منذ 7000 سنة، قبل أن يرفع التطور الصناعي حرارة الكوكب. هدد ارتفاع منسوب مياه البحار وجود أحد المجتمعات على سواحل فلسطين. حاول القرويون حماية مساكنهم ببناء جدار. فشلت المحاولة وهجر الناس القرية قبل أن تغمر مياه البحر الأرض وتغرق المباني.
يحتفظ البحر أحيانًا بما يحطمه. حفظت المياه الباردة، وطبقة سمكها متر من الرمال، آثار العصر الحجري الحديث Neolithic مثل أنوية زيتون وجراره، وعظام حيوانات، وقبور، إلى جانب الاكتشاف الأهم: جدار من 100 متر من الأحجار المتراصة بمحازاة خط الساحل القديم.
وفقًا لجوناثان بنجامين Jonathan Benjaminعالم الآثار البحرية بجامعة فليندرز بأستراليا، يُعَد هذا الجدار الدليل الأول على أن القدماء واجهوا مشكلة ارتفاع منسوب البحار التي نواجهها الآن، مع حرصه على تأكيد الفارق بين الارتفاع الطبيعي لمنسوب البحار في نهاية العصر الجليدي، وبين الارتفاع الناتج عن الاحترار العالمي الذي سببه البشر.
يزعم بنجامين وفريقه في ورقتهم البحثية المنشورة في دورية PLOS One إن هذا هو أول دفاع ساحلي coastal defense في التاريخ.
كُشف الموقع المسمى تل حريز Tel Hreiz صدفةً سنة 1960، عندما عثر مجموعة من الغواصين على أدوات حجرية وعظام بشرية في أثناء بحثهم عن حطام إحدى السفن. لكن ظل الجزء الأكبر من الموقع مغمورًا بعمق نحو 3-4 أمتار تحت سطح البحر.
ظهر جزء صغير من الجدار سنة 2012 عندما أزاحت عاصفة شتوية قوية الغطاء الرملي لتكشف صفًّا من الصخور، ثم جاءت عاصفة أخرى في 2015 لتكشف المزيد من تلك الأحجار.
يقول بنجامين، وعالم الآثار البحرية إيهود جاليلي Ehud Galiliمن جامعة حيفا إنهما ناقشا العديد من الاحتمالات المختلفة حول هذا الجدار، الذي قد يكون حاجزًا للحفاظ على الماشية أو سدًّا أو جدارًا دفاعيًّا ضد اللصوص، لكنهما استبعدا كل تلك الاحتمالات في النهاية.
يشير جاليلي إلى عدم وجود أعداء محتملين من جهة البحر، أما عن حماية الماشية فقد استخدم القرويون أسوارًا من عروق الأخشاب لاحتجازها، لكن حجم الجدار ومكانه والطبيعة غير التقليدية للأحجار المستخدمة في بنائه، كل ذلك يشير إلى غرض واحد فقط: محاولة الاحتماء من خطر البحر نفسه.
وفقًا لماري جاكسون Marie Jackson، الباحثة المشاركة في الدراسة، أستاذ الجيولوجيا بجامعة يوتاه، أدرك هؤلاء القوم إن عليهم وضع صخور ضخمة في ذلك المكان. كانوا يفكرون في المستقبل وأرادوا أن يبقى الجدار طويلًا، فالساحل حيوي للغاية، وبدون ذلك الجدار ستكون الدفاعات ضعيفة.
لا بد أن تل حريز كانت ترتفع نحو 2.5 مترًا عن سطح البحر، وكان مجتمعًا زراعيًّا يعتمد على تربية الماشية إلى جانب صيد الغزلان وامتلاك الكلاب والخنازير، وتشير حاويات الزيتون المتناثرة في الموقع إلى أن هؤلاء القوم عرفوا استخلاص الزيوت.
وفقًا لجاليلي، يبين التأريخ الإشعاعي للكربون Radiocarbon dating، في الفحم والقطع الخشبية وعظام الحيوانات والبقايا البشرية، أن القرية ازدهرت مئات السنوات. وقد عاش فيها نحو 10 أو 20 عائلة، واستوطنها الناس في العصر الحجري طوال 10 أجيال على الأقل.
