يُعرَّف علم الاقتصاد بأنه دراسة طريقة تخصيص الموارد النادرة من سكن وغذاء ونقود. لكن ما مفهوم الندرة فيما يخص كمية المعلومات الهائلة المتوافرة تحت تصرفنا في هذا العصر؟ إن الموارد الثلاثة التي ذُكرت سابقًا قابلة للقياس التجريبي. وعلى النقيض، يكون انتباهنا غير ملموس ولكنه ثمين جدًا. إذ إنه المُحدِد لندرة المعلومات: فنحن نعيش في عصر اقتصاد جذب الانتباه.
تُعرِّف رابطة علم النفس الأميركية الانتباه بأنه: «تركيز مصادر الإدراك على مفاهيم معينة دون غيرها في البيئة المحيطة».
للانتباه أشكال عدة، مثل الحب أو العرفان أو الطاعة أو المساعدة. ورغم عدم قابلية الانتباه للقياس الكمي، يشتق الكثيرون القيمة التي يمثلها الانتباه من الوقت الذي نمضيه في التركيز على شيء معين. لذا فإننا نواجه مشكلات ندرة الانتباه يوميًّا. فتركيز انتباهنا على شيء ما، يجعلنا نهمل أشياء أخرى. وكما نفعل بالنقود، فإننا نتبادل الانتباه. أنت على الأرجح تهمل واجبًا من واجباتك في سبيل قراءة هذا المقال (عُذرًا على تذكيرك بذلك).
صاغ عالم الاقتصاد والنفس هربرت أ. سايمون مصطلح «اقتصاد جذب الانتباه». واقترح أن «الانتباه يشكل أزمة للفكر البشري» إذ إنه يضع حدودًا لما يمكن إدراكه من محفزات البيئة، وأيضًا حدودًا لما يمكننا تنفيذه. ولاحظ كذلك أن «وفرة المعلومات دائمًا ما تخلق فقرًا في الانتباه». وارتأى أن فكرة تعدد المهام -Multitasking ما هي إلا أسطورة.
لاحقًا، وفي عام 1997، نبّه عالم الفيزياء النظرية مايكل غولدابر إلى تحول الاقتصاد العالمي من اقتصاد مبني على الإنتاج المادي إلى اقتصاد مبني على الانتباه. ضاربًا المثل بالعدد الكبير من الخدمات الإلكترونية المقدمة مجانًا. ومع تناقص أعداد المشتركين في عملية التصنيع، وابتعادنا عن الاقتصاد الصناعي عمومًا، أصبحت المهن المُستحدثَة تتعامل مع المعلومات. ويرفض غولدابر إطلاق اسم «اقتصاد المعلومات» على الحالة الجديدة رغم شيوع استعماله. لكون المعلومات ليست نادرةً ندرة الانتباه.
جميعنا متعطش وبحاجة للانتباه إلى درجة معينة. تمامًا مثل احتياجنا المال لتغطية المأكل والمشرب وتأمين المأوى. بصورة مشابهة، يمكن أن يترجم الانتباه إلى حاجات ملموسة وضرورية للبقاء. فما بكاء الأطفال وضحكهم وإصدارهم مختلف الأصوات إلا لجذب الانتباه، وهو ما يؤمن لهم الطعام واللباس وكل ما يلزم لبقائهم أحياء. إلا أن المال متمايز تمامًا عن الانتباه، فالمال يلاحق الانتباه. بينما لا يكون العكس صحيحًا دائمًا. ومع ازدياد اعتماد الاقتصاد على الانتباه، تتدفق واسطة التبادل من الذين يحوزون المال إلى حائزي الانتباه.
لطالما كان انتباهنا محدودًا وثمينًا ونادرًا، لكن توفير التقدم التقني لكميات مهولة من المعلومات الموجهة استراتيجيًا لتحوز على انتباهنا هو السمة التي تطبع عالمنا الحاضر. وأصبح حصول عامة الناس على مستويات اهتمام شخصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي أسهل من أي وقت مضى.
تعمل هذه الوسائل على استبقائنا على منصاتها لوقت أطول، وتجعلنا نطلب المزيد على الدوام. على عكس مواقع الإنترنت العادية التي نتصفحها بحثًا عن إجابة سؤال ما أو طلبًا للمساعدة في بحث نجريه ثم نغادر الموقع حال حصولنا على مبتغانا.
ما إن نرى مستخدمًا نهتم به أو منصةً تعجبنا على وسائل التواصل الاجتماعي حتى نشترك في قناة اليوتيوب أو نطلب الإضافة على فيسبوك أو نتابع على إنستغرام أو تويتر. ومن ثم فإن كل ما يشاركه هؤلاء سيظهر لنا في صفحاتنا الشخصية.
يمكن لأي شخص إنشاء حساب، وستُتاح له الفرصة ليكون معروفًا عند الملايين. غير أن هذا يزيد من ضغط الحاجة إلى الحصول على المزيد من انتباه المتابِعين. الأمر الذي يصبح أكثر ندرةً يومًا بعد آخر. وما يجعل المقارنة بين المنصات سهلًا هو قياس قوة الحضور على وسائل التواصل بأعداد «الأصدقاء» و«المتابِعين» أو تزايد أعداد المتابَعات والإعجابات والاشتراكات. وأيضًا فإن قسم «اكتشف المزيد» في وسائل التواصل الاجتماعي يرشقنا بكمية غير محدودة من المعلومات على أمل أن يثير مقطع فيديو أو صورة أو وسم ما اهتمامنا. لذا يمكنك تصفح هذه المواقع بلا توقف، وأيضًا توفر لك ميزة التشغيل التلقائي مقاطع جديدة عند انتهائك من مشاهدة أي فيديو. رغم ذلك، يحرمنا تركيز انتباهنا على هواتفنا من فرص كثيرة متاحة.
