يتطلب النزيف الحاد بطبيعة الحال الرعاية الطبية، لا سيما في المناطق الخطيرة والمعزولة مثل ميادين القتال؛ لذلك بدأ العلماء العسكريون بعد الحرب العالمية الثانية بالتساؤل عن إمكانية تصنيع الدم، ثم سرعان ما لحقهم العلماء المدنيون، وبذلك بدأ سعي الباحثين نحو إنتاج دم اصطناعي.
ربما بدأت هذه الرحلة التي استغرقت قرونًا بإحراز تقدم مؤخرًا، إلا أن تحديد طرق أخلاقية لاختبار منتجات الدم الاصطناعي يمثل تحديًا كبيرًا.
خلال القرن السابع عشر حاول الأطباء علاج مرضاهم الذين يعانون النزيف عبر نقل الحليب والنبيذ إلى مجرى دمهم، لأنه لم يمتلكوا بديلًا مناسبًا، ثم بدؤوا باستخدام دم الغنم بعد فشل العملية، وسرعان ما تبين أن هذه الخيارات العلاجية كانت في الواقع مميتة وليست مفيدة.
لحسن الحظ أصبحنا ندرك الآن أن الدم البشري المتبرع من شخص بزمرة دم مطابقة لزمرة المتلقي هو الحل الأنسب. فبعد أن يتبرع شخص ما بالدم يصفّى هذا الدم من الشوائب وتُفصَل مكوناته عن بعضها، ثم يُفحَص للكشف عن أي أمراض منقولة بالدم، مثل فيروس نقص المناعة البشرية (HIV).
بيد أن هذه الطريقة ليست مثالية أيضًا؛ إذ تفتقر أنظمة الرعاية الصحية في بعض الدول للبنية التحتية الضرورية لجمع الدم وتخزينه ونقله بأمان إلى المرضى عند الحاجة، وحتى في البلدان التي تمتلك هذه الموارد توجد “فئات” بزمرات دم نادرة تجعل من الصعب إيجاد زمرة مطابقة لهم في بنك الدم، وينتمي أفراد هذه الفئات عادةً إلى الأقليات العرقية.
لم يتمكن العلماء من إنتاج دم اصطناعي ناجح بعد، ولكنهم حققوا بعض التقدم؛ فبدلًا من محاولة نسخ الدم بالكامل ومطابقة طريقة تفاعل محتوياته المختلفة مع بعضها، يهدف العلماء الآن إلى تصنيع مكونات الدم بطريقة منفصلة، وتتضمن: خلايا الدم الحمراء التي تنقل الأكسجين في الجسم، خلايا الدم البيضاء المسؤولة عن محاربة العدوى، الصفائح الدموية التي تكوّن الجلطات لشفاء الجروح، والبلازما التي تنقل مواد عديدة مثل البروتينات.
يُنقَل الدم في معظم الدول بهذه الطريقة أيضًا، إذ من النادر أن يُنقَل دم كامل إلى المرضى.
في معظم الأحيان، تُنقَل إحدى مكونات الدم أو خليط منها إلى المريض حسب حاجته الطبية؛ إذ يتطلب النزيف البسيط عادةً خلايا الدم الحمراء فقط، بينما تحتاج حالات النزيف الشديد إلى خلايا الدم الحمراء وكذلك الصفائح الدموية والبلازما.
انقسم السعي نحو تصنيع منتجات الدم إلى مجالين بحثيين أساسيين؛ يهتم الأول بإنتاج مواد صناعية كليًا تؤدي وظائف مكونات الدم ذاتها، بينما يهدف الثاني إلى استغلال الخلايا الجذعية لتوليد خلايا ومواد مطابقة بيولوجيًا لخلايا الدم الطبيعية.
لكل مجال منهما ميزات وعيوب، لكن يتوقع الخبراء أن بعض منتجات الدم الاصطناعي قد تُطلَق خلال السنوات العشر القادمة وذلك في حال ثبت نجاح التجارب السريرية.
يقول عالم أحياء الخلايا الجذعية كوجي إتو من جامعة كيوتو: «لقد انخفض معدل التبرع بالدم على نحو ملحوظ أثناء جائحة كوفيد-19 التي أجبرت الناس على البقاء في بيوتهم؛ لذلك تُعَد جهودنا في محاولة إنتاج دم اصطناعي مهمة للغاية، لأنها قد تضمن لنا إمدادًا ثابتًا من الدم في حال واجهنا جائحات جديدة في المستقبل».
تصنيع الهيموغلوبين
تحتوي خلايا الدم الحمراء على بروتين يسمى هيموغلوبين، وهو مسؤول عن التقاط الأكسجين في الرئتين ونقله إلى أعضاء الجسم الأخرى. يُعَد نقل الأكسجين من أهم وظائف الدم، لذلك كان من المهم التمعن في دراسته في جميع بحوث الدم الاصطناعي.
