ليس للنمل أيّ نيةٍ مطلقًا بالتعلق فى زحامٍ مروريٍّ؛ فبمجرد البدء بأعمالهم الصناعية نجدهم قد يضربون برؤوسهم -أو قرون استشعارهم- إلى الأمام أكثر من مرةٍ، فالنملة كائنةٌ عبقريةٌ في التدفق والانسياب وتتقن بطريقةٍ ما فن الاحتفاظ بنقل الأشياء.
ولقد اكتشف العلماء شيئًا آخر صادمًا عن حياة النمل، فهو شأنه شأن النحل أحيانًا عندما يجلس جانبًا ولا يفعل أيّ شيءٍ، فمثلا عند تكوين عشٍ لهم نجد أن بعض النمل يبقى خاملًا وكسولًا.
طبقًا لما نشرته مجلة Journal Science عن إحدى الدراسات الجديدة لمعهد جورجيا للتكولوجيا: «إنَّ مجموع تلك الملاحظات يعطينا درسًا عن بعض النتائج الهامة والمفيدة فى أمورٍ أخرى مثل كيفية استخدام أجهزة الروبوت المستقبلية لتفادى بعض الكوارث».
ولقد اكتُشِف أنّه عندما يكون النمل مجتهدًا بشكلٍ انتقائيٍّ يصبح حينها أكثر نجاحًا؛ فالتوقف عن العمل له بعض المميزات التي يصل إليها النمل عن طريق الكسل والخمول.
وتناول الباحثون فى دراستهم مجموعاتٍ تتكون من ثلاثين نملةً مُعلَّمين بألوانٍ مميزةٍ وذلك أثناء حفرهم بعض الأنفاق فى أحواضٍ ذات جدرانٍ زجاجيةٍ داخل المعمل، فوجدوا أنَّ 30% من النمل قد أنجزوا العمل بنسبة 70%، فبعض النمل قد أنجزَ عملًا قليلًا جدًا والبعضُ الآخر لم يُنجز أيّ شيءٍ.
وعندما استبعد الباحثون النمل الأكثر اجتهادًا اثناء العمل، وُجِدَ أنَّ النملَ قليل الطاقة والعمل فى السابق قد تقدم بمزيدٍ من الطاقة للعمل باجتهادٍ وجَدٍّ هذه المرة، وهكذا يتضح أنَّ العمل الجاد ليس ميزةً فرديةً ولكنه عمل معين محدد مثله مثل المسمى الوظيفيّ (الرافع الثقيل).
فعلى سبيل المثال أثناء حمية النمل في عملهم لبناء عشٍ، نجد أنّ واجهة النفق –أي النهاية العميقة للنفق – قد امتلأت؛ وهذا ما قد يسبب اختناقًا مروريًا ينتج عنه مغادرة بعض النمل للنفق دون إنجاز أيّ شيءٍ، وهذه التيارات المتناوبة العكسية تحِد من إمكانية توقف سير العمل.
ولقد أنشأ فريق البحث بعض النماذج من أجهزة الحاسوب ذات مجموعات نملٍ وهميةٍ واكتشفوا بعدها أنّ هذا النظام من الخمول الانتقائي يعطي النمل إمكانية الحفر بطريقةٍ أسرع ويقلل بدوره أيضًا من فرص انسداد وإعاقة العمل.
وفي واقع الأمر، فإن النمل قد حل تلك المشكلة الدائمة داخل المطابخ وهي زيادة الأطعمة.
قال دانيال جولدمان الفيزيائي بمعهد جورجيا للتكنولوجيا وهو أيضًا الكاتب الرئيسي لهذه الدراسة الجديدة والذي يدير العمل أيضًا داخل المعمل: «إنَّ ما اكتشفه النمل قريب بشكلٍ كافٍ لأفضل طريقةٍ يمكن الوصول من خلالها إلى هذا الحل، فينبغي على الإنسان أن يأخذ قسطًا من الكسل والتراخي والراحة ويتمثل ذلك بمدةٍ مناسبةٍ يتوقف فيها عن العمل».
ولم تشارك بهذه الدراسة الجديدة عالمة الفيزياء أوفر فاينرمان والتي تدرس النمل في معهد وايزمان للعلوم في إسرائيل، ولكنها توضح قائلةً: «ما هذا إلا مثالٌ لطيفٌ يوضح أنّه بقليلٍ من العمل قد يحصل الإنسان على نتائج أفضل ورُبّما تصل لتصبح الأفضل على الإطلاق؛ وهكذا يبدو أن النمل يقوم بأفضل ما يمكن القيام به».
وكوَّن فريق معهد جورجيا للتكنولوجيا مجموعةً من الروبوتات والتي تقلد أنظمتها تصرفات النمل ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إليها؛ وقد يكون السبب هو أن الروبوتَ قاسٍ أكثر من النمل صاحب الأجسام المُجَزَّئة الرشيقة.
ولكن ما فعله الروبوت يؤكد أن بعض القواعد مثل تحديد الشخص لوقت راحته ومتى عليه أن يستريحَ ويتركَ العمل لغيره هي قواعد بسيطة تدخل ضمن الفكرة الأساسية والتي قد تفيد المشروع بأكمله.
