقات. ستكون السنوات القادمة مثيرةً، إذ إننا سنكون قادرين على معرفة المزيد حول ما يحدث بالقرب من واحدة من أكثر المناطق غموضًا في الكون».
اقرأ أيضًا:
محاكاة ثقب أسود في المختبر، فما الذي حدث؟
انفجار عظيم يهز الفضاء، وناسا تصفه بأنه «الأشد سطوعًا على الإطلاق»
ترجمة:حنا مسيكه
تدقيق: منال توفيق الضللي