إن نظرت من الأعلى، ستشاهد الآلاف من أشكال الحجارة التي توضح تضاريس شبه الجزيرة العربية. على الأرض، ستشاهد كمية كبيرة من الأدوات الحجرية وعدة مواقد منتشرة هنا وهناك على أطراف البحيرات القديمة، إضافةً إلى رسومات حجرية تصور مشاهد الصيد والرعي في الجبال المحيطة.

رغم وضوح هذه الأماكن، لم يهتم علماء الآثار بها إلا قبل نحو عقد من الزمن. بعض هذه المنحوتات تعود إلى أكثر من عشرة آلاف سنة.

لكن بسبب المناخ القاحل، وحرارة الشمس وبرودة الليل والتآكل الشديد بفعل الرياح، لم يصب ذلك في مصلحة علماء الآثار. حتى اللحظة، ليس هناك الكثير لمعرفته عن أسلوب الحفريات أو نوع الرواسب ذات الطبقات المتعددة المدفونة بعمق، التي قد تفتح آفاقًا جديدةً لدراسة تاريخ المكان.

حتى وقتٍ قريب، لم يجرِ أي عالم آثار مسحًا لأي من مئات الكهوف وقنوات الحمم المسجلة الموجودة بامتداد شمال الجزيرة العربية. عام 2019، شرع فريقنا في البحث في هذه المواقع تحت الأرضية وفي دراسة جديدة، نشرنا أول توثيق لحقيقة أن قنوات الحمم البركانية في شبه الجزيرة العربية كانت مأهولة بالسكان.

قناة حمم أم جرسان:

تقع قناة حمم أم جرسان على بعد 125 كيلو مترًا شمال المدينة المنورة في حقل حمم حرة خيبر. تكونت القناة قبل فترة طويلة بفعل الحمم الباردة. يبلغ طولها 1.5 كيلو مترًا وارتفاعها 12 مترًا وعرضها يصل إلى 45 مترًا في بعض المناطق.

أول ما تلاحظه حين تتوغل في قنوات النفق المظلمة والمتعرجة عددًا لا يُستهان به من بقايا الحيوانات. الأرض مفروشة بأكوام من العظام التي تحتوي الآلاف -أو مئات الآلاف- من حفريات محفوظة جيدًا.

أكوام العظام هذه بسبب الضباع المخططة التي تحمل العظام معها إلى الداخل لتأكلها أو تخزنها تحسبًا لأيام ندرة الغذاء، أو تعدها لتأكلها الأشبال. حين تتكرر هذه العملية لأكثر من ألف سنة، كان الناتج كمية كبيرة من الأحفوريات المبهرة التي لا تمكن رؤيتها في أي مكان في العالم.

ليست العظام وحدها. حين أجرينا مسحًا لمدخل أم جرسان، وتحديدًا المناطق التي انهار فيها السقف وشكل طريقًا نحو قنوات الحمم، اكتشفنا المئات من التحف الحجرية المصنوعة من حجر السج والصوان والبازلت.

مع أن الأمر مثير للاهتمام، فإن هذه التحف تُعد اكتشافًا بسيطًا، ومن الصعب تحديد عمرها. كنا بحاجة إلى التوغل أكثر.

التنقيب:

حفرنا في بداية الممر الشرقي، قريبًا من سلسلة من الأحجار شبه المدورة غير المعروف عمرها أو فائدتها. كشف التنقيب عن وجود المزيد من المصنوعات الحجرية المصنوعة جميعها من حجر السج المطحون جيدًا إضافةً إلى عظام الحيوانات والفحم.

استخرجنا معظم المصنوعات الصخرية من طبقة رسوبية منفصلة تبعد قرابة 75 سنتيمترًا عن سطح الأرض. يشير تأريخ الفحم بالكربون المشع وتأريخ الرواسب باستخدام طريقة الضوء المحفز بصريًا إلى أن هذه المنحوتات صُنعت في فترة ما قبل 7000 إلى 10000.

إضافةً إلى العثور على بعض المجسمات المثيرة للاهتمام تحيط بالمنطقة، تشمل المزيد من الأغراض الحجرية المصنعة إضافةً إلى ما يُسمى المجسم من النوع آي. يُعتقد أن أعمال البناء هذه حدثت قبل 7000 سنة، بناءً على ارتباطها بهيكل عمودي يُعرف بالمستطيل، الذي نعتقد أنه استخدم لطقوس التضحية بالحيوانات.

وُجدت في هذه المنطقة أول تحفة فنية مصنوعة من الحجارة. تتضمن تصاوير لمشاهد رعي الماشية، مثل الخراف والماعز وصورًا للصيد تتضمن الكلاب. تتشابه هذه الرسوم والرسوم الحجرية الأخرى في العصر الحجري الحديث في شبه الجزيرة العربية مع العصر البرونزي اللاحق في أنها تتضمن منحوتات متداخلة تدل على أن الناس كانوا يزورون هذه المنطقة على نحو متكرر عبر آلاف السنين.

أيضًا وجدنا بقايا بشرية في أم جرسان، تعود إلى العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي اللاحق. بتحليل الكربون والنتروجين في هذه البقايا، اكتشفنا أن نظام الغذاء البشري آنذاك كان غنيًا بالبروتين، وإن صاروا يأكلون فواكه وحبوب أكثر بمرور الوقت.

المثير للاهتمام أن هذا التغيير في النظام الغذائي تزامن مع بداية زراعة الواحات في المنطقة. يظهر هذا بداية تطور الزراعة وتقنيات الإدارة التي مكنت الناس من الاستقرار في الصحاري على نحو أكثر استقرارًا وديمومة، ومكنتهم من زراعة النباتات مثل التمر والتين.

عثرنا على اكتشاف آخر مثير للاهتمام بعد عودتنا من التنقيب. دراسة خرائط المباني الأثرية في مناطق أوسع مكنتنا من ملاحظة أن أم جرسان تقع فيما يسمى «طريق جنائزي»، وهي تربط واحتين أساسيتين.

يحتوي هذا الطريق الجنائزي على سلسلة من شواهد القبور الممتدة مئات الكيلومترات، ويُعتقد أنها كانت طرقًا معتادة استخدمها الرعاة في العصر البرونزي حين كانوا ينقلون قطعان الماشية بين مواقع المياه.

نعتقد أن أم جرسان كانت منطقة توقف للرعاة، مكانًا يوفر المأوى والماء في منطقة جافة وقاسية.

حقق علماء الآثار اكتشافات استثنائية في الجزيرة العربية خلال السنوات الاخيرة، في أماكن مثل قاع البحيرات القديمة. اكتشافنا في أم جرسان أضاف عنصرًا مهمًا لقصة مجتمع الجزيرة العربية عبر الزمن وعن طريقة مواجهتهم لهذه الظروف.

اقرأ أيضًا:

بماذا تخبرنا الرسوم في الكهوف عن الحياة ما قبل التاريخ

من قام برسم رسوم الكهوف في العصر الحجري؟

ترجمة: زينب العزاوي

تدقيق: حسام التهامي

المصدر