قبل مئة عام من هذا الأسبوع، وبعد ظهر يوم صيفي، غرس المستكشف النرويجي روالد أموندسن وأربعة من الرحالة المرافقين علمًا مشرقًا أعلى القطب فى جليد أنتاركتيكا، مما يدل على ادعائهم كأول بشر يضعون أقدامهم فى الجزء السفلي من العالم.
القطب الجنوبي كان لهم.
سلسلة جبال ألكسندر فى أنتاركتيكا، التقطت خلال رحلة بحثية من وكالة ناسا فى أكتوبر2011.
كتب أموندسن فى رسالته عن الرحلة الشاقة «هذه اللحظة بالتأكيد ستكون فى ذاكرة كل منا جميعًا والذين كانوا هناك».
في 14 ديسمبر 1911، بعد شهرين من خروجهم من ساحل القارة، وصل الرجال إلى هدفهم – سهل مجمد أبيض لا نهاية له فى وسط أعلى، أعصف، أبرد، أجف وأكثر قارة عزلة على الأرض.
بعد قرن من زراعة أموندسن للعلم – غَيّرَ انفجار فى التقدم التكنولوجي نطاق المعرفة البشرية فى أنتاركتيكا.
أصبحت الأقمار الصناعية تبحر بالأعلي وسمحت الرادارات والليزر للعلماء بالنظر تحت الجليد السميك.
ومع ذلك، وعلى الرغم من وصول هذه الأدوات الجديدة، لا تزال القارة تحمل أسرارًا مغلقة.
ولاتزال العديد من الأسرار موجودة، وأكثر تعقيدًا بكثير من الصحراء المجهولة.
أموندسون وأحد أفراد طاقمه أثناء عملية أخذ القياسات بالقطب الجنوبي
ملكة الجليد
القارة القطبية الجنوبية هي موطن لحوالي 70 % من المياه العذبة بالكوكب، وتغطي اثنتين من الصفائح الجليدية الضخمة، حوالي 3 أميال (4 كيلومترات) من السُمْكِ فى بعض الأماكن، حوالي 99 % من مساحة اليابسة القارية.
فى ذلك جزرها وسهول الجليد العائمة الموصولة بها، تبلغ أنتاركتيكا ما يقرب من 5.4 مليون ميل مربع (14 مليون كيلومتر مربع)، حوالي واحد ونصف مرة من حجم الولايات المتحدة.
اكتشف العلماء واحدة من أكبر الاكتشافات الهامة فى القارة القطبية الجنوبية: مملكة هائلة من المنحدرات الصخرية والبحيرات السائلة، تترشح تحت الجليد لآلاف السنين.
خلال بعثة رسم الخرائط 1958، شق فريق سوفيتي طريقه من الساحل عبر المناطق الداخلية من النصف الشرقي للقارة، وفجر المتفجرات كل مائة ميل لقياس سمك الجليد.
وقال روبن بيل، وهو عالم جيوفيزيائي وأستاذ فى مرصد لامونت دوهيرتي إيرث التابع لجامعة كولومبيا، إنه فى منتصف الصفيحة الجليدية الشرقية فى أنتاركتيكا، كان الفريق يسير عبرالجليد الذي يبلغ طوله ميلين (3 كم)، عندما بدأ شيء غريب.
ماذا يوجد بالأسفل؟
لقد وجدوا فجأة هذا الجليد الرقيق جدًا فى منتصف الصفائح الجليدية، وقالوا لبعضهم:«انظروا، هناك جبال هنا».
حيث عثر الفريق على ما أطلق عليه فيما بعد جبال غامبيرتسيف، وهي مجموعة من قمم شديدة الارتفاع تصل إلى 9000 قدم (3000 متر) وتمتد على مسافة 750 ميلا (1200 كم) عبر المناطق الداخلية للقارة.
يقول بيل، الذي درس المنطقة منذ سنوات: «من الصعب حقًا أن نتصور أن هناك جبالًا موجودة هناك، ولا يهم الطريقة التي تدور بها – إنها مسطحة تماما».
ومع ذلك، أضاف بأن الجزء الغامض حقًا من الجبال الخفية ليس وجودها، ولكن كيف أنها لا تزال موجودة.
برغم الزحف الجيولوجي العنيف الذي يسبب تآكل الجبال ونقل الفتات بعيدًا.
وقال بيل إنه حدث خلال عملية التصدع، حيث انتزعت القوي التكتونية جزء من اليابسة القارية أثناء تفكك غوندوانا، شبه القارة القديمة.
أثناء ذلك الوقت، شهدت جذور الجبال المتآكلة على ما يبدو تغيًرا فى الكثافة – وكأن شريطًا من الشيكولاته الصلبة تشكلت فجأة إلى مادة رقيقة داخل قالب الشيكولاته- مما عزز سلسلة الجبال، «مثل حزام النجاة» حسبما ذكر بيل.
