بعد مضي بضعة أجزاء من الثانية من حدوث الانفجار العظيم، سادت الفوضى في أنحاء الكون. اندمجت وتفككت نواة الذرة بسرعة رهيبة وحرارة عالية، وتزايدت شدة الأمواج الضاغطة زيادةً هائلة جامعة معها كل أنواع المواد الكونية لتُشكل الثقوب السوداء، تلك الثقوب التي يُسميها علماء الفيزياء الفلكية بالثقوب السوداء الأولية.
السؤال هنا، هل ساعدت تلك الثقوب السوداء في تشكل النجوم الأولى في الكون بعد مضي مئة مليون سنة أم عرقلتها؟
الآن، لدينا حواسيب فائقة تُساعد في الإجابة عن هذا السؤال بالمحاكاة.
يعود الفضل إلى المحاكاة التي بُنيت باستخدام الحاسوب الفائق ستامبيد 2 Stampede التابع لمركز تكساس للحوسبة المتقدمة Texas Advanced Computing Center (TACC)، وهذا المركز جزء من جامعة تكساس في أوستن.
يقول بويان ليو باحث حاصل على الدكتوراه في جامعة كامبردج: «تُظهر المحاكاة أن الثقوب السوداء البدائية لم يكن لها تأثير على تشكل النجوم الأولى».
يكتب ليو بصفته الكاتب الأساسي لبحثه في مجال الحوسبة الفيزيائية الفلكية الذي نُشر في آب سنة 2022 في مجلة الإشعارات الشهرية للجمعية الفلكية الملكية Monthly Notices of the Royal Astronomical Society.
في بداية تشكل الكون، أعلن النموذج القياسي للفيزياء الفلكية أن الثقوب السوداء أسهمت بتشكيل البنى الشبيهة بالهالات عن طريق قوة جاذبيتها الهائلة، شبيه بكيفية تشكل الغيوم عند تكاثف جسيمات الغبار. وقادت تلك النتيجة إلى القول أن هذه الظاهرة ساعدت في تشكل النجوم، إذ ساعدت الثقوب السوداء في اندماج المادة لتتشكل بعدها النجوم والمجرات.
تسخن الثقوب السوداء عندما تبتلع الغازات والحطام من حولها، ويؤدي ذلك إلى تشكيل قرص متراكم حار يحيط بالثقب الأسود تنبعث منه فوتونات نشطة تؤين الغازات المحيطة بها وتُسخنها.
تُشير هذه النتيجة إلى عدم إمكانية تشكل النجوم، إذ يحتاج الغاز إلى أن يبرد قبل انضغاطه لدرجة كثافة تسمح بحدوث تفاعل نووي، ليسبب اشتعال نجم ما.
يقول ليو: «وجدنا أن هاتين العمليتين -سخونة الثقب الأسود وتكاثفه- يُبطلان بعضهما وما ينتج عنهما غير كافٍ لتشكل نجم جديد».
يُضيف قائلًا: «الثقوب السوداء الأولية مهمة»، وذلك بسبب إمكانية زوال تأثير السخونة وحدوث التكاثف أو العكس في الثقوب السوداء الأولية، إذ قد تُسهم النتيجة الأخيرة في تسريع تشكل النجوم، أو إبطائها، أو منع تشكلها أساسًا.
يؤكد ليو أن فهم التداخل بين هذين التأثيرين غير ممكن إلا باستخدام محاكاة كونية تقدمها حواسيب متطورة جدًا.
بالنسبة لأهمية الثقوب السوداء البدائية، تُشير النتائج إلى أنها تتفاعل مع النجوم الأولية وتُصدر موجات جاذبية.
يُضيف ليو: «قد تتسبب الثقوب السوداء البدائية في تشكل الثقوب السوداء الهائلة. سيكون على الدراسات المستقبلية التحري من هذه الجوانب».
لإتمام هذه الدراسة، استخدم ليو وزملائه محاكاة تقريب تعتمد على قوانين هيدروديناميك كونية لوضع طرق لحساب الأرقام المتعلقة بهيدروديناميك الجاذبية والكيمياء ودرجات البرودة المرتبطة بتشكل البنى الكونية والنجوم الأولى.
يقول ليو: «أحد التأثيرات المهمة للثقوب السوداء البدائية هي قدرتها على توليد البنى الكونية».
عمل فريق البحث على بناء النموذج، آخذين ما سبق بعين الاعتبار، إضافةً إلى دراسة تأثير السخونة النابعة عن الثقب الأسود.
أضاف الباحثون بعد ذلك نموذجًا لإطار فرعي خاص بالقرص المتراكم الذي ينشأ حول الثقب الأسود. يُساعد هذا النموذج الآخر في حساب كيفية تراكم الغاز حول الثقب الأسود والسخونة المؤثرة على المحيط من حولها في كل مرحلة زمنية على حِدَة.
يقول ليو: «أنشأنا هذا النموذج مباشرة، بناءً على معرفتنا بالبيئة المحيطة بالثقوب السوداء عبر المحاكاة».
كافأ المشرفون على شبكة الحاسوب XSEDE الفريق العلمي بتخصيص الموارد اللازمة لعمل الحاسوب الفائق Stampede 2 الذي صُمم في مركز تكساس للحوسبة المتقدمة TACC.
