سلسلة علم الأحياء الكميّة
الحلقة الثانية: هجرة الطائر «أبو الحناء»
ميكانيكا الكمّ، تصف السلوك الشديد الغرابة للجسيمات تحت الذرية، بالنزول إلى هذا العالم من الأشياء الصغيرة علينا أن نتنازل عن الحسّ المشترك والبداهة التي اعتدنا عليها في عالمنا الكبير.
بدلًا من ذلك، يمكن للجسيمات أن تنتشر كالموجات، أو يمكن للجسيمات الكمومية أن تتواجد في عدة أماكن في نفس اللحظة؛ وترسل لبعضها البعض رسائل غامضة.
تستطيع فيزياء الكمّ حلّ أعظم الألغاز في علم الأحياء، وقد تحمل في طياتها الكثير من أسرار الحياة.
بداخل العالم الرائع للأحياء الكمومية أن الحياة هي مجرد لعبة الاحتمالات، وتُلعَب وفق قواعد ميكانيكا الكمّ، فهي ضرورية لفهم العديد من العمليات الحيوية المهمة في الحياة؛ بل ومن المحتمل أن تُشكّل ميكانيكا الكمّ جزءًا أساسيًا من الوجود الأولي للحياة نفسها.
تكهّن العلماء منذ فترة طويلة أن بعض الحيوانات تستغل المجالات المغناطيسية لتجد طريقها، على سبيل المثال يحلق طائر الرهو (Demoiselle Cranes) إلى ارتفاعات تزيد عن 20 ألف قدم عندما تمر عبر جبال الهيمالايا، بينما يسافر طائر خطاف البحر القطبي (Arctic Tern) من القطب إلى القطب لمسافة 40 ألف ميل باحثًا عن الصيف، وفي كل عام تهاجر طيور أبو الحناء (European Robin) من شمالي أوروبا إلى أطراف إسبانيا ثم تعود إلى موطنها.
لكن الشيء المثير للدهشة هو كيفية القيام بذلك؟
لقرون طويلة، بقيت كيفية هجرة الطيور بهذه الدقة بالضبط واحدة من أكبر الألغاز في علم الأحياء.
في السنوات القليلة الماضية، ساهم طائر أبو الحناء بإحداث ثورة علمية بعدما تبيّن أنه يهاجر عن طريق استخدام واحدة من أهم الظواهر في الفيزياء الكمية وهي التشابك الكمومي (quantum entanglement) التي أربكت أعظم الفيزيائيين من ريتشارد فاينمان إلى ألبرت أينشتاين.
يفترض التشابك الكمي أنه عند خلق إلكترونين في نفس الوقت سيكون الزوج الإلكتروني متشابكًا، مهما يحدث لأحد الإلكترونين سيؤثر على الإلكترون الثاني بطريقة ما، وتبقى الجسيمات متشابكة حتى عندما تفصلهما مسافات شاسعة.
فإذا كان الجسيم الأول يمتلك لفًّا مغزليًا للأعلى فإن الجسيم الآخر يجب أن يمتلك لفًّا مغزليًا للأسفل، وقد تكون الإلكترونات متشابكة بالعكس.
لكن المثير للاهتمام هو أن كلا الإلكترونات لا تمتلك لفًّا مغزليًا محددًا ما لم يتم قياسها.
هذا يعني أنك لست الوحيد الذي لا يعلم ما هو اللفّ المغزلي للإلكترون حتى يتم قياسه، ولكن العملية الحقيقية لقياس اللفّ المغزلي هي التي تقرّر كون اللفّ المغزلي للأعلى أو للأسفل.
بالرغم من صعوبة تصديق وفهم التشابك، إلا أنه صفة راسخة لميكانيكا الكمّ، ويقترح بعض علماء الفيزياء أن الطيور والحيوانات الأخرى قد تستخدم تأثير التشابك لرؤية وتتبّع المجال المغناطيسي للأرض.
وقد درس مجموعة من العلماء من جامعة كاليفورنيا قدرة طائر أبو الحناء لاستشعار التغيّرات الكمية الصغيرة من خلال التلاعب في الحقل المغناطيسي المحيط بالطيور.
