هناك بعض اللحظات العظيمة في تاريخ الطيران التي مهدت الطريق أمام الإنسان ليقتحم عالم الفضاء، فيبحث عن الكويكبات من حولنا ثم يخطوا أولى خطواته على سطح القمر وإلى المريخ.
في 1 يناير من العام 1914 أصبح خط الطيران (سانت بطرسبرج – تمبا) (St. Petersburg-Tampa) أول خط طيران ذو رحلات مُجدوَّلة لخدمة المُسافرين، وكانت مجرد محاولة قصيرة الأمد، فاستمرت هذه الرحلات لمدة أربعة أشهر فقط إلّا أنها مهدت الطريق أمام الرحلات العابرة للقارات اليوم.
كان (توني جوناس – Tony Jannus) طيارًا لأولى الرحلات وهو من الطيارين ذوي الخبرة في مجال اختبار الطائرات ومجال الألعاب الجوية الأكروباتية فكان طيارًا استعراضيًا محترفًا، وكان أول مُسافر هو (أبراهام فيل – Abram C. Pheil) عُمدة سابق لسانت بطرسبرج، واستغرقت رحلتهم عبر الخليج إلى (تمبا) 23 دقيقة حيث كانت تبلغ المسافة حوالى 34 كيلومترًا.
كانت رحلتهم في طائرة مائية صُممت عن طريق (توماس بينوا – Thomas Benoist) أحد رواد مجال الطيران من (سانت لويس – St. Louis).
شركة طيران تجارية حقيقيةانبهر (بيرسيفال إليوت فانسلير – Percival Elliott Fansler) – مندوب مبيعات من (فلوريدا) لأحد مُصنعي محركات الديزل للقوارب – بالتقدم الذي أحرزه (توماس بينوا) في تصميم طائرة يُمكنها الإقلاع والهبوط من على سطح الماء.
بدأ الرجلين اجتماعًا انتهى بعرض من (فانسلير) بشركة طيران تجارية تنقل الأفراد من مكان ما إلى آخر، وكان العرض مبدأيًا أن تكون الرحلات في البداية بين (سانت بطرسبرج) و(تمبا).
في عام 1913 كانت الرحلة بين المدينتين قبالة خليج (تمبا) تستغرق ساعتين عن طريق الباخرة أو من 4 إلى 12 ساعة عن طريق السكك الحديدية، أما باستخدام السيارات في ذلك الوقت فكانت تستغرق الرحلة حوالي 20 ساعة، لكن أولى الرحلات الجوية بين المدينتين استغرقت حوالي 20 دقيقة فقط.
حاول (فانسلير) أن يحصل على اهتمام المسئولين في (تمبا) بتلك المغامرة، ولكن باءت محاولته بالفشل فقد أعرضوا عنه، لكنه حصل على استقبالًا جيدًا في (سانت بطرسبرج) جذب العديد من المستثمرين، ووصل (بينوا) إلى (سانت بطرسبرج ) في 12 ديسيمبر عام 1913 ومعه الطيار (توني جوناس).
جرأة الرجل الشاب
كان (جوناس) شابًا يافعًا معروفًا في أوساط الطيران، وكانت وسامته وسمار بشرته وجرأته المشهور بها سببًا في كونه مثالًا للطيار فتى الأحلام.
كان (جوناس) يقوم بالعروض الجوية والاختبارات اللازمة للطائرات العسكرية وكان يطير لمسافات طويلة أيضًا سواء بطائرات جوية أو مائية، فقد قام بأولى الاختبارات لأول طائرة ذات بنادق آلية. في الأول من مارس 1912 حمل النقيب (ألبرت بيرري) طائرًا إلى ارتفاعات عالية ليقوم بأول عملية قفز مِظلِّي من على طائرة.
بحلول عام 1913 كان أكثر من يمتلك أسهمًا في (شركة بينوا للطائرات – Benoist Aircraft Company).
القوارب الطائرة
تم شحن النموذج رقم 14 للطائرة المائية لشركة (بينوا) على متن إحدى القطارات إلى (سانت بطرسبرج)، وكانت تزن 1,250 باوند (567 كجم)، ويبلغ طولها 26 قدمًا (8 أمتارًا)، وكانت المسافة بين طرفي الجناحين 44 قدمًا (13 مترًا).
كانت تستمد قوة دفعها من المحرك المكبسي (روبرتس ذو 6 اسطوانات – Roberts 6-cylinder) على خطٍ واحد يتم تبريده بالسوائل ويُنتج عزمًا قدره 75 حصانًا.
