في ستينات القرن العشرين، كانت ولاية ومدينة سنغافورة بلدًا غير متطور يبلغ فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أقل من 320 دولارًا أمريكيًا، أما اليوم فهي إحدى أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، إذ ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي إلى 60 ألف دولار أمريكي، ما يجعلها من أقوى اقتصادات العالم. إن الصعود الاقتصادي لدولة صغيرة ذات موارد طبيعية قليلة ليس أمرًا عاديًا، فبعد تبني العولمة والسوق الحرة الرأسمالية والتعليم والسياسات الواقعية العملية، تمكنت البلاد من التغلب على عيوبها الجغرافية، وأصبحت رائدة في التجارة العالمية.
الحصول على الاستقلال:
بقيت سنغافورة أكثر من مئة عام تحت السيطرة البريطانية، ولكن فشل البريطانيين في حماية المستعمرة من اليابانيين في الحرب العالمية الثانية أشعل مشاعر قومية قوية مناهضة للاستعمار، أدت فيما بعد إلى استقلال سنغافورة.
في 31 من أغسطس عام 1963، انفصلت سنغافورة عن التاج البريطاني واندمجت مع ماليزيا لتشكل اتحاد ماليزيا الفيدرالي، لقد غلب الصراع الاجتماعي على العامين اللذين مرا على سنغافورة وهي جزء من ماليزيا، إذ كافح الجانبان من أجل الاندماج عرقيًا، وأصبحت أعمال الشغب والعنف في الشوارع شائعة جدًا.
فاق عدد الصينيين في سنغافورة عدد الملايو بثلاثة مقابل كل واحد، وخشي السياسيون الملايو في كوالالمبور التهديد المحتمل لتراثهم وأيديولوجيتهم السياسية، نتيجة تزايد عدد السكان الصينيين في جميع أنحاء الجزيرة وشبه الجزيرة.
لذلك صوت البرلمان الماليزي على طرد سنغافورة من ماليزيا، من أجل ضمان بقاء الأغلبية داخل ماليزيا لشعب الملايو، وللحد من تأثير الشيوعية.
حصلت سنغافورة على استقلالها الرسمي في التاسع من أغسطس عام 1965، وأصبح «يوسف بن إسحاق» أول رئيس لها، وكان «لي كوان يو» صاحب التأثير والنفوذ الكبير رئيسًا للوزراء.
استمرت سنغافورة بعد الاستقلال في مواجهة المشكلات، وكان الكثير من سكان المدينة البالغ عددهم ثلاثة ملايين شخص عاطلين عن العمل، وعاش أكثر من ثلثي سكانها في أحياء فقيرة ومستوطنات عشوائية على أطراف المدينة.
كانت المنطقة محصورة بين دولتين كبيرتين معاديتين هما ماليزيا وإندونيسيا، وافتقرت سنغافورة للموارد الطبيعية والصرف الصحي والبنية التحتية المناسبة وإمدادات المياه الكافية.
بغية تحفيز التطوير سعى رئيس الوزراء «لي» للحصول على مساعدة دولية، ولكن توسلاته لم يُرد عليها لِتُترَك سنغافورة تتدبر أمرها بنفسها.
عولمة الصناعة والتجارة:
كان اقتصاد سنغافورة في أثناء فترة الاستعمار مرتكزًا على تجارة موانئ إعادة التصدير، ولكن هذا النشاط الاقتصادي لم يقدم سوى إمكانية ضئيلة لتوسع الوظائف في فترة ما بعد الاستعمار.
أدى انسحاب البريطانيين إلى تفاقم حالة البطالة، وكان الحل الأجدى لمصائب الاقتصاد والبطالة في سنغافورة هو الشروع ببرنامج شامل للتحول لبلد صناعي.
مع التركيز على الصناعات التي تعتمد أكثر على العمالة، للأسف لم يكن لسنغافورة تقاليد صناعية، وكان أغلب سكانها يعملون في التجارة والخدمات، لذلك لم تكن لديهم خبرة أو مهارات قابلة للتكيف بسهولة، إضافة إلى عدم امتلاكها لمنطقة خالية وراء الشاطئ وعدم وجود جيران يتاجرون معها. اضطرت سنغافورة للبحث عن فرص بعيدًا جدًا عن حدودها لكي تجعل تطورها الاقتصادي في المقدمة.
بسبب تعرضهم لضغوط لتأمين فرص عمل لشعبهم، بدأ قادة سنغافورة بتجربة العولمة، متأثرين بقدرة إسرائيل على تجاوز جيرانها العرب المقاطعين لها وقدرتها على التجارة مع أوروبا وأميركا. أدرك لي وزملاؤه أنه يتعين عليهم التواصل مع العالم المتقدم، وإقناع الشركات متعددة الجنسيات بالتصنيع في سنغافورة.
التحول لمركزية الحكومة:
بهدف جذب المستثمرين، كان على سنغافورة أن تخلق بيئة آمنة وخالية من الفساد مع تخفيض للضرائب، ولجعل هذا ممكنًا، وجب على مواطني الدولة أن يتخلوا عن قدر كبير من حريتهم، ويستبدلوا حكومتهم بأخرى أكثر استبدادًا.
كل من يقبض عليه وهو يتاجر بالمخدرات أو يمارس الفساد الشديد يواجه حكم الإعدام. قمع حزب لي للعمل الشعبي (PAP) جميع النقابات العمالية المستقلة، ودمج ما تبقى تحت مظلة واحدة تسمى مجلس اتحاد المهن الوطني، وكان تحت سيطرة الحزب مباشرة.
