يُبدي الأطفال الصّغار (Toddlers) ثنائيّي اللغة (Bilingual) قَدرًا أكبر من المرونة الإدراكيّة، فإنّ التّحدّث بأكثر من لغة، لا يُعرّض الطفل إلى مجموعتين مختلفتين من الألفاظ والمفردات فقط، إنّما يمنح فوائد خفيّة للأطفال، تزيد من قدرتهم المعرفيّة والإدراكيّة، وذلك وِفقًا لدراسة جديدة. حيث يُجري الباحثون في كندا تحقيقًا في كيفيّة القُدرة على التّحدث بأكثر من لغة، التّأثير على مهارات حلّ المُشكلات (Problem-Solving skills) عند الأطفال. ما وجدته الدّراسة هو أنّ الأطفال ثنائيّي اللغة – الذين اعتادوا التّبديل بين اللغات المختلفة كما هو المطلوب – يُبدون مرونة عقليّة (Mental flexibility) أكبر من الذين يتحدّثون بلغة واحدة (Monolinguals)، حينما يتعلّق الأمر بأنواعٍ معيّنة من التّمارين العقليّة.
ووِفقًا للباحثين، في حين أنّه قد يكون من الصّعب على الأطفال الصّغار في البداية تعلّم مهارة التّبديل بين اللغات في سياقاتٍ مُختلفة، إنّ القدرة على القيام بذلك، تؤتي ثمارها فيما يتعلّق بحلّ المشاكل، حيثما يحتاج الشّخص إلى تجاوز قاعدة أو سلوك معيّن لإكمالِ هدفٍ معاكس. على سبيل المثال، تحديد لون نصّ معيّن في الوقت الذي يحاول هذا النّص أن يخدعك، يسمّى هذا تأثير ستروب “Stroop Effect”.
– Stroop Effect تأثير ستروب –
“إنّ التّحويل بين اللغتين عند الأطفال تزداد وتيرتُه مع نموّهم، واتّساع حصيلتهم اللغويّة من المفردات الجديدة”، كما يقول عالم النّفس، ديان بولين-دوبوا، من جامعة كونكورديا. “لذلك، يبدو أنّ جلّ قدرتهم على مواجهة المشكلات، والتّغلّب على الصّراعات، آتية من ثنائيّتهم اللغويّة؛ التي تُعزّز المرونة الإدراكيّة، وقدرات الانتباه الموجّه (الانتقائيّ المُتمايز)، التي تتماشى مع زيادة خبرتهم في التّحويل بين اللغتين عبر المُفردات التّعبيريّة الجديدة”.
وقام الباحثون بتقييم مفردات 39 طفلًا ثنائيّي اللغة، وقارنوها مع قدرات 43 طفلًا أحاديّي اللغة. من حيث مهارات المفردات، فإنّ قدرة التّحدث بلغتين لم تعطِ قدراتٍ تعبيريّةٍ أكبر، ولكن وجود فجوة ملحوظة بين المجموعتين أصبح واضحًا فيما يتعلّق بالتّمارين غير اللفظيّة. وأجريت الدّراسة على دورتين، لمدّة 7 أشهر على حدة. وكانت أعمار الأطفال على مجموعتين، 24 شهرًا، و31 شهرًا (يُطلق على الأطفال في هذه المرحلة، الطّفولة المُبكّرة، تمتدّ من سنة إلى ثلاث سنوات).
ويقول بولين-دوبوا: “بصورة عامّة، لم يكن هناك اختلاف بين الأطفال الصّغار ثنائيّي اللغة وأحاديّي اللغة”، وأضاف، “لكن هناك اختلاف بشكلٍ كبيرٍ في اختبار ‘تثبيط الصراع’، وكانت الاختلافات واضحة خصوصًا عند الأطفال ثنائيّي اللغة، التي كانت مُفرداتهم أكثر”. لتقييم قدرات الطّفل في مهامّ ‘تثبيط الصّراع’، طُلب من المشاركين القيام بلغز ‘التّصنيف العكسيّ’: وضع المُكعّبات الصّغيرة في دلوٍ صغير، والمكعّبات الكبيرة في دلوٍ كبير، ثمّ طُلِبَ منهم عكس الفرز؛ أي وضع المكعّبات الصّغيرة في دلوٍ كبير، والعكس.
بعد ذلك، تمّ إظهار مجموعة من الصّور لفواكه مُتعدّدة الأحجام، وطُلب مِنهُم تسميتها. ثمّ عُرضت مجموعة جديدة من الصّور لفواكه صغيرة الحجم، مرسومة على الفواكه الكبيرة، حيث كان على الأطفال تجاوز هذا التّقارب، والإشارة إلى الفاكهة الصّغيرة.
وحسب مجلّة علم النّفس التجريبيّ للطّفل، فإنّ الأطفال بلغتين تفوّقوا على الأطفال بلغة واحدة في مهام ‘تثبيط الصّراع’: “في مهام ‘تثبيط الصراع’، كان الطّفل قد تجاهل بعض المعلومات، مثل حجم المكعّب نسبةً إلى الدّلو، أو تجاهل وجود فاكهة داخل الأخرى”، وقال أحد الباحثين: “هذا يعكِس تجربة الحاجة إلى التّبديل بين اللغات، وذلك باستخدام اللغة الثانية حتى إذا كانت الكلمة من اللغة الأولى مُتاحة بسهولةٍ أكبر”.
ركّز الباحثون في هذه الاختبارات على مهاراتٍ مُحدّدة ومقصودة؛ لإنّ المهارات التي قصدوا تقييمها عند الأطفال في هذه المرحلة، هي بالأصل تبدأ بالظّهور والتّمايز والنّموّ في هذه المرحلة من حياة الطّفل، وهي مرحلة الطّفولة المُبكّرة. يُطلق عليها في المُصطلحات الطّبيّة العربيّة، مرحلة ‘الدّارِج’، وهي المرحلة الثّالثة من حياة الإنسان. تتميّز هذه المرحلة باستكشاف الأشياء، والجمع بين الأشياء بطُرقٍ غريبة لإيجاد تأثيراتٍ سارّة للطّفل، من مثل رصف المُكعّبات، أو وضع الأشياء في التّجويف الخاصّ بشريط التّسجيل في جهاز الفيديو. وكلّ ذلك بسبب تمام نُضج عمليّات الوُصول إلى الأشياء، والإمساك بها وتركها، كما أنّ المشي في هذه المرحلة، يسمح للطّفل بالوصول إلى كلّ ما يراه جذّابًا.
ووِفقًا للباحثين، كلّما انخرط الأطفال في تبديل اللغة أكثر، فادَ ذلك مرونتهم العقليّة أكثر. وأضاف بولين-دوبوا :”بِحلولِ نهاية العام الثّالث من العمر (بعدَ ذلك تبدأ مرحلة جديدة من حياة الطّفل، وهي مرحلة ما قبل المدرسة)، يَستخدم الطّفل ثنائيّ اللغة كلمتين لمُعظم المفاهيم في مفرداته؛ أي أنّ الأطفال بلغتين، يَكتسبون تدريجيًّا المزيد من الخبرة في التّبديل بين اللغات”.
وتضيف هذه النّتائج إلى مجموعة من البحوث العلميّة التي تسلّط الضوء على فوائد التّحدث بأكثر من لغة، بدءًا من وجود زيادة في حجم المادّة الرّمادية في أدمغتهم، إلى تمتّعهم بفُرَصٍ أكبر للشّفاء من السّكتة الدّماغية. إذا كُنت ترغب في تعلّم لغة أخرى، فدماغك يستحقّ هذا الوقت بالتّأكيد.