واجه الاحتياطيّ الفيدرالي قرارًا محوريًّا يوم 22 مارس 2023: فهل استمرّ في مقاومته الشّديدة للتضخم أم يعلقها إلى حين. سيكون للرفع في الفائدة بنسبةٍ مرتفعة مرةً أخرى مخاطر من حيث تفاقم الاضطراب العالمي في قطاع البنوك الذي أثاره إفلاس بنك سيليكون فالي في 10 مارس. رفع الفائدة بنسبةٍ قليلة جدًا أو عدم رفعها أبدًا كما ينادي البعض لن يؤدي فقط إلى ارتفاعٍ في التضخّم مجددًّا، بل سيسبب أيضًا قلقًا لدى المستثمرين من أن الاحتياطي الفيدرالي يعتقد أن الوضع أسوأ مما كانوا يظنون، ما سيؤدي إلى المزيد من القلق.
ماذا يتوجّب على المصرفيّ في البنك المركزي أن يفعل؟
إذا أفسدت فتحمّل العواقب
عندما يبدأ البنك الفيدرالي برفع نسب الفائدة، عادةً ما يبقيها على حالها حتى يحدث خللٌ ما.
بدأ البنك المركزي الأمريكي بحملة رفع نسب الفائدة مبكّرًا خلال السنة الماضية حينما بدأ التضخم يرتفع. وبعد توصيف التضخّم خطأً بالوقتيّ، مرّ البنك الفيدراليّ إلى نسقٍ أسرع ورفع في نسب الفائدة من 0.25% في بداية 2022 إلى 4.75% في فبراير2023. كان هذا النسق في رفع نسبة الفائدة الأسرع منذ أواخر الثمانينات، ولم ينته البنك الفيدرالي بعد.
ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكيّة بنسبة 6% في فبراير مقارنةً بعامٍ مضى. ومع أن ذلك يُعدّ انخفاضًا مقارنةً بالذروة السنوية التي تقدر بنسبة 9% في يونيو إلا أن التضخم لا يزال أعلى بكثيرٍ من الهدف الذي وضعه الفيدرالي الذي يقدر بنسبة 2.%
لكن خللاً ما قد حدث. إذ اِنهار بنك سيليكون فالي وبعده سيغناتشر تقريبًا بين ليلةٍ وضحاها. وكانا يملكان 300 مليار دولارٍ من الأصول فيما بينهما وأصبحا ثاني وثالث أكبر بنكين يفلسان في تاريخ الولايات المتحدة.
انتشر الهلع سريعًا إلى المُقرضين الإقليميين الآخرين مثل فرست ريببليك، وأحبط ذلك المتعاملين في الأسواق عالميًّا، ورفع من احتمال حدوث افلاسٍ للبنوك على نطاقٍ أوسع. حتى المساعدات الممنوحة لبنك فيرست ريببليك التي قُدرت ب 30 مليار دولار من نظرائه الأكبر بكثير مثل جي بي مورغان تشايس وبنك أمريكا، لم تنجح في إيقاف القلق المُتزايد.
إذا رفع الاحتياطي الفيدراليّ من نسب الفائدة بأكثر مما يتوقّعه المتعاملون في الأسواق – حاليًّا زيادة بنسبة 0.25 نقطةٍ مئوية – قد يُسبّب ذلك قلقًا أكبر. يظهر البحث أن تغيّرات نسب الفائدة لها تأثيرٌ أكبر على سوق الأسهم في الأسواق الهبوطية- إذ يوجد انحدارٌ مُطوَّل في أسعار الأسهم مثل الذي تشهده الولايات المتحدة الآن – أكثر من الأثر الذي يحدث في أوقات الرخاء.
مشكلة بنك سيليكون فالي، من سيءٍ إلى أسوأ
إضافةً إلى ذلك، يمكن للبنك الفيدرالي أن يجعل المشكلة التي أدّت إلى مصائب بنك سيليكون فالي أسوأ للبنوك الأخرى. ذلك وأن البنك الفيدرالي مسؤولٌ عما حدث بطريقةٍ غير مباشرةٍ على الأقل.
تموّل البنوك أنفسها أساسًا عن طريق قبول الودائع. ومن ثم تستعمل هذه الودائع قصيرة الأمد للإقراض أو لاستثماراتٍ طويلة الأمد بفوائد أكبر. لكن استثمار الودائع قصيرة الأمد في سنداتٍ ماليّة طويلة الأمد -حتى سندات خزينة الحكومة الأمريكية الآمنة جدًّا- يخلق ما يسمى بمخاطر نسبة الفائدة.
ويحدث ذلك عندما ترتفع نسب الفائدة كما حدث طوال سنة 2022، تنخفض قيمة السندات الموجودة سلفًا. أُجبر بنك سيليكون فالي على بيع سنداتٍ ماليّةٍ بقيمة 21 مليار دولار فقدت من قيمتها بسبب رفع الاحتياطي الفيدرالي لنسب الفائدة، بيعت هذه السندات بخسارة تقدر بمبلغ 1.8 مليار دولار، مما أشعل فتيل الأزمة في البنك. وعندما أدرك المودعون في بنك سيليكون فالي الأمر وحاولوا سحب 42 مليار دولار يوم 9 مارس فقط -مثال كلاسيكي على هروب الودائع- كان الأمر قد انتهى. لم يستطع البنك الاستجابة للطلبات.