يقول مؤلف الدراسة المساعد فولكر بروم، أستاذ جامعي وعميد قسم علوم الفلك في جامعة أوستن في تكساس: «توفير الموارد اللازمة من أجل إتاحة الدراسات الحاسوبية في مجال الفيزياء الفلكية أمر غاية في الأهمية».
يتحدث بروم عن الفيزياء الفلكية النظرية بقوله إنها تعتمد على نموذج يستخدم محاكاة تدرس بداية نشأة الأشياء لزيادة فهمنا لكيفية تشكل البنى الكونية وتطورها. يُصبح ذلك ممكنًا بدراسة القوانين الفيزيائية التي تُفسر كل شيء.
تُستخدم لبرمجة المحاكاة بياناتٌ عن الحالة الأولية لتشكل الكون عالية الدقة جُمعت بواسطة مراقبة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. تُحضر بعد ذلك صناديق محاكاة تتتبع مراحل تطور الكون خلال كل فترة زمنية منذ نشأته حتى الآن.
تكمن التحديات التي تواجه تطور عمليات المحاكاة التي تحتاج إلى حوسبة فائقة لدراسة كيفية تشكل البنى الكونية في طبيعة الكون الشاسع الذي فيه بنى يصل عمرها إلى ملايين، بل مليارات السنين. تتطلب دراسة هذه البنى فهم الكيمياء المتقدمة وطبيعة الذرات الداخلة في تكوينها.
يقول بروم: «تتفاعل البنى الصغيرة والكبيرة مع بعض. لولا الموارد التي وفرتها كل من منشأتي XSEDE وTACC، لما وصلنا إلى هذا المستوى من المعرفة في مجال الحوسبة الخاصة بالفيزياء الفلكية. جميعنا في جامعة أوستن ممتنون جدًا لوجد مركز حوسبة متطور وعالي الجودة، وأعني بجميعنا أعضاء الكلية، وخريجي الدكتوراه، والطلاب».
يُكمل بروم: «لو نظرنا لأي بنية أسهمت في تشكل النجوم الأولى في الكون، لوجدنا أننا بحاجة لدراسة خصائص مليون عنصر للتأكد ما إذا كانت البنية هالة أو شيئًا آخر. لا غنى إذن عن الحواسيب الفائقة مثل التي نستخدمها في مركز TACC».
باستخدام الحاسوب Stampede2، يُمكن إتمام محاكاة خلال بضع ساعات بالاستفادة من عمل 100 نوى معالج بنفس الوقت. تستغرق العملية نفسها سنين لو استخدمنا حاسب محمول، ناهيك عن المشكلات التي ستظهر في الذاكرة وعمليات قراءة وكتابة البيانات.
يشرح بروم: «هدفنا النهائي هو فهم كيفية تحول الكون من حالته البسيطة التي كان عليها منذ مليارات السنين بعد الانفجار العظيم إلى حالة التوسع المستمر التي نراها اليوم».
ارتبط ظهور البنى الكونية -ومنها الثقوب السوداء- التي تبعت حدوث الانفجار ارتباطًا وثيقًا بالمادة المظلمة.
تبقى دراسة طبيعة هذه المادة من أكبر الألغاز التي يسعى العلم إلى حلها.
لا يمكن إنكار الأدلة التي تصف وجود هذه المادة المُفترضة غير المرئية، خاصةً عند مُشاهدة سرعة دوران المجرات غير المعقولة. بمعنى آخر، لا تحتوي كتل الكواكب والنجوم الموجودة في مجرة مثل مجرة درب التبانة على قدر كافٍ من الجاذبية يمنع خروجها عن مدارها. إذن، ما هو العامل المجهول الذي يُبقى هذه البنى في مكانها؟ الجواب هو المادة المظلمة. لكن، لا توجد عينات منها في أيّ مختبر حتى الآن.
مع ذلك، تمكن مرصد ليغو LIGO في سنة 2015 من اكتشاف موجات جاذبية قادمة من الكون.
يقول ليو: «من الممكن أن تكشف دراسة الثقوب السوداء البدائية عن سبب ظهور موجات الجاذبية هذه التي أثبتنا وجودها منذ سبع سنين، وهذا يُعطينا حافزًا كبيرًا».
يقول بروم: «يُتيح استخدام الحواسيب الفائقة الوصول الى اكتشافاتٍ جديدة تتعلق بالكون وطبيعته، إذ نجد العديد من البيئات غير المألوفة فيه، والتي يصعب فهمها. يُحفز مجال البحث هذا العلماء على ابتكار تصاميم حواسيب فائقة أكثر فعالية ووضع هياكل خوارزميات تُتيح الوصول إلى النتائج بسرعة أكبر. إن تقديم الفائدة للجميع في مختلف المجالات له جماله الخاص».
اقرأ أيضًا:
استخدام حاسوب خارق لمحاكاة 300 يوم بعد انفجار هايبرنوفا
هل يمكننا تصميم الكون ب كامله عن طريق المحاكاة الحاسوبية ؟
ترجمة: طاهر قوجة
تدقيق: دوري شديد