كيف حدث هذا التغيير بالتحديد فى جذر غامبرتسيف هذا هو اللغز.
قال بيل «هذا هو أكبر شيء يدور في أذهاننا».
نحن لا نعرف ما إذا كان الصدع أضاف القليل من الحرارة والماء، ونحن نعلم أن الصدع حدث، و سلسلة الجبال برزت، ولكن ما زلنا نتسائل عن كيفية تغيُر هذه الحالة.
أرض البحيرات
تتواجد بين جبال غامبورتسيف سمة أخرى غامضة من أنتاركتيكا: بحيرة فوستوك – وهي بحيرة عذبة دُفنت تحت 2.5 ميل (3.7 كم) من الجليد الصلب.
تقريبًا فى حجم بحيرة أونتاريو، وهي أكبر من أكثر من 200 بحيرة سائلة منتشرة فى جميع أنحاء القارة تحت الجليد.
وحتى الآن، لم يتمكن أحد من أخذ عينات مباشرةً من بحيرة أنتاركتيكا، ولكن هناك ثلاثة مشاريع على الأقل – فريق روسي، فريق بريطاني وفريق أمريكي – يعالجون المشكلة.
الفريق الروسي فى بحيرة فوستوك، والبريطاني فى بحيرة إلسورث، ربما يكون لديهم عينات بحلول عام 2012.
وعلى الرغم من أن مياه البحيرات كان من الصعب أخذها، إلا أن العلماء لديهم عينات من الصفيحة الجليدية نفسها، والتي اتضح أنها تثير أسرارًا بيولوجية خاصةً بها.
تقع صفيحة الجليد لغرب أنتاركتيكا تحت مستوى سطح البحر اليوم، ولكن قبل 34 مليون سنة، كانت ترتكز على سلسلة جبال أعلى بكثير.
مَن بالداخل هُناك؟
وقال جون بريسكو، الأستاذ بجامعة ولاية مونتانا، الذي يقوم بأعمال ميدانية فى أنتاركتيكا منذ 27 عامًا: أعتقد أن هذا الغطاء الجليدي بأكمله على قيد الحياة، وهذا ما لم يتم إثباتُه بعد.
ما ثَبُتَ، أن البكتيريا فى الجليد.
ليس الكثير من ناحية المعايير الميكروبية – 300 خلية فى 1 ميللي لتر من الجليد مقابل 100 الف خلية فى مياه البحر – ولكنهم موجودون فى عروق صغيرة من المياه السائلة التى تختلط بالجليد الصلب وتعمل كمنازل صغيرة، كما تحتوي على المُغذيات التي يمكن أن تُغذي ميكروب جائع.
السؤال هو، هل هم يعيشون هناك، هل هو نظام بيئي وظيفي؟
عندما تم استرجاع عينات من البكتيريا القديمة فى المختبر، لعينات جليد منذ 420000 سنة، من أكثر من 2 ميل (3 كم) داخل صفيحة الجليد، فإنه سرعان ما أظهرت علامات الحياة.
«نحن نذيب الماء، وهي تنمو».
ومع ذلك، فإنه ليس من الواضح ما إذا كان الجليد بمثابة واقٍ، يحافظ على نفس الميكروبات سليمة حتى يُمنحوا كوجبة دافئة، أو إذا كان المجتمع الميكروبي نشط يواصل طريقه داخل صفيحة الجليد.
وقال بريسكو: «إما أنهم فى حالة معلقة من الحركة خلال تلك الرحلة (نصف مليون سنة)، أو أنهم يعيشون ببطء شديد، ونحن لا نعرف ذلك إلى الآن».
يحافظ مضاد التجمد ذاتي البناء على سمكة الجليد حية
من بالخارج هناك؟
بقعة أخرى من الإثارة البيولوجية هو المحيط الذي يحيط بأنتاركتيكا.
«إذا التقطت حفنة من حيوانات أنتاركتيكا، فلن تخطئها عن مخلوقات من أي مكان آخر على هذا الكوكب» ديفيد بارنز، عالم المسح البريطاني فى أنتاركتيكا.
وأضاف بارنز، وهو يتحدث من سفينة بحثية قبالة شبه جزيرة أنتاركتيكا، إن أحد أكبر الأسرارهو«لماذا نرى أنواع الحيوانات التي نراها؟».
عناكب البحر طويلة الساقين بحجم أطباق العشاء شائعة فى مياه أنتاراكتيكا، ولكن المخلوقات الأخرى المشتركة مع بقية محيطات الأرض، كالرخويات غائبة بشكل غريب. كما تنمو بعض المخلوقات إلى حجم هائل، والبعض الآخر صغير بشكل غير عادي.
عملية اختفاء الجليد
يعود الباحثون مرارًا وتكرارًا إلى هذا السؤال.