لكن القطاع المصرفيّ برمته لديه مئات المليارات من الدولارات من الخسائر غير المحققة – 620 مليار دولار بتاريخ 31 ديسيمبر 2022. وإن استمرّت نسب الفائدة بالاِرتفاع، ستستمر قيمة هذه السندات في الانخفاض، مما سيجعل الوضعية الماليّة للبنوك هشّة.
مخاطر الإبطاء
مع أن ذلك قد يوحي أنه من البديهي تعليق الزيادات في نسبة الفائدة، فالأمر ليس بتلك البساطة.
كان التضخّم مشكلةً كُبرى اجتاحت الاقتصاد الأمريكي منذ 2021 عندما ارتفعت أسعار المنازل والسيارات والغذاء والطاقة والكثير من السلع والخدمات الأخرى بالنسبة للمستهلكين. كانت آخر مرّةٍ ارتفعت فيها أسعار المواد الاستهلاكية بهذه الحدّة في بداية الثمانينات، واضطرّ الاحتياطي الفيدرالي حينها إلى رفع نسب الفائدة إلى درجةٍ أدّت إلى حدوث ركودٍ في الاقتصاد الأمريكي مرّتين.
إن ارتفاع التضخّم يقلل بسرعةٍ من كمية الأشياء التي يمكن لأموالك أن تشتريها. وهو أيضًا يجعل ادّخار الأموال أصعب لأنه ينقص من قيمة المدخرات. عندما يستمر التضخم المرتفع لفترةٍ طويلة، يترسّخ في توقعات الناس ويجعل التحكم فيه صعبًا جدا.
لذلك رفع الاحتياطي الفيدرالي من نسب الفائدة بسرعة. والأرجح أنه لم يفعل ما فيه الكفاية لخفض التضخم إلى نسبة 2% المنشودة، لذلك فإن تعليق رفع نسب الفائدة يعني أن التضخم سيبقى مرتفعًا لفترةٍ أطول.
إضافةً إلى ذلك، فإن تراجع الاحتياطي الفيدرالي عن حملته ضد التضخّم التي استمرت لمدة سنة سيرسل إشارةً سيئةً إلى مستثمريه. إن أظهر مصرفيّو البنك المركزيّ أنهم قلقون حيال أزمةٍ مصرفية، قد يظن المتعاملون في السوق أن الاحتياطي الفيدرالي يعلم أن النظام المالي في ورطةٍ كبيرة وأن الأمور أسوأ مما ظنوا سابقًا.
إذن ما الذي يتعين على البنك الفيدرالي فعله؟
إن النظام المالي العالمي المركب يُظهر بعض الهنات على أقل تقدير.
انهارت ثلاث بنوكٍ امريكية في أيام. أما بنك كريدي سويس، المُقرض السويسري الذي يعود تاريخه إلى 166 عامًا فقد كان يتأرجح على حافة الانهيار حتى نسّقت الحكومة كي تنافس اتحاد البنوك السويسرية. ولم يكفِ مبلغ 30 مليار دولار الذي مُنح لإنقاذ البنك الجهوي المُقرض «فيرست ريببليك» لإيقاف انخفاض قيمة أسهمه. بينما بنوك الولايات المتحدة تطلب القروض من الاحتياطي الفيدرالي كأننا في سنة 2008، عندما شارف النظام الماليّ على الانهيار. أما السيولة في سوق الخزانة -وهي شريان الحياة للأسواق الماليّة- فقد بدأت تنضب.
قبل انهيار بنك سيليكون فالي، كانت التوقّعات لتغير نسب الفائدة تُشير إلى ارتفاع -إما 0.25 أو 0.5 نقطة مئوية- بنسبة 100% يوم 22 مارس. ارتفعت التوقعات بعدم الزيادة إلى 45% يوم 15 مارس قبل أن تنخفض إلى 14% يوم 21 مارس، مع توازن الاحتمالات في زيادةٍ بنسبة 0.25 نقطة مئويّة.
إن زيادة نسب الفائدة في توقيتٍ كهذا يعني وضع المزيد من الضغوطات على بنيةٍ ترزح تحت ضغط كبير بطبيعتها. وإن تدهورت الأمور أكثر، فإن الاحتياطي الفيدرالي سيعود على أعقابه مما سيُضرّ بمصداقية البنك وقُدرته على تأدية مهامه.
المسؤولون في الاحتياطي الفيدراليّ مُحقّون في قلقهم حيال مقاومة التضخم، لكنهم في نفس الوقت لا يُريدون إشعال فتيل أزمةٍ ماليّة قد تجعل اقتصاد الولايات المُتحدة في ركود. وأنا أشكّ في أنه سيكون ركودًا خفيفًا، مثل الذي يتخوّف الاقتصاديون من حدوثه بسبب حملة الاحتياطي الفيدرالي في مقاومة التضخم. فترات الركود التي تُسببها أزماتٌ مالية تكون في العادة عميقةً وطويلة الأمد – مما يتسبب في خسارة الملايين لوظائفهم.
لذلك فإن ما يُفترض في العادة أن يكون اجتماعًا روتينيًا للاحتياطي الفيدرالي تحوّل إلى عمليّة سيرٍ على حبل مشدود.
اقرأ أيضًا:
ماذا يحدث عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة؟
ذروة التضخم ومعضلة البنوك المركزية
المترجم: زياد نصر
تدقيق: رغد أبو الراغب