من الشائع أن ننظر إلى الأبطال الأسطوريين بوصفهم (خارقين)، وأن قصص مساعيهم الأسطورية تضعهم في مرتبة أعلى من مرتبة الإنسان العادي، وتشير دراسة علم الفلك أيضًا إلى قلة أهمية الإنسان العادي كونيًّا، فلا يسع المرء إلا أن يشعر بأنه نقطة تافهة تطوف في الفضاء عندما يتأمل سماء الليل البهيم. لذلك لا عجب أن العديد من مراقبي النجوم القدماء زينوا أسماء الكواكب بأسماء أبطال أساطيرهم.
ومع ذلك من الضروري أن نتذكر العنصر الإنساني في كل هذه المساعي، فالقصص ما كانت لتوجد دون رواة، ولا يمكن دراسة علم الفلك أيضًا دون وجود فلكيين، وبصرف النظر عن وجود أدلة تثبت حدوث حرب طروادة مثلًا، ما زال هوميروس (كاتب الإلياذة والأوديسة) هو مؤلف الأسطورة كما نعرفها اليوم، وبالمثل، حتى لو كانت مجموعة النجوم تشبه حصانًا، فقد تطلب الأمر فلكيًّا ليطلق عليها اسم بيغاسوس (الحصان المُجنح)، وهكذا يتأثر علم الأساطير وعلم الفلك تأثرًا عميقًا بالثقافات التي كان مؤلفو الأساطير والفلكيون جزءًا منها.
يقدم البطل اليوناني بيرسيوس مثالًا لهذه العلاقة بين الأساطير و علم الفلك والثقافة، ولما كانت أسطورته معروفةً منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل، فهو أيضًا أحد أقدم الأمثلة، فالقصة الأسطورية لبيرسيوس -وما ارتبط بها من مجموعات فلكية لاحقًا- تحتوي على انعكاسات للمخاوف والقيم الثقافية للإغريق القدماء.
تعطينا أسطورة بيرسيوس مثالًا للإغريقي المثالي، فالبسالة العسكرية كانت أسمى فضائل المجتمع الإغريقي، حتى إن تنصيب بيرسيوس إلهًا وتكريمه بمعبد في الأكروبول، راجع إلى أهمية كفاحه في الدفاع عن طريقة الحياة الإغريقية، فأن تصبح مُقاتلًا هي خطوة مهمة في حياة شباب الإغريق، وهكذا وضع بيرسيوس الأساس، يُقدِّر جموع الناس الشجاعة وتضحية المحارب المدافع عن موطنه وبلده، ومن ثم فإن شجاعة البطل هي مصدر نبله وتميزه. وهكذا، إن كانوا يرغبون في التمسك بمزاعمهم بالنبل ومكافأته، فمن واجبهم أن يقاتلوا (الحطاب 74). ولقصة برسيوس خصائص واضحة لأسطورة التلقين: فالبطل يسافر إلى مناطق كثيرة ليحصل على سلاحه الخاص الذي يأمره بالقتال (بريمر 27).
لكن هذه القصة، على نطاق واسع جدًّا، هي أيضا معركة بين قوى الخير والشر، وفيها يصبح الأبطال الأفراد أكثر أهميةً من جموع المقاتلين، في رمز لانتصار الفضيلة على الرذيلة، لأن هذه الحرب يجب أن تشنها كل نفس بمفردها (الشمال 29). تحمل بعض الأساطير التي تشمل الأبطال الذكور، تلميحات غامضة في الرموز الشمسية، مثلًا إن كفاح بيرسيوس ضد الغورغون تمثلت في معركة الطائفة الشمسية ضد قوى الظلام (بلوك 44). كانت الرذيلة الرئيسية عند الإغريقين هي الغطرسة، ويرتبط ذلك بالغرور أو التكبر، وتحذر قصة بيرسيوس من الغطرسة، إذ يُرسَل ثعبان البحر نتيجةً لغرور كاسيوبيا، ومجابهة بيرسيوس لميدوسا ناتجةً عن غطرستها في التبجح بقوتها (سلاتر 332-333).
تعلمنا الأسطورة أيضًا أهمية زينيا في الحضارة اليونانية القديمة (إلهة فضيلة الضيافة في الميثولوجيا الإغريقية). كان متوقعًا من الإغريق أن يستقبلوا ضيوفهم بلطف وإحسان، أي متمنين على أبوابهم، ففي أسطورة بيرسيوس، تتجسد زينيا عندما يُؤمر الصياد بتوقير (برسيوس وداناي)، وأن يأخذهم إلى كوخه ويعاملهم بوصفهم من آله (كيريني 48). تذكر سوزان لانغدون، أن الشبان اليونانيين شاركوا في طقوس ذكرى حقيقية أعادت رواية برسيوس، ففي حين يحافظ بيرسيوس على النظام الاجتماعي من طريق قتال الوحوش والأشرار، تحافظ القصة على النظام الاجتماعي بغرس القيم الثقافية في اليونانيين اليافعين. ويرتدي الرجال أقنعة غورغون ويحاربون الفتيان الذين يُطلب منهم قتل غورغون. وتتأكد أهمية هذا القتال في وصف برسيوس في كوكبته، فهو يحمل رأس ميدوسا التي قتلها لتوه، وهو برهان مادي على براعته القتالية، ويؤكد الدرس الذي جسدته الأسطورة، ويوضح أهمية الدين في الحياة اليومية للفرد، فهي قيم تغرسها الأسطورة في الأذهان.