وتفيد هذه النوعية من الأبحاث في كيفية الوصول إلى نماذجٍ محسَّنةٍ من مجموعات الروبوتات.
فعلى سبيل المثال، قد تحتاج العديد من الروبوتات ذاتية التحكم بالدخول إلى المباني المدمرة جراء الزلازل من أجل البحث عن الناجين.
وطبقا لما أعلنته صحيفة THE NEW PAPER : «إنّ هذه الجهود قد تستفيد من تلك الاستراتيجيات البسيطة والتي تشمل نظام عدم المساواة في العمل».
يدرس نيك جرافيش البيولوجيا الحيوية للنمل في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو ولقد حصل أيضًا على درجة الدكتوراة برعاية الفيزيائي دانيال جولدمان في معهد جورجيا للتكنولوجيا، وعلى الرغم من عدم مشاركته فى هذه الدراسة الحالية إلّا أنّه يوضح رأيه قائلًا: «إذا رغبت في حفر منطقةٍ معينةٍ باستخدام شبكةٍ مكونةٍ من عدة آلاتٍ حفريةٍ، فأنت لا تريد طرحها جميعًا للحفر فى نفس النفق أوالمشاركة في العمل على ضوء تلك القواعد المستوحاة من علم الفيزياء بل إنَّ المشاركة بشكلٍ انتقائيٍّ هو المطلوب».
ويضيف سايمون غارنييه الأستاذ في معهد التكنولوجيا في نيوجيرسي والذي يدرس السلوك الجماعي بدايةً من العفن الغروري إلى السمك وصولًا إلى الثدييات، فيقول: « إنَّ مبدأ الكسل الانتقائي يمكن أن يساعد تلك الجماعات البشرية التي تعمل معًا في ملفٍ ما أو على أحد الأجزاء الخاصة بكودٍ حاسوبيٍّ».
ويستطرد غارنييه حديثه بصدد هذا الأمر قائلًا: «طالما أن جميع عناصر النظام لديهم هدف جماعي مشترك فإن هذا المبدأ قد يساعد على تحقيقه بشكلٍ أسرعٍ عن طريق الحد من النزاعات في الوصول إلى الهدف المشترك».
ذلك النمل الناريّ يغزو عمق المناطق الجنوبية، فلقد وصل من الأراضي الرطبة في جنوب أمريكا إلى الولايات المتحدة فى وقتٍ يقل عن المئة عام، وتبدو لنا مستعمرات النمل الناري التي توجد في تلك المناطق المنخفضة المعرضة للفيضان وكأنها كائنات حية خارقة تقوم بمهامها.
وطبقا لما لوحِظَ فى الإعصار البركاني (Harvey) الذي غمر ساحل جنوب شرق تكساس السنة الماضية، فإنَّ مستعمرة النمل بحماية مَلِكَتِهم فى المنتصف يشكلون طوفًا معًا، وبعد أن يعوم ذلك الطوف من النمل على سطح ماء الفيضان تجرفه المياه إلى مكانٍ ما؛ وتبدأ حينها العاملات – كلهم من الإناث – سريعَّا بتكوين العش مع مراعاة عدم ترك ملكتهم معرضةً للخطر.
ويقوم النمل بحفر قنواته الخاصة بما يعادل تقريبًا قطر طول نملةٍ واحدةٍ بغض النظر عن نوع التربة التي يحفرون فيها.
وهذا يعني أنّ أرجل النمل وقرونه الاستشعارية هم أجزاء فى عملية الوصول إلى جدار النفق وهذا بدوره يساعد النمل أثناء لحظات الانزلاق، لذا فإن النمل يستخدم قرونه الاستشعارية كما لو كانت أطرافًا أخرى مساعدةً.
وقال فاينرمان: «إنَّ الباحثين قد أكتشفوا مدى حساسية النمل للنجاح والفشل، فعندما تنجح محاولة نملةٍ منهم للقيام بشيءٍ ما – مثل الحصول على الطعام أو حفر نفقٍ – نجد أن ذلكَ يحدث بقوةٍ ونشاطٍ غير عاديين، وعندما تفشل في أحد المهام – كالوقوع في وضعٍ حرجٍ أثناء دخول النفق، نجد أن النملة تتوقف وتلجأ إلى الخمول، وهذا البحث الجديد يقترح أن بعض القوانين البسيطة هي المتحكمة نسبيًا بتلك التصرفات».
وبحسب ماقاله أيضًا أن هنالك العديد من النتائج الإيجابية التى تربط بين نجاح مهمة النملة ومدى ميلها لتكرار نفس المهمة.
ولقد وضَّح الباحث جرافيش الذي استلهم فكرة تكوين الروبوتات من الحشرات، فقال: «إنّ النمل أكثر تعقيدًا وتشابكًا من الروبوتات، وهي درجة عالية من التعقيد التي أرغب فى الوصول إليها».
- ترجمة : ماريان رأفت
- تدقيق: رند عصام
- تحرير: تسنيم المنجّد
- المصدر