الجليد الأكثر إثارةً للقلق هو صفيحة الجليد فى غرب أنتاركتيكا والتي تشهد تغيُرات غير مسبوقة، ومن المرجح أن تكون أكبر سبب محتمل فى الارتفاع العالمي لمستوى سطح البحر.
كشفت الأبحاث على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية أن الصفيحة الجليدية ترتكز على الرواسب الجليدية اللزجة والتي يمكن أن تسمح للجليد بالانزلاق بسهولة أكبر مما لو كانت تتدفق فوق طبقة صخرية صلبة.
كما أن أجزاء كبيرة من قاع اللوح الجليدي أقل من مستوي سطح البحر – وهذان العاملان يجعلان اللوح الجليدي معرض للخطر بشكل خاص، وفقا لما ذكره روبرت بيندشادلر، جيولوجي علم الجليد وعالم ناسا الفخري.
وأضاف: أعتقد أن التفاعل الأكثر أهمية هو التفاعل بين المحيطات والجليد.
وهذا بالتأكيد ما يُطلق جميع الإنذارات إذا نظرتم إلى التغييرات الأخيرة فى الصفائح الجليدية، وهذا هو المطرقة الكبيرة التي تضرب الصفائح الجليدية فى الوقت الراهن، وتُقدِم التفاصيل لما يجري خفية.
هذا لأنه يبدو أن معظم التفاعل يحدث تحت الألواح الجليدية – تلك السهول العملاقة من الجليد العائم التي تتشبث بحواف القارة كما أنه لا يمكن للأقمار الصناعية وغيرها من أدوات الرصد الحصول على نظرة مفصلة لما يحدث أسفل تلك الألواح.
يعرف الباحثون أن الألواح الجليدية تعمل كسد عملاق للأنهار الجليدية.
عندما تصبح الرفوف الجليدية أرق أو تنهار أو كلا الأمرين معا، تسرع الأنهار الجليدية بتفريغ المزيد من المياه إلى المحيط، مما يرفع مستويات سطح البحر. ا
والآن، بيندشادلر والباحثون الآخرون يتجهون لجلب بعض بيانات درجة الحرارة الأولية أسفل اللوح الجليدي لجزيرة باين، المَنفذ لواحد من أكبر وأسرع الأنهار الجليدية المتحركة فى أنتاركتيكا، أملًا فى فهم ما يحدث أسفلها.
وأضاف بيندشادلر: كلما ازدادت القياسات التي نحصل عليها، كلما زادت الأسئلة التي لدينا.
أعتقد أن السر العام هو الطبيعة المحددة لهذه التفاعلات التي اكتشفناها.
الهدف الشامل لبيندشادلر والعديد من الباحثين الآخرين في أنتاركتيكا هو تسليم بيانات كافية لمصممي النماذج حتي يتمكنوا من معرفة كيف سيتغير جليد أنتاركتيكا في العقود المقبلة، وكيف ستؤثر تلك التغييرات على بقية العالم.
وفي حالة ذوبان صفيحة أنتاركتيكا الجليدية بالكامل، سيؤدي ذلك لرفع متوسط مناسيب سطح البحر فى العالم بمقدار 16 قدمًا (5 أمتار)، وفقًا لبعض التقديرات.
وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن يحدث ذلك لعدة آلاف من السنين، فقد فقدت الصفيحة الجليدية كتلة منها بشكل متزايد على مدى العقدين الماضيين، وتتسارع الأنهار الجليدية التي تعمل كمنفذًا لها إلى البحر.
وحتى بمقارنة التغيرات الصغيرة نسبيًا في الصفائح الجليدية الثلاث فى العالم (جرينلاند، شرق أنتاركتيكا وغرب أنتاركتيكا) ستكون لها آثارٌ هائلة.
وقال بيندشادلر إن زيادة حجمها بنسبة 1% ستزيد من مناسيب سطح البحر بحوالي 26 بوصة (65 سنتيمترًا).
وللحصول على البيانات التي يحتاجها واضعو النماذج لا يزال ذلك يتطلب النوم في خيام صغيرة على سهول الجليد المليئة بالرياح، والعمل لساعات طويلة فى ضوء النهار المستمر لصيف أنتاركتيكا.
وقال بريسكو«ما زلنا مستكشفين».
كان على المستكشفين الأوائل مثل سكوت وشاكلتون استكشاف حدود الوجود الإنساني، ولكننا الآن نستكشف حدود الحياة بشكل عام.
لدينا فرضيات عالمية كبري – وتمكنا من تحقيق الكثير في مئة عام – ولكن لا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه، ولا يزال أمامنا الكثير من الأسئلة للرد عليها.
- ترجمة: عمرو الجابري
- تدقيق: محمد نور
- تحرير : رغدة عاصي
- المصدر