كانت السرعة القُصوى للطائرة 64 ميل/س (103 كم/س).
الهيكل تم صناعته من ثلاث طبقات من خشب الصنوبر مع القماش بين كل طبقة والأخرى.
صُنعَت الجناحات من أعمدة خشب الصنوبر بعد أن تم تغطيتها جيدًا بالكتّان، وصُممت الطائرة لتحمل رجُلَين أحدهما الطيَّار والآخر المسافر بجوارة على مقعدًا خشبيًا واحدًا.
الطيران الافتتاحي
أولى الرحلات غادرت في أولى ساعات العام الجديد 1914 في موكب مشهود، حوالى ثلاثة آلاف من سكّان (سانت بطرسبرج) تجمعوا من وسط مدينة (سانت بطرسبرج) وحتى قبالة الساحل البحري متفاخرين ومتباهين بأولى تذاكر الطيران التي بيعت لأول مرة في مزاد علني، وفاز بها (فيل) لأول مرة بعدما دفع ما يقارب الـ400 دولارًا أمريكيًا.
قبل العاشرة صباحًا، وبعد إلقاء العديد من الخطابات والتقاط العديد من الصور الفوتوغرافية، جلس (جوناس) و(فيل) جنبًا إلى جنب على المقعد الخشبي الصغير داخل الطائرة.
وأثناء الإقلاع أشار (جوناس) بيديه محييًا الجمع المُحتفي بذلك الحدث الفريد، لم يرتفع بالطائرة أكثر من 50 قدمًا (13.2 م) أعلى سطح الماء، وفي منتصف الطريق إلى (تمبا) حدث عُطل مفاجئ في المحرك جعله يُلامس سطح مياه الخليج، ثم قام (جوناس) ببعض التعديلات ثم عاد وأقلع مرة أخرى، بمجرد هبوط الطائرة على مدخل نهر (هيلسبروغ – Hillsborough) بالقرب من وسط مدينة (تمبا)، حصل (جوناس) و(فيل) على التصفيق الحار والتحية من الحشد المُنتظِر وصولهم، فبلغ عددهم حوالي 3,500 شخصًا.
ذهب (فيل) إلى عمله وقام بعمل طلبية بعدة آلاف من الدولارات لشركة البيع بالجملة خاصته، وبحلول الساعة الحادية عشر صباحًا، أقلع (جوناس) و(فيل) مرة أخرى عائدين إلى (سانت بطرسبرج)، واستغرقت الرحلة بأكملها ذهابًا وإيابًا أقل من ساعة ونصف.
أكثر من 1,200 مسافر
قامت الشركة برحلتين يوميًا، ستة أيام بالأسبوع، ثمن تذكرة الفرد الواحد كانت حوالي خمسة دولارات، أمَّا عن الشحن فكانت الشحنة التي تزن 100 باوندًا تتكلف الخمسة دولارات أيضًا، وبيعت التذاكر لستة عشر أسبوعًا مقدمة، ودخلت الطائرة المائية الثانية لشركة (بينوا) في الخدمة، وامتدت رحلات الطيران إلى (ساراسوتا)، (برادينتون)، (ماناتي)، وكان (روجر جوناس – Roger Jannus) أخًا لـ(توني) هو الطيار الثاني.
عملت شركة الطيران لمدة أربعة أشهر، نقلت خلالها حوالي 1,205 مسافرًا.
تضاءلت رغبة المسافرين في السفر سريعًا، وبدأ السكان القادمون مع الشتاء العودة إلى الشمال مرة أخرى.
وفي 27 أبريل، كانت آخر رحلات الطيران للأخوين (توني وروجر) فوق خليج (تمبا) قاموا خلالها ببعض العروض الجوية قبل أن يُغادروا (فلوريدا).
استمر الأخوان في تقديم العديد من العروض الاستعراضية، والقيام بالعديد من الاختبارات للطائرات الجديدة، وتدريب العديد من الطيارين أيضًا.
وفي 21 أكتوبر عام 1916، كان (توني جوناس) في طلعة تدريبية مع أحد الطيارين الروس حيث تحطمت الطائرة بهم في البحر الأسود ولم يتم العثور على جثته حتى الآن.
توفيَّ (روجر جوناس) أيضًا أثناء الطيران، فقد تحطمت طائرته في إحدى الدوريات الجوية في الأجواء الفرنسية في 4 سبتمبر من العام 1916.
- ترجمة: محمد خالد عبدالرحمن.
- تدقيق: صهيب الأغبري.
- تحرير:عيسى هزيم.
- المصدر