يصعب تحديد أثر خضوع انتباهنا لمواقع الإنترنت على الاقتصاد وعلى المجتمع ككل. وتلحظ دراسة لعالمي الاقتصاد إليانا لافيرارا من جامعة بوكوني وستيفانو ديلافينيا من معهد بيركلي في جامعة كاليفورنيا، ضرورة أخذ مزاحمة وسائل التواصل الأنشطة الأخرى بالاعتبار بجانب أثر التعرض المباشر لهذه الوسائل أو ما يعرف بأثر الإحلال. وقد تسبب التقدم التقني الكبير في العقد المنصرم ببقاء كثير من التأثيرات الواجب دراستها مجهولةً لنا. ويقول تقرير العالمين أنه في عام 2013 قضى الفرد الأمريكي وسطيًا 2.7 ساعة يوميًا في مشاهدة التلفاز. أي نصف وقت فراغه تقريبًا (ربما تُنسب هذه الإحصاءات إلى وسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن).
إضافةً إلى ذلك، فإنه من الصعوبة بمكان أن نعاود مزاولة مهمة بعد مقاطعتنا لها ولهوِنا عنها كما يقول تقرير للبروفيسور غلوريا مارك الأستاذة في معهد إرفين للمعلوماتية في جامعة كاليفورنيا، إذ يخلص التقرير إلى حاجة الإنسان إلى 23 دقيقةً و 15 ثانيةً وسطيًا للعودة إلى مستوى التركيز الذي كان يعمل عنده.
وكما يعاني العالم من مشكلة عدم عدالة توزيع الثروة، فإنه يعاني هذه المشكلة أيضًا في توزيع الاهتمام. إذ راكم النجوم والمشاهير عددًا هائلا من المتابعين. فيوجد مثلًا 205 مليون متابع لحساب لاعب كرة القدم كريستيانو رونالدو على إنستغرام. وهذا الرقم أكبر من عدد سكان ست من عشر دول هي الأعلى سكانًا في العالم ما يجعله أكثر الحسابات متابعة على تطبيق إنستغرام.
دائمًا ما تعرَض حياة المشاهير على الملإ في مختلف وسائل التواصل. ويعطيهم هذا النوع من النجومية مظهرًا أقل إنسانيةً شيئًا فشيئًا.
أدركت كثير من الشركات ندرة الانتباه وكيّفت نموذج أعمالها للاستثمار في هذه الندرة. وعلى سبيل المثال، لدى خدمات بث الموسيقى مثل سبوتيفاي مصدران للإيرادات: الأول هو ما يُدفع لها مقابل تجاوز المستخدم للإعلانات، والثاني أن «يُدفع» لها من انتباه المستخدم الذي يستمع إلى الإعلانات ولا يتجاوزها.
يُقر نير إيال في كتابه «Hooked: How to Build Habit-Forming Products» باستفادة الشركات التقنية من دراسة مشهورة أجراها عالم النفس في جامعة هارفارد ب. ف. سكينر، التي خلُصت إلى أن تأثير مكافأة الأفراد، خصوصًا على فترات متباعدة ومتغيرة، يزيد حالة الترقب لديهم. ومع زيادة الترقب، يتحول البحث عن المكافأة، الأمر الذي استثمرت فيه شركات التقنية بغرض جذب الانتباه، من مجرد سلوك إلى غريزة. ويقول إيال: «ما أن يقع أحدنا في حيرة فإن البحث في غوغل هو أول ما يلجأ إليه دون التفكير في أسباب هذه الحيرة. وأيضًا نلجأ إلى فيسبوك في أوقات الوحدة بلا إدراك لطبيعة وحدتنا. أو نجد السلوى في يوتيوب حتى قبل تسرب الملل إلى أنفسنا. لا يوجد ما يجبرنا على فعل هذه الأشياء سوى الحافز الذاتي في دواخلنا».
بلغ العديد من جيل ما بعد الألفية، مواليد الفترة من 1995 إلى 2010، سن المراهقة في فترة بزوغ وسائل التواصل الاجتماعي. وتماهى ما يعتري المراهق من شعور بالقلق ورغبة في التشبه بشخصيات معينة وحاجة إلى الانتماء مع الهدف الذي صممت وسائل التواصل لأجله وهو «بناء الجسور بين البشر» وتمكينهم من جمع المزيد من الانتباه.
يرى تريستان هاريس مؤسس مركز التقنية الخيّرة وأخصائي الأخلاقيات وفلسفة المنتجات السابق في غوغل، أن لوسائل التواصل أثرًا هائلًا على المجتمعات، ويؤكد قائلًا: «قد يبدو تصميم السلوك سخيفًا، ويعزى ذلك إلى تخفيه خلف شيء بسيط مثل الضغط على أيقونات في شاشة الكمبيوتر. لكن ما يحدث عند قياس ذلك على مستوى ضخامة اقتصاد عالَمنا هو صراع على السيطرة»
ومع استمرار غرقنا في بحر من المحفزات التي تحاول جذب انتباهنا، ربما يجدر بنا تركيز الاهتمام على ما ننتبه إليه!
اقرأ أيضًا:
شهادة أيزو 9000: كل ما تود معرفته
ترجمة: مالك عوكان
تدقيق : إدريس زويتن
مراجعة: أحلام مرشد