واجهت شركة «ماكينزي» وشركات الاستشارات الأخرى انتقادات عديدة بسبب تدخلها في عمل الحكومات. حذر الأكاديميون والصحفيون الاستقصائيون من تأثيرها المتزايد، ونبهوا إلى حالات مثل إنفاق المملكة المتحدة مبلغ مليون جنيه إسترليني يوميًّا على المستشارين الخواص لخدمة الاختبار والتتبع خلال أزمة كوفيد 19، وإلى العقود المبرمة مع شركة ماكنزي، التي بلغت قيمتها 10.7 مليون يورو دفعتها الحكومة الفرنسية خلال الأزمة نفسها.

أدت التحقيقات في اعتماد الحكومة الفرنسية بشكل مبالغ فيه على شركة ماكنزي إلى إصدار تقرير في مجلس الشيوخ، ثم إلى ما سُمي «فضيحة ماكنزي». في 18 سبتمبر، دفعت الصحفية إليز لوسي بالقضية إلى الواجهة، في برنامجها الوثائقي «الاستقصاء المالي»، إذ سلطت الحلقة الضوء على علاقة ماكنزي بالحملة الانتخابية الرئاسية لإيمانويل ماكرون في 2017، إضافةً إلى تهم بشأن الاحتيال والتهرب الضريبي.

برنامج الاستقصاء المالي برنامج مشهور بخوضه عميقًا في المسائل الخلافية السياسية أو المتعلقة بالشركات. كشف البرنامج عن عدة فضائح، مثل حوادث سوء التصرف في البيئة إضافةً إلى التهرب الضريبي.

في الحلقة المخصصة لشركة ماكنزي، كانت لوسي في مهمة للكشف عن شبكة النفوذ التي أسستها الشركة -بحسب الادعاءات- خلال صعود ماكرون إلى الرئاسة.

انتقادات المستشارين:

في حين أثارت الحلقة انتباه الكثيرين، لم ينبهر بها المستشارون الذين شاهدوها. قال خبير سابق في استراتيجيات وسائل التواصل الاجتماعي أن محتواها هزيل. بالنسبة إلى المستشارين، فإن النقد الذي وجهه الوثائقي في تناوله لتمويل حملة ماكرون الرئاسية سنة 2017 اقتصر على علاقته بكريم تاج الدين، شريك ماكنزي الذي أدار أعمال الشركة مع الحكومة الفرنسية. بالمثل، اعتُبرت تهم التزوير والتهرب الضريبي مقتصرة على الممارسات المالية لشركة ماكنزي، وليست قضايا تورط للمستشارين.

يقول أحد كبار المستشارين في القطاع العمومي، إن الزاوية التي تنظر منها لوسي مبتذلة إلى حد ما.

مع نمو القطاع بنسبة 10% سنويًا، يقول المستشارون أن كل ما يفعلونه ببساطة هو الاستجابة للطلبات. وفقًا لأحد العاملين في شركة للاستشارات الإستراتيجية، فإن لوسي أخطأت الهدف الحقيقي، إذ نقدت المستشارين، في حين أن الخطأ يقع على الحكومة الفرنسية التي أساءت التصرف في خدماتهم.

هل انحرفت الخدمات الاستشارية عن غايتها؟

طالت انتقادات واسعة شركات الخدمات الاستشارية، إذ أشارت إلى فقدها أخلاقياتها المهنية. يقول داف ماكدونالد، الصحفي الاستقصائي في كتابه الصادر عام 2014 بعنوان «الشركة»، أن ماكنزي انحرفت عن المعايير الأخلاقية التي وضعها مؤسسها مارفن باور في الخمسينيات، الذي ابتكر الخدمات الاستشارية للإدارة من وحي اختصاصه في القانون. أصبح هذا المجال -الذي كان يومًا ما مخصصًا لتقديم المشورة للعملاء لفائدة الصالح العام- تجارةً تركز على الربح.

أدى هذا التحول إلى سلسلة طويلة من الفضائح منها الفساد والعمل غير الأخلاقي وتضارب المصالح. واجهت شركات أخرى مثل «باين وشركاه» و«بي سي جي» فضائح بدورها، إذ مُنعت الشركتان عام 2022 من المشاركة في المزاد على عقود حكومة جنوب إفريقيا، لدورهما في فضيحة تدخّل في قرارات الدولة، وقد وافقت بي سي جي مؤخرًا على التنازل عن 14 مليون دولار من أرباحها لصالح حكومة أنغولا، بعد اعترافها بتورطها في فضيحة متعلقة بالرشوة.

في حين سلط برنامج الاستقصاء المالي الضوء على ارتباط ماكرون بشركة ماكنزي، وركز على الإنفاق المبالغ فيه للحكومة الفرنسية، لم يعط انتباهًا كافيًا للفرق المهم بين المسؤولين المُنتخبين الذين تمكن محاسبتهم أمام الشعب، والمستشارين الذين يعملون في المجال الخاص. نتيجةً لذلك، قد لا يتواءم هدفهم الرئيسي وهو الربح المدي مع مسؤولية الحكومة في توفير الرعاية الاجتماعية.

يخلق هذا التضارب المحتمل في المصالح الشك في مدى موضوعية نصائحهم الاستشارية وموثوقيتها.

