في العالم القديم، كان التوشيم شائعًا بين مختلف الشعوب، وتشير الأدلة إلى أن فن التوشيم ربما ظهر مستقلًا على القارات الست المأهولة بالسكان. فمتى حدث ذلك وكيف؟
وُجد على جثمان رجل الثلج أوتزي المحفوظ في أحد أنهار الجليد بجبال الألب منذ أكثر من 5000 عام قبل أن يكتشفه المتنزهون، وقد لوحظ 61 وشمًا موزعًا على معصمه وساقيه وظهره وصدره.
وعُثر على مومياء تعود إلى مصر ما قبل الأسرات -يرجَّح أنها عاشت في نفس فترة أوتزي- تحمل وشومًا على أعلى الذراع، يُعتقد أنها تمثل ثورًا بريًا وخروفًا بربريًا، بينما تزينت مومياء أخرى -يُعتقد أنها لأنثى- برسومات على شكل منحنيات متعرجة على كتفها. وفي بيرو، عُثر على مومياء تنتمي لحضارة تشينتشورو يبلغ عمرها نحو 4000 عام، تحمل وشمًا على هيئة شارب رفيع.
تقول نينا جابلونسكي -بوصفها أستاذة الأنثروبولوجيا الفخرية بجامعة ولاية بنسلفانيا ومؤلفة كتاب الجلد: تاريخ طبيعي- في تصريح لموقع هيستوري:
«من المرجح وُجود الوشوم في كل مكان عبر معظم الأزمنة، ولو بين بعض أفراد المجتمعات … والبشر يقظون ومنتبهون بطبيعتهم، ومن المحتمل أن بعضهم لاحظوا دخول الفحم تحت الجلد بالصدفة، ليكتشفوا لاحقًا إمكانية استغلال ذلك لصنع علامات دائمة مقصودة على أجسادهم».
تُشير كتابات تعود إلى القرن الثالث الميلادي إلى وجود وشوم في اليابان، كما سُجلت إشارات إلى الوشوم في الصين منذ فترات أقدم. أما في الأمريكتين قبل كولومبوس، فقد مارست كثير من الشعوب الأصلية هذا الفن، ومنها قبائل كري التي اشتهرت برسم وشوم على الذقن.
وفي ولاية يوتا الأميركية، اكتشف الباحثون أداة للتوشيم تعود إلى 2000 عام، بينما وُجدت مومياوات الإنويت في جرينلاند تعود إلى 500 عام تحمل وشومًا على الوجه على هيئة خطوط ونقاط وأقواس. كما عُرف عن النوبيين القدماء، والفلبينيين، والبريطانيين، والمايا، أنهم مارسوا التوشيم.
وشوم الإغريق القدماء تكريمًا للآلهة
مع إن نظرة الإغريق القدماء تجاه التوشيم كانت سلبية، فإن بعضهم وشموا أجسادهم، مثل بطليموس الرابع حاكم مصر المقدوني، الذي يُقال إنه رسم وشمًا لأوراق اللبلاب تكريمًا للإله ديونيسوس. ووثّق الإغريق أيضًا وشوم الشعوب الأخرى، إذ كتب المؤرخ هيرودوت في عام 450 قبل الميلاد تقريبًا أن الوشوم علامة على النبل عند السكيثيين والتراقيين.
وذكر هيرودوت أيضًا أن أحد الطغاة في منطقة تُعرف اليوم بتركيا استخدم وشمًا لنقل رسالة سرية، حيث وشمها على رأس أحد العبيد، ولم تُكشف إلا بعد حلاقة شعره.
أما الرومان القدماء، فقد أطلقوا على أحد شعوب اسكتلندا اسم (البيكت) أو الموشومين، بسبب وشومهم اللافتة.
وشوم متقنة تعود إلى قرون مضت
لم تكن الوشوم القديمة بدائية، بل أظهرت مستويات عالية من الدقة. فقد كشفت دراسة نُشرت في 13 يناير 2025 في مجلة PNAS، عن تحليل أكثر من 100 مومياء من حضارة تشانكاي التي نشأت في بيرو عام 900 ميلادي تقريبًا قبل أن تندمج لاحقًا في إمبراطورية الإنكا. وأظهرت الدراسة أن بعض هذه المومياوات حملت وشومًا في غاية الدقة، بخطوط لا يتجاوز سمكها 0.1 إلى 0.2 ملم، وهو أقل من سمك الإبر المستخدمة في التوشيم الحديث.