أُجريَت التجربة الأولى التي ألهمت الباحثين لإنتاج منتجات الدم صناعيًا في خمسينيات القرن الماضي، واستخدم فيها العلماء هيموغلوبينًا نقيًا مستخلصًا من دم بشري أو حيواني، وقد توقعوا أن يتمكن الهيموغلوبين من حمل الأكسجين حتى في غياب بقية مكونات خلية الدم الحمراء، ولكن إذا كان ذلك هو الحال فعلًا لانتقل العلماء إلى تصنيع الهيموغلوبين في المختبرات؛ بيد أن الهيموغلوبين لا يعمل جيدًا خارج خلية الدم الحمراء، إذ يتكسر إلى قطع صغيرة تتراكم في الكبد والكليتين مسببةً ضررًا.
خلال العقود اللاحقة، عدل العلماء بروتينات هيموغلوبين كيميائيًا لترتبط ببعضها ويصبح تكسيرها أو فصلها صعبًا، ولكن أوقفت تجارب هذه التقنية بعد أن أظهرت مراجعة بحثية في عام 2008 لقرابة 16 دراسة شملت 3,700 مشارك أن النوبات القلبية كانت أكثر شيوعًا بين المرضى المعالجين بهذه الطريقة، وأن خطر الموت لديهم ازداد بنسبة 30%.
أحد الأسباب المحتملة لزيادة خطر النوبات القلبية أن الهيموغلوبين لا يرتبط بالأكسجين فقط، بل يرتبط أيضًا بأكسيد النيتريك، وهو أحد المواد التي تضبط مدى اتساع الأوعية الدموية. يعرقل الهيموغلوبين خارج الخلوي عمل أكسيد النيتريك ما قد يقلل وصول الدم إلى بعض أعضاء الجسم مثل القلب.
يقول أستاذ الجراحة والطب العسكري مايكل ريد من جامعة كوينزلاند في أستراليا: «يعبث الهيموغلوبين خارج الخلوي بقدرة الجسم على ضبط حركة الدم وأُوقِفت التجارب لأسباب واضحة، وقد انصب تركيز العلماء منذ ذلك الوقت على تغليف الهيموغلوبين لمنعه من الارتباط بأكسيد النيتريك».
يقول العقيد الملازم ماثيو آرمسترونغ، مهندس كيميائي درس ديناميكية الدم في الأكاديمية العسكرية الأمريكية: «إن وتيرة التقدم في إنتاج دم اصطناعي بطيئة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى صعوبة دراسة الدم؛ إذ تبدأ علامات “القِدم” بالظهور بمجرد سحبه من الجسم».
«يصعب أيضًا تكرار التجارب تحت الظروف ذاتها، لأن الدم يتغير خلال اليوم حسب النشاط الرياضي وطبيعة الأكل الذي يتناوله الشخص».
يعمل العلماء في الوقت الراهن على تطوير وسائل لإطالة عمر منتجات الدم خارج الجسم مثل الصفيحات الدموية، وقد اقترح بعضهم الاستعانة بتقنية التجفيف بالتجميد، لكن عند إعادة ترطيب المنتجات تبدأ عيوب هذه التقنية بالظهور.
يقول آرمسترونغ: «استثمر الجيش الأمريكي ملايين الدولارات لإنتاج دم اصطناعي بديل للدم يمكن استخدامه لإنقاذ المصابين في ميدان القتال، غير أن استثماراتهم لم تكن مثمرة حتى الآن، لا أظن أنهم راعوا الخصائص الميكانيكية للدم كما ينبغي».
يرى آرمسترونغ أن من المهم التمعن في دراسة لزوجة منتجات الدم الصناعية وميكانيكا حركتها في السوائل ومدى مطابقتها لمنتجات الدم الطبيعية.
دم اصطناعي محور بيولوجيًا
بما أن إنتاج دم اصطناعي مناسب للاستخدام الطبي كان مهمةً صعبة، سلك الباحثون منهجًا مختلفًا لمعالجة الخلايا الجذعية لتصبح خلايا دم.
إذا تمكن العلماء من تحوير منتجات الدم (مثل خلايا الدم الحمراء والصفائح الدموية) بيولوجيًا بهذه الطريقة، فإن ذلك سيجنبهم مشكلات توافق الدم التي دائمًا ما يتخوف منها الباحثون عند استخدام منتجات الدم الاصطناعية.
في هذه الطريقة، يستخلص العلماء نوعًا معينًا من الخلايا الجذعية يسمى «الخلايا الجذعية المكونة للدم» التي تستطيع التمايز إلى أي نوع من خلايا الدم، ثم يستخدم الباحثون جزيئات تأشيرية لتحويل هذه الخلايا الجذعية إلى منتج الدم المرغوب.