إذن لم تكن التسلية هي الغرض من وراء هذه الأساطير بالتأكيد، ولم تكون مجرد قصص، لأنها شكلت نسيجًا واحدًا مع الحياة الفعلية للشعب، إذ أرست قيمًا اجتماعية وتعليمية، وواجبات يومية، وأعطت معنى للولادة والنضج والموت، لذا أكدت أن الآلهة لا تنزل إلى الأرض في الأساطير فحسب، بل في الحياة اليومية أيضًا، وأنشأ اليونانيون معابدهم عن اعتقاد بوجود هؤلاء الآلهة بالفعل.
تحدد أسطورة بيرسيوس -مثل أكثر الأساطير اليونانية- أسماء أماكن موجودة بالفعل في اليونان، ومن المعروف أن الأبطال اليونانيين كانوا غالبًا رجالًا عاديين اكتسبوا العظمة من بطولاتهم. في الواقع كانت مزارات هؤلاء الأبطال ومقابرهم في جميع أنحاء البلاد، ويشبه ذلك مكانة القديسين في العقيدة المسيحية (وودوارد 11 – 12). وهكذا كان بيرسيوس مثالًا على خلود المحارب المثالي رغم كونه بشريًّا. وتمس مغزى أسطورة بيرسيوس الدينية أيضًا أهمية علم النسب عند اليونانيين، ففي مجتمع أبوي كالمجتمع السائد في اليونان، يُمثل نسب المرء عاملاً مهمًّا في تحديد مركزه الاجتماعي، لا بالنظر إلى والديه المباشرين فقط. فمثلًا كتب مارتن نيلسن أنه في أثناء تحضيرهم لحملتهم ضد اليونانيين، أرسل الفرس رسلًا إلى الأرغوس لإثنائهم عن الاشتراك في الحرب، لأن الفرس ينحدرون من الأرغوس من طريق بيرسيوس.
أيضًا إن مفهوم (الحق الإلهي للملوك) الذي يعطي الحاكم سلطةً على الشعب بسبب نسبه الإلهي، استخدمه اليونانيون حتى بداية الحركات الديمقراطية في القرن السادس قبل الميلاد، فبيرسيوس بطل له دور اجتماعي، وينحدر من سلالة إلهية، ويحتل مكانةً مهمةً بين البشر الذين يمتلكون القوة والموارد الاستثنائية لدرء الأخطار. إن تزويد النبلاء بسلسلة النسب يكون من طريق الزواج من ابنة الملك والفوز بالمجد للأجيال القادمة (بلوك 324-325). من المناسب أن يحكم ابن زيوس الشعب، لذلك كان متوقعًا من الآلهة أن يتفاعلون مع الأرض، لا بذاتهم فقط، بل أيضًا عبر نسلهم من البشر. ويُظهر بيرسيوس هذا الفرق في القصة، لأن المكانة المهمة للبطل في الحياة المتأخرة داخل المجتمع يشعره براحة أكبر بسبب إبعاده السابق عن ذلك المجتمع. ولما كان بيرسيوس اكتسب سمات الآلهة، فمن المتوقع أن يكتسب مكانةً رفيعة، لا بين البشر فحسب، بل بين النجوم أيضًا. وأن تُظهر أسطورته أهمية الدين في الحياة اليومية.
تبين قصة بيرسيوس أيضًا دور المرأة في المجتمع اليوناني، إذ كانت الفتاة اليونانية المثالية تُدعى بارثينوس، وكان من المتوقع أن تكون الشابات العذراوات نقيات محتشمات، يقرن في بيوتهن إلى أن يتزوجن، لما في ذلك من خير للبلاد، حتى ارتكب أكريسيوس شرًّا مُريعًا بحبس ابنته، ما حرمها من الخاطبين. قوَّم بيرسيوس فكرة البارثينوس بالمضي في مسعاه. يوضح ريتشارد كالدويل أن بيرسيوس يقتل الأنثى المتوحشة ميدوسا ثم يتزوج الأميرة أندروميدا، على الحال التي كانت عليها أمه داناي في بداية الأسطورة.
اقرأ أيضًا:
ما هو علم الفلك؟ ما هي فوعه؟ وماذا يفعل علماء الفلك؟
ما هو علم الفلك؟ ما هي فوعه؟ وماذا يفعل علماء الفلك؟
ترجمة: فارس علام
تدقيق: عبد الله كريم
مراجعة: أكرم محيي الدين