يقول بنجامين: «أنا واثق أن هؤلاء القوم سعوا إلى الحفاظ على موطنهم، مدفوعين بكون عائلاتهم عاشت في المكان ذاته منذ زمن طويل».
من العسير تصور أن سكان تل حريز علموا بارتفاع مستوى سطح البحر، فيما يُعرف الآن بالذروة الجليدية الأخيرة last glacial maximum ، التي حدثت في أواخر العصر الجليدي منذ 20 ألف سنة، عندما احتُجزت كميات هائلة من الجليد عند القطبين، وذاب الجليد فارتفع منسوب المحيطات.
يقول بنجامين إن العواصف الشتوية على طول السواحل الفلسطينية دفعت الأمواج عاليًا إلى الشواطئ، فاندفعت المياه كما تضرب العواصف سواحل المحيط الأطلسي في موسم الأعاصير.
يقول مؤلفو البحث إنه قبل 7000 – 9000 سنة، ارتفع منسوب مياه البحر المتوسط عند سواحل شمال فلسطين نحو أربعة ملليمترات كل سنة، وهو ما جعل خطورة الأمواج الشتوية في تزايد مستمر.
بُنيت البيوت والمواقد في تل حريز من الأحجار الصغيرة دون ملاط، وهو ما جعلها ضعيفةً في مواجهة المياه والأمواج، التي بإمكانها إلحاق أضرار شديدة بمبان كهذه، وتدريجيًّا أصبح خطر الأمواج يأتي بسرعة وبتواتر كبيرين.
لابد أن مثل تلك الإشارات أنتجت مناقشات مشابهة لما يحدث الآن في المجتمعات الساحلية، ففي الحالتين يريد القوم حماية منازلهم.
لم تُستخرج الصخور المكوِّنة للجدار البحري من مكان قريب، إذ لا تحمل علامات تدل على الحفر، بل لها حواف مستديرة. يعتقد مؤلفو البحث أن صخورًا مصقولة كهذه لا بد أن مصدرها أحد الأنهار، وأقرب نهر يبعد بضعة كيلومترات من الموقع.
درس خبير في المباني البحرية الرومانية القديمة الميناء والمباني المحيطة به في مدينة قيسارية Caesarea الرومانية التي تبعد 50 كيلومترًا جنوب تل حريز.
مع إن مدينة قيسارية بُنيت بعد تل حريز بآلاف السنوات، واستُخدم في بنائها مواد مختلفة، يرى الخبير أن تلك المجتمعات انتهجت نفس أسلوب البناء، فقد شحن الرومان نحو 15-20 طن من الحجارة من إيطاليا إلى قيسارية لتشييد المواني.
وبالمثل، لابد أن الأمر تطلب جهدًا هائلًا لبناء الجدار في تل حريز، إذ يشير حجم الأحجار المستخدمة في البناء ووزنها إلى نية البُناة في صنع شيء يبقى ويُستخدَم مدةً طويلة.
يرى جاليلي إن بناء الجدار كان قرارًا جماعيًّا تلاه جهد جماعي، إذ لا بد إن الأحجار -التي تزن الواحدة منها نحو طن- قد نقلتها جماعات من الناس أو جرتها الثيران أو دُحرجت إلى الموقع.
بمعدل ارتفاع منسوب سطح البحر الآن، سيصبح مستوى المحيطات أعلى من المستوى الحالي بمقدار 65 سنتيمترًا سنة 2100. يرتفع البحر في بعض المناطق مثل ميامي بمقدار 9 ملليمترات سنويًّا منذ 2006، وهو تقريبًا ضعف مستوى الارتفاع الذي واجهه سكان تل حريز.
يقول بنجامين: «لقد أرادوا جدارًا يرتفع عاليًا ويبقى طويلًا، وفي النهاية هجروه. ليكن ذلك التاريخ الإنساني عبرةً لنا».
اقرأ أيضًا:
ماذا سيحدث للمدن الساحلية إذا استمر ارتفاع منسوب البحار ؟
هذه البلدان الساحلية بدأت بخسارة أراضيها بسبب ارتفاع مستوى البحر لليابسة
يدرس العلماء منسوب البحار منذ 125.000 سنة، والنتائج المستقبلية مرعبة
ترجمة: مصطفى عبد المنعم
تدقيق: حسام التهامي
مراجعة: أكرم محيي الدين