يصعب علينا حقًا فهم الفضاء ثلاثي الأبعاد وفقًا لوجهة نظرنا الأحادية عن الكون، بإمكاننا صنع خريطة للنجوم في كوكباتها المعروفة في السماء، لكننا نجد صعوبةً في معرفة أيها أقرب إلينا. تُعد الشموع العيارية ذات التوهج الثابت المعروف إحدى الطرق التي نستعملها لتحديد المسافة بيننا وبين الأجسام في الفضاء، إذ يقيس علماء الفلك مدى سطوعها الحقيقي ومدى سطوعها الذي قسناه بواسطة الضوء الذي وصلنا، وباستخدام هذا الفارق يمكننا حساب المسافة التي قطعها الضوء الصادر منها.
تشمل الشموع العيارية النجوم النابضة ذات التوهج الثابت المرتبط بمواعيد نبضها، والمستعرات العظمى التي تملك ذروة سطوع محددة وثابتة.
أظهر علماء الفلك حديثًا جدوى القياس بواسطة أداة جديدة من المرجح أنها ستكون أفضل أدوات القياس في الكون، إنها الثقوب السوداء فائقة الكتلة أو صدى تلك الثقوب للدقة.
يقول الفلكي يو شين من جامعة إلينوي في إربانا شامبين: «يُعد قياس المسافات في الكون من أصعب التحديات في علم الفلك، ويعد احتمال وجود طريقة إضافية أخرى لقياسها أمرًا مثيرًا للغاية».
قد ينتابك بعض الارتياب هنا، فجميعنا يعلم أن الثقوب السوداء لا تشع الضوء ولا تعكسه، لذلك لن نستطيع مطلقًا انتهاج طريقة الشموع العيارية معها، فهي المعاكس الحرفي للضوء، ولا يمكنها إصدار أي شعاع مرئي، إذ إنها غير مرئية تمامًا.
يوجد الملايين من الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية في مجرتنا درب التبانة، وقد تمكنا من تحديد القليل منها فقط، في حين توجد ثقوب سوداء فائقة الكتلة في مراكز المجرات، وتُعد مختلفةً تمامًا. على أي حال ستظل غير مرئية لنا، لكنها إن كانت نشطةً فستتوهج جميع المواد المحيطة بها، ويمكننا استخدام الطريقة التي يسلكها الضوء في تلك البيئة لمعرفة مدى سطوعها الفعلي، إذ يتغذى الثقب الأسود النشط فائق الكتلة على المواد من حوله، وتشكل تلك المواد البنية المعروفة حول الثقوب السوداء، وقد تبلغ كتلة ذلك النوع من الثقوب السوداء من ملايين إلى عشرات المليارات ضعف كتلة الشمس.
تسحب الجاذبية المواد الموجودة حول الثقب الأسود إلى داخل الثقب، مثل الماء الذي ينحدر إلى فتحة التصريف بهيئة دوامة، مشكلةً القرص المتنامي الذي يسخن ويتوهج بشدة نتيجة قوى الجاذبية والاحتكاك، ولكن ليس هذا ما يرغب علماء الفلك في قياسه.
خارج القرص المتنامي توجد سحابة من الغبار أكبر من القرص تشبه كعك الدونات وتسمى طارة (الطارة في الهندسة هو سطح دوراني في الفضاء الإقليدي ينتج عن دوران دائرة حول خط مستقيم)، ويترافق الهيكلان معًا -كما في الصورة- لتشكل الطارة الخارجية المفتاح للتقنية المعروفة بخرائط الصدى.
بين حين وآخر، تتوهج منطقة القرص المتنامي بالقرب من الثقب الأسود النشط فائق الكتلة فتشع أطوالًا موجيةً مرئيةً وفوق بنفسجية، وعندما تصل إلى الطارة يتكون صداها الخاص. تمتص سحابة الغبار الضوء المرئي وفوق البنفسجي، فتسخن وتصدر الطاقة الحرارية في صورة أشعةً متوسطةً تحت حمراء.
قد تكون الأقراص المتنامية ضخمةً للغاية، وقد يستغرق الضوء سنوات ليصل إلى الطارة ويشع من جديد. ولكن نظرًا إلى معرفتنا بسرعة الضوء، يمكن علماء الفلك استخدام الزمن بين حدوث التوهج والصدى لحساب المسافة بين الحافة الداخلية للقرص المتنامي والطارة.
نعلم أن الحافة الداخلية للقرص المتنامي ساخنة للغاية، ونعلم أن القرص يبرد كلما اتجهنا خارج الثقب الأسود، وعندما تنخفض الحرارة إلى نحو 1200 درجةً مئوية، تتكون عندها سحابة الغبار، لذلك تتناسب المسافة بين الطارة والحافة الداخلية للقرص المتنامي تناسبًا طرديًا مع درجة الحرارة الناشئة، وإذا تمكنا من معرفة المسافة، فيمكننا حساب درجة الحرارة، ومن ثم يمكننا معرفة كمية الضوء المنبعث في تلك المنطقة، وسيبدو الأمر كأنه انفجار بتوهج ثابت، تعرف هذه العملية بالعلاقة الرابطة بين R وL (إذ إن نصف القطر R، والتوهج L).
ليس الأمر ببساطة الانفجار، إذ تحتاج إلى مراقبة ثقب أسود فائق الكتلة بحرص على فترات زمنية طويلة لتتمكن من تحديد التوهجات المرئية والأشعة فوق البنفسجية وصدى الأشعة المتوسطة تحت الحمراء.
فحص فريق من علماء الفلك بقيادة كيان يانج من جامعة إلينوي إربانا شامبين البيانات التي جمعتها التلسكوبات الأرضية البصرية على مدار عقدين بحثًا عن التوهجات المقصودة، ودرسوا البيانات التي جمعها مستكشف الأشعة تحت الحمراء عريض المجال التابع لوكالة ناسا بين عامي 2010 و2019 للبحث عن توهجات الأشعة تحت الحمراء المطابقة لنموذجهم، وقد حددوا التوهجات المرئية وصدى الأشعة المتوسطة تحت الحمراء في 587 ثقبًا أسود فائق الكتلة، ويُعد هذا الفحص المنفرد الأكبر من نوعه.
مع وجود مجال لتحسين البيانات، فإن مسح الأشعة الحمراء لم يشمل جميع الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء، ما يعني وجود قدر مقبول من الشك في حسابات المسافة، لكن العلماء تحققوا فعلًا من مقاييس العلاقة الرابطة بين R وL، وتيقنوا من أن الصدى يسلك السلوك نفسه عبر جميع الثقوب السوداء فائقة الكتلة في جميع أحجام عينتهم.
يعمل الفريق على تحسين نماذجهم لفهم سلوك الغبار فهمًا أفضل، ومعرفة كيفية انبعاث ضوء الأشعة تحت الحمراء ، وسيستمر المسح بأفضل التقنيات لتقديم بيانات رصدية عالية الجودة.
قال يانغ: «يكمن جمال تقنية خرائط الصدى في أن الثقوب السوداء فائقة الكتلة لن تختفي في وقت قريب، لذلك يمكننا قياس صدى الغبار مرةً بعد مرة للنظام نفسه لتحسين قياس المسافة».
اقرأ أيضًا:
ثماني أفكار حول الثقوب السوداء ستفقدك صوابك!
في فجر التاريخ، ربما انتشرت الثقوب السوداء فائقة الكتلة في أنحاء الكون
ترجمة: آية قاسم
تدقيق: راما الهريسي
مراجعة: أكرم محيي الدين