حيث تمّ وضع طائر أبو الحناء في قفص أثناء موسم الهجرة، وقام الفيزيائيون بتبديل قطبية المجال المغناطيسي حوله، فاستنتج العلماء من هذا الاختبار أن تغييرًا طفيفًا بنسبة واحد بالألف من قوة المجال المغناطيسي للأرض من شأنه أن يؤثر على قدرات الطيور لتوجيه نفسها.
وقام أيضًا عالم الأحياء هينيرك مورتسن (Henrik Mouritsen) من جامعة أولدنبيرغ (University of Oldenburg) بتجربة على طائر أبو الحناء، حيث وضع قلنسوة جلدية على رأس الطائر بحيث تحتوي على فتحة في مقدمة إحدى العيون، وقد لاحظ أنه في حالة تغطية العين اليمنى للطائر سيقوم بإيقاف البوصلة المغناطيسية في الجزء الأيسر من دماغ الطائر، وإذا قام بتغطية العين اليسرى، سيقوم بإيقاف البوصلة المغناطيسية في الجزء الأيمن من الدماغ، واستنتج أن بوصلة الطائر تتواجد في عيونها.
تحدث العملية بواسطة التفاعلات التي يثيرها الضوء على المواد الكيميائية في عين طائر أبو الحناء، حيث يثير الضوء إلكترونين في جزيئة في عين الطائر، محوّلًا أحدهما في جزئية ثانية، إلّا أن كلا الإلكترونات تبقى متشابكة على الرغم من انفصالهم.
إن المجال المغناطيسي للأرض يغيّر إتجاه اللفّ المغزلي للإلكترون؛ وبالتالي يغيّر الخواص الكيميائية للجزيئات.
إن التفاعلات التي تحدث ستخلّف تراكيزًا متفاوتة للمواد الكيميائية في أنحاء العين، وربما خلق صورة للمجال المغناطيسي للأرض التي من شأنها أن تسمح للطيور بتوجيه أنفسها.
لا تزال النظرية في مراحلها الأولى ولكن علماء الفيزياء الأحيائية بالفعل يراقبون المواد الكيميائية القليلة التي قد تمكّن الطيور من الكشف عن التشابك الكمومي.
أحد هذه المواد الكيميائية المحتملة هو الكربتوكروم (cryptochrome) وآثاره المحتلمة قيد الدراسة.
يُعتقد أن الأزواج المترابطة تتشكّل في الكربتوكروم بوجود الضوء الأزرق.
وقد توصّل مجموعة من علماء الفيزياء من جامعة أكسفورد إلى أن التشابك الكمومي يمكن أن يدوم في شبكة العين للطيور لمدة 100 مايكروثانية، بينما يستطيع الفيزيائيون الحفاظ على التشابك مختبريًا لمدة أقصاها 80 مايكروثانية فقط على الرغم من تبريد وسط التجربة إلى ما يقارب الصفر المطلق.
ربما الأكثر روعة من ذلك هو أن طائر أبو الحناء قادر على القيام بعمل أفضل من قدرة مختبرات الفيزياء الحالية في الكشف عن التشابك الكمومي.
نتائج الدراسة لا تقتصر على الطيور فقط، حيث يُعتقد أن هنالك عدد من الأسماك والزواحف والحشرات وحتى الثدييات التي تستخدم المجال المغناطيسي للتنقّل والهجرة.
يقول عالم الفيزياء النظرية النووية جيم الخليلي (Jim Al-Khalili) من جامعة سيري: «هذه التجارب حقيقية وقابلة للإثبات، بالرغم من أنني أُشاهدها بأم عيني إلا أنني لا أزال أجد صعوبة في تصديق ذلك، هجرة الطيور قامت بتوحيد علم الفيزياء والطبيعة معًا مُشكّلةً علم الأحياء الكمية، هنالك عالم جديد بالكامل لاكتشافه، فهو لا يؤثر على الطيور فقط بل يؤثر على كل شخص منفرد منا».
إعداد: سرمد يحيى
تدقيق: دانه أبو فرحة