النظر من كثب إلى الفضائح الأخيرة التي واجهتها شركات الاستشارات الإستراتيجية في خدماتها للحكومة يكشف عن أربعة أنواع من تضارب المصالح:

1- المصالح والعلاقات الشخصية:

تبين حلقة وثائقي الاستقصاء المالي أن علاقات كريم تاج الدين بحزب ماكرون مكنت شركة ماكنزي من فرض نفوذها في دوائر القرار الحكومية، ما ساعد على تطوير مسيرة تاج المهنية، لكنه أظهر أيضًا تضاربًا أعمق، إذ يقيم المستشارون علاقات أو ينخرطون في شبكات محورية بهدف تأمين عقود مستقبلية أو مكافآت.

من المجالات الشائعة لمثل هذا التضارب في المصالح العمل للمصلحة العامة، ما كشف عنه وثائقي الاستقصاء المالي بوصفه أداة استعملها تاج الدين لتقييم علاقات أدت فيما بعد إلى توقيع عقود مربحة.

2- العمل مع عملاء ومهام متضاربة:

إن تورط شركة ماكنزي وشركائه في أزمة المواد الأفيونية مثال واضح، إذ وفرت الشركة استشارات استراتيجية لكل من مصنعي المواد الأفيونية مثل «بيرديو فارما» وللإدارة الأمريكية للأغذية والأدوية، التي تضبط سوق المواد الأفيونية.

أظهر تحقيق من قبل مجلس نواب الولايات المتحدة أن ماكنزي لم تُصرح بهذا التضارب في المصالح على مدى 10 سنوات، ما أثر في 37 عقدًا من عقود الإدارة الأمريكية للأغذية والأدوية بلغت قيمتها 65 مليون دولار.

مع أن وثائقي الاستقصاء المالي لم يتطرق إلى هذه العقود المتشابكة، فإن مثل هذه العقود موجودة في فرنسا، إذ يدعو عمل شركة ماكنزي مع العملاء الخواص والحكوميين إلى الانتباه والحذر. وفقًا لمجلس الشيوخ الفرنسي، فإن من يقدم استشارات للحكومة الفرنسية مطالب قانونيًا بالتصريح عن أي تضارب مصالح محتمل، لكن في معظم الحالات، لم تقدم شركة ماكنزي هذه التصريحات.

3- استشارات قائمة على الربح:

في قضية حظيت بدعاية كبيرة، وجدت اللجنة الحكومية في جنوب إفريقيا أن شركة «باين وشركاه» تصرفت بطريقة غير قانونية، بتواطؤها مع شركات خاصة للتلاعب بإجراءات حكومية، ووضع سياسات تصب في مصلحتها، ما يسلط الضوء على مشكلة تغاضى عنها وثائقي الاستقصاء المالي.

يسعى المستشارون الخواص عادةً وراء مصالحهم المالية التي تتعارض مع مسؤولية الحكومة في خدمة الصالح العام، وعندما تعمل مثل هذه الشركات لصالح الحكومة، قد تؤدي دوافعها الربحية إلى تقويض الأهداف المتعلقة بالرعاية الاجتماعية.

4- «الأبواب الدوارة»:

تضارب مصالح آخر يتعلق بتوظيف العلاقات الشخصية داخل الحكومة بهدف التأثير على القرارات.

مع أن البرنامج الوثائقي تغاضى عن ذلك بوضوح، فإن هذه المشكلة مهمة، إذ إن 1% من موظفي شركة ماكنزي في فرنسا تقلدوا مناصب حكومية رفيعة سابقًا، وانتقل العديد منهم إلى أدوار حكومية لاحقًا.

في قطاع قد تخلق فيه شبكات العلاقات فُرصًا، فإن هذه الأبواب الدوارة بين شركات الاستشارة والحكومات تطرح أسئلة جدية حول الحيادية. من الأمثلة الجديرة بالذكر من خارج فرنسا، دور شركة (دلوات) في برنامج الاختبار والتتبع لكوفيد-19، إذ إن العلاقات الوثيقة لشركة دلوات مع المسؤولين في الحكومة، ومنهم الوزير كلوي سميث الذي عمل سابقًا في شركة دلوات، ترجح تسهيلات للشركة في تحقيق عقد بقيمة 279.5 مليون جنيه إسترليني خلال الجائحة.

فرصة ضائعة؟

خلال محاولته لإظهار العلاقة بين ماكنزي والحكومة الفرنسية، لم يوفق وثائقي الاستقصاء المالي في التطرق إلى مسائل أعمق، إذ لم يفسر جيدًا كيف صار المستشارون فاعلين غير مرئيين في الحكومات، ما يقوض المساءلة الديمقراطية، ويقلل أيضًا من مدى تأثير تضارب المصالح، وهي أكثر شيوعًا مما يعترف به. مع أن الوزير السابق ستانيسلاس غيريني وضح في الوثائقي أنه تجنب العمل لأجل الصالح العام إثر تحقيقات مجلس الشيوخ، فإن السؤال المطروح: لماذا التركيز على شكل واحد من تضارب المصالح مع وجود أشكال عديدة غيره؟

اقرأ أيضًا:

شركة بلاك روك أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم

كيف تربح شركات الإنترنت من خدماتها المجانية؟

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: نور حمود

المصدر