تُعَد هذه الطريقة معروفة جيدًا وقد نجح العلماء في تطبيقها سنواتٍ عديدة، في الواقع يقول إتو من جامعة كيوتو أنه نجح في إعطاء صفيحات دموية منتجة من خلايا جذعية لمريضة بلغ عمرها 52 عامًا، ووصف ذلك بأنه سابقة عالمية.
تقول ريبيكا غريفيثز من الفريق البحثي لايف بلود التابع للصليب الأحمر الأسترالي: «تصل هذه العملية في نهاية المطاف إلى طريق مسدود، لأن الخلية الجذعية الواحدة لا يمكنها سوى إنتاج عدد محدود من خلايا الدم الحمراء» وقد بدأ العلماء العمل على حل هذه المشكلة.
في ورقة بحثية نُشرَت في عام 2017، طرحت غريفيثز وفريقها عملية تسمى «تخليد الخلايا»، التي حقن فيها الفريق خلايا جذعية بفيروسات الأورام الحليمية البشرية حين كانت في مرحلة مبكرة من التمايز إلى خلايا دم حمراء. تقول غريفيثز: «يمنع الفيروس الخلايا من الاستمرار في التطور، ما يعني أنها لا تفقد قدرتها على التكاثر».
نظريًا، بإمكان هذه الطريقة توفير مصدر ثابت من خلايا الدم الحمراء غير متوقف على التبرعات المستمرة بالخلايا الجذعية، إلا أنها ليست خالية من العيوب.
لا تملك خلايا الدم الحمراء أنوية؛ ما يجعلها مرنة بما يكفي لضغط نفسها خلال أوعية الدم الدقيقة دون التسبب بالجلطات. عندما تفقد الخلايا الجذعية المخلّدة أنويتها أثناء تطورها إلى خلايا دم حمراء فهي تتخلص من فيروسات الأورام الحليمية التي قد تكون مؤذية في الأحوال الأخرى؛ بيد أن بعض خلايا الدم الحمراء المنتجة بهذه الطريقة لا تفقد أنويتها على نحو صحيح، لذا يحاول الباحثون تحسين استراتيجيات التخليد لتصحيح هذا العيب.
مشكلات التجارب السريرية
يقول ريد إن منتجات الخلايا الجذعية تتميز بوضوح عن المنتجات الصناعية في التجارب السريرية، لكن ليس واضحًا تمكّن العلماء من أخذ موافقة المرضى أخلاقيًا في الاستغناء عن الدم المتبرع المثبتة فعاليته؛ إذ ما الذي قد يدفع المريض إلى اختيار دم اصطناعي بعد أن تسببت بعض المنتجات الصناعية المختبرة حتى الآن بزيادة خطر الإصابة بالنوبات القلبية؟
بيد أنه ثمة الكثير من المواقف التي لا يمكن أن يكون فيها الدم المتبرع خيارًا متاحًا، فمثلًا قد لا يهتم جندي مصاب في ميدان قتال معزول بفارق الفاعلية بين منتجات الدم الاصطناعي والدم المتبرع، لأنه من المستحيل الحصول على دم متبرع في تلك الظروف؛ لذلك يصبح السؤال هو: هل الحصول على منتجات دم اصطناعي أفضل من عدم الحصول على شيء؟
محاولة الإجابة عن هذا السؤال صعبة علميًا. يقول ريد: «يصعب أيضًا أداء تجربة سريرية في البيئات التي نعجز فيها عن نقل الدم طبيعيًا».
من الممكن إجراء دراسة رجعية لمقارنة معدلات نجاة الأشخاص الذين عولجوا بدم اصطناعي في حالات الطوارئ بالذين لم يعالَجوا بشيء، غير أنها معرضة إلى الانحياز؛ إذ إن الأشخاص الذين يعالَجون بمنتج دم اصطناعي سيتمكنون من النجاة في بادئ الأمر من إصابتهم والبقاء على قيد الحياة، إلا أن الأشخاص الذين يعانون إصابات شديدة ويموتون فورًا ليسوا مرشحين أساسًا للحصول على دم اصطناعي، لذلك من المحتمل أن تبالغ هذه الدراسة في تقدير فائدة منتجات الدم الاصطناعية.
بيد أنه إذا حُلَّت هذه المشكلات في التصميم التجريبي للدراسة، فإنه يوجد عدد من العلاجات التي تبدو واعدة، وذلك وفقًا لريد في الحالتين، تُعَد هذه الجهود برهانًا على التطور الكبير الذي حققه الطب الحديث منذ أيام استخدام الحليب والنبيذ في إنقاذ المرضى الذين يعانون نزيفًا.
اقرأ أيضًا:
إنتاج دم اصطناعي يمكن نقله لكل فصائل الدم الأخرى
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: بتول جنيد