يقول مايكل بيتمان بوصفه المؤلف المشارك في الدراسة وعالم الأحافير والأثري بجامعة هونغ كونغ الصينية: «كان ذلك أمرًا مذهلًا بالنسبة لنا. لم نكن ندرك مدى التطور الذي بلغه هذا الفن».
ويُرجح أن هذه الوشوم صُنعت باستخدام إبر من أشواك الصبار أو عظام الحيوانات الحادة. وتمثلت بعض التصاميم في أشكال هندسية، مثل مثلثات متداخلة ومعينات، بينما جسدت أخرى أشكالًا نباتية. وفي حالة فريدة، رُصد وشم على الصدر يبدو أنه يصور قردًا.
بالنسبة لوشم معقد على الساعد، يشير بيتمان إلى أن «الشخص كان سيجلس لفترة طويلة، بينما كان من يقوم بالوشم فنانًا بارعًا جدًا. فطريقة التنفيذ جميلة جدًا».
ويضيف أن هذه الوشوم كانت تحمل عناصر فردية تعكس ما هو مهم لكل شخص، على غرار الوشوم الحديثة.
معاني الوشوم
لم تتضح بعد الأسباب التي دفعت حضارة تشانكاي إلى ممارسة التوشيم، لكنها قد تكون متعددة. فوفقًا لجابلونسكي، ربما كانت بعض الوشوم لأغراض علاجية، كما يُعتقد في حالة أوتزي، بينما استُخدمت أخرى بوصفها رموزًا للمكانة الاجتماعية، أو تعاويذ للحماية، أو طقوسًا دينية. وقد تعكس أيضًا الانتماء إلى جماعة أو مرحلة بلوغ أو نجاحًا في المعارك أو مجرد تعبير عن الذات.
لكن التوشيم لم يكن دائمًا اختيارًا فرديًا. فقد استخدمته بعض الثقافات بوصفه وسيلة للعقاب أو الوصم. إذ وسم الإغريق والرومان القدماء العبيد والمجرمين بالوشوم، وفي اليابان القديمة، كان يُفرض وشم خط على الجبهة عند ارتكاب الجريمة الأولى، ثم يضاف قوس في المرة الثانية، وخط آخر في الثالثة، ليكتمل الرمز الذي يعني كلب. وخلال الحرب العالمية الثانية، وشم النازيون أرقامًا على أذرع ضحايا الهولوكوست.
لم يكن التوشيم مقبولًا في جميع المجتمعات. فقد حظره الإمبراطور الروماني قسطنطين، وتجنبته بعض الجماعات الدينية، مثل اليهود المتدينين وأتباع طائفة المورمون. وتوضح جابلونسكي: «عبر التاريخ، خرجت الوشوم عن المألوف عند ارتباطها بالفئات الدنيا أو الجماعات الإجرامية».
أما اليوم، فقد أصبح التوشيم أكثر انتشارًا من أي وقت مضى، خاصة في الولايات المتحدة، حيث أظهر استطلاع رأي عام 2023 أن نحو ثلث البالغين هناك يحملون وشمًا واحدًا على الأقل. لكن القليل منهم يدركون أنهم يمارسون تقليدًا موغلًا في القِدم.
حتى الآن، تعود أقدم الوشوم المكتشفة إلى أوتزي، الذي عاش بين عامي 3350 و3100 قبل الميلاد، وإلى المومياوين المصريتين ما قبل الأسرات، اللتين تعودان إلى الفترة بين 3351 و3017 قبل الميلاد. لكن الباحثين يعتقد أن التوشيم قد يكون أقدم بكثير، وربما سبق حتى ظهور الحضارات.
يقول بيتمان: «إذا عُثر يومًا على إنسان كهوف محفوظ في كتلة جليدية، فإني أراهن على أننا سنجد وشومًا على جسده». فالبشر استخدموا المجوهرات وصنعوا الفن منذ عشرات آلاف السنين، ومن هنا «لم يكن سوى خطوة قصيرة نحو استخدام الجلد بوصفه لوحة للتعبير».
اقرأ أيضًا:
الدائرة الضيقة المعقدة لكليوباترا: الأشقاء والخلفاء والعشاق
ما الذي سبب العقوبات العشر في مصر القديمة؟
ترجمة: أميمة الهلو
تدقيق: مؤمن محمد حلمي
مراجعة: محمد حسان عجك