سجن الأفراد الذين هددوا الوحدة الوطنية أو السياسية أو وحدة الشركات بسرعة دون اتباع الكثير من الإجراءات القانونية. أصبحت قوانين البلاد شديدة القسوة، وكانت في الوقت نفسه صديقة للأعمال التجارية وجذابة جدًا للمستثمرين الدوليين.
على النقيض من جيرانها، حيث المناخ السياسي والاقتصادي غير متوقع، كانت سنغافورة مستقرة جدًا، بل أكثر من ذلك، مع موقعها المميز ونظام الموانئ الراسخ، كانت سنغافورة مكانًا مثاليًا لتصنيع البضائع.
تأمين المستثمرين:
بحلول عام 1972، أي بعد سبع سنوات فقط من الاستقلال، كانت ربع شركات التصنيع في سنغافورة إما مملوكة لأجانب أو شركات مشتركة، وكانت الولايات المتحدة واليابان مستثمران رئيسيان.
نتيجة للمناخ المستقر في سنغافورة، وظروف الاستثمار الملائمة والتوسع السريع للاقتصاد العالمي من عام 1965 إلى عام 1972، شهد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد نموًا سنويًا مزدوجًا.
مع تدفق أموال الاستثمار الأجنبي، بدأت سنغافورة بالتركيز على تطوير مواردها البشرية إضافةً إلى بنيتها التحتية، وأقامت الدولة العديد من المدارس التقنية، ودفعت أموالًا للشركات الدولية لتدريب عمالها غير الماهرين في مجال تكنولوجيا المعلومات، البتروكيماويات والإلكترونيات.
عينت الحكومة أولئك الذين لم يتمكنوا من الحصول على وظائف صناعية في وظائف خدمات كثيفة العمالة، مثل السياحة والنقل.
وقد حققت استراتيجية تعليم الشركات متعددة الجنسية القوى العاملة مكاسب كبيرة للبلاد.
في سبعينيات القرن التاسع عشر، كانت صادرات سنغافورة الرئيسية: المنسوجات والملابس والإلكترونيات الأساسية، وبحلول التسعينات بدأت بالمشاركة في تصنيع الرقاقات، ودخلت مجال اللوجستيات وأبحاث التكنولوجيا الحيوية وصناعة الدواء وتصميم الرادارات المدمجة وهندسة الطيران والفضاء الجوي.
خلق اقتصاد سوق:
تعد سنغافورة اليوم مجتمعًا صناعيًا حديثًا، وما زالت تجارة موانئ إعادة التصدير تؤدي دورًا مركزيًا في اقتصادها، ويعد ميناء سنغافورة الآن أكثر موانئ الشحن ازدحامًا في العالم، متفوقًا على ميناءي هونغ كونغ وروتردام من حيث إجمالي حمولة البضائع، فقد أصبح ثاني أكثر الموانئ ازدحامًا في العالم بعد ميناء شنغهاي.
قطاع السياحة في سنغافورة مزدهر أيضًا، إذ تجذب سنغافورة أكثر من عشرة ملايين زائر سنويًا، وفيها -حاليًا- حديقة حيوان ورحلات سفاري ليلية ومحمية طبيعية.
افتتحت البلاد منتجعي كازينو متكاملين من بين الأغلى في العالم، هما منتجع مارينا باي ساندز ومنتجعات عالم سينتوسا، وأصبحت السياحة العلاجية في البلاد وسياحة الطهي أيضًا مجالات ناجحة جدًا، وذلك بفضل التراث الثقافي لسنغافورة والتكنولوجيا الطبية المتقدمة.
نما القطاع المصرفي نموًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، ونقلت العديد من الأصول التي كان يُحتفظ بها سابقًا في سويسرا إلى سنغافورة بسبب الضرائب الجديدة التي فرضها السويسريون.
ازدهرت صناعة التكنولوجيا الحيوية مع إنشاء صانعي أدوية -مثل غلاكسو سميث كلاين وفايزروميرك آندكو- مصانع هناك، وما زال تكرير النفط يؤدي دورًا كبيرًا في الاقتصاد.
كيف نمت سنغافورة؟
رغم صغر حجمها، تحتل سنغافورة الترتيب الخامس عشر من بين أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وقد أبرمت الدولة اتفاقيات تجارية قوية مع دول عدة في أمريكا الجنوبية وأوروبا وآسيا أيضًا، ويوجد حاليًا أكثر من 3000 شركة متعددة الجنسيات تعمل في البلاد، مسؤولةً عن أكثر من ثلثي إنتاجها التصنيعي ومبيعات التصدير المباشرة.
بمساحة إجمالية تبلغ فقط 433 ميلًا مربعًا، وقوة عاملة صغيرة مؤلفة من ثلاثة ملايين شخص، فإن سنغافورة قادرة على تحقيق ناتج محلي إجمالي يتجاوز 300 مليار دولار سنويًا، أي أعلى من ثلاثة أرباع العالم.
متوسط العمر المتوقع هو 83.75، ثالث أعلى معدل في العالم.
تعد سنغافورة من أفضل الأماكن للعيش على وجه الأرض، في حال كانت القواعد الصارمة لا تمثل مشكلة لديك.
نموذج سنغافورة للتضحية بالحرية من أجل التجارة مثير للجدل إلى حد كبير، مع ذلك لا يمكن إنكار فعاليته.
اقرأ أيضًا:
اقتصاد سنغافورة: هل كانت نهضة سنغافورة معجزة حقًا؟
ما أفضل مقاييس النمو الاقتصادي ؟
ترجمة: أحمد بلهوان
تدقيق: سمية بن لكحل
مراجعة: حسين جرود