أدمغتنا تنام وتستيقظ طوال الوقت!
عندما نغطّ في نوم عميق ينحسر نشاط أدمغتنا وينساب على شكل أمواجٍ كبيرةٍ واضحةٍ, وتبدو هذه الأمواج مشابهةً لمشاهدةِ موجةٍ من الأجسام البشرية ترتفع وتنخفض حول ملعب رياضي، وهو مشهدٌ يَصعب تفويته.
وجد الباحثون حاليًّا في جامعة “ستانفورد” أنّ هذه الدورات موجودة أيضًا في حالة اليقظة كما في حالة النوم, ولكنه تبدو عندها مثل ارتفاعٍ وانخفاضٍ منسجم لأقسام صغيرة من الملعب بدلًا من الملعب بأكمله، وتبدو كأنها أجزاء صغيرة مستقلّة من الدماغ تغطّ في النوم وتعود للاستيقاظ طوال الوقت، إضافةً لذلك, تُظهر الدراسة أنه عند دخول الخلايا العصبية في دورات أكثر نشاطًا أو ما يسمّى “حالة التشغيل” تستجيب بشكلٍ أفضل للعالم حولها، حيث تستغرق الخلايا العصبية وقتًا أطول في “وضع التشغيل” عندما نبدي اهتمامًا لمهمّةٍ ما.
وتقترح هذه الاكتشافات أنّ العمليات التي تنظّم النشاط الدماغي في حالة النوم قد تلعب دورًا أيضًا في حالة الانتباه.
تقول تاتيانا إينجل المشاركة في قيادة البحث الذي
من المقرّر نشره في الأول من كانون الثاني في دورية “العلوم”: “إن الانتباه الانتقائي مشابهٌ لجعل أقسامٍ صغيرةٍ من دماغك أكثر استيقاظًا بشكلٍ قليل.”
الدورات في وضع التشغيل والإيقاف:
يتطلب فهم هذه الدورات المكتشفة حديثًا أن نتعلم قليلًا عن كيفية تنظيم عمل الدماغ.
إذا أدخلنا مسبارًا مباشرةً إلى داخل الدماغ فإنّ كل الخلايا التي أصابها المسبار سوف تستجيب للنمط نفسه من المثيرات, ففي أحد الأعمدة الخلوية يمكن أن تستجيب كل الخلايا للأجسام الموجودة في قسم محدد من المجال البصري مثل القسم العلوي الأيمن على سبيل المثال، واستخدم العلماء مجموعة من المسابر الحساسة جدًّا والتي يمكن أن تسجل النشاط في أعمدة الخلايا العصبية في الدماغ.
في الماضي, كان الناس على معرفة بأن الخلايا العصبية المفردة تدخل في أطوارٍ تكون فيها إما أكثر أو أقل نشاطًا, ولكن مع هذه المسابر الجديدة تمكن العلماء للمرة الأولى من رؤية التزامن في دورات الخلايا العصبية ضمن مجموعة الأعمدة الواحدة بين توليد السيالات العصبية بشكل سريع جدًا ومن ثم توليدها بمعدلٍ أقل بكثير, وهذا ما يشابه الدورات المتناسقة في حالة النوم.
تقول كوابينا بواهين, بروفيسورة في الهندسة الحيوية والهندسة الكهربائية في ستانفورد ومؤلفة كبيرة لهذه الورقة البحثية: “خلال مرحلة (التشغيل) تولد الخلايا العصبية كلها السيالات العصبية بسرعة وفجأة تنتقل لمعدل إنتاجٍ أقل، هذا الانتقال بين التشغيل والإيقاف يحصل طوال الوقت, وكأن الخلايا العصبية ترمي عملة نقدية لتقرر ما إذا كانت سوف تدخل وضع التشغيل أو الإيقاف.”
هذه الدورات والتي تحصل في غضون ثوانٍ أو أجزاء من الثانية, لم تُلاحظ بشكل كبير أثناء اليقظة لأن الأمواج لا تنتشر بعيدًا عن الأعمدة التي تتولّد فيها, على عكس النوم الذي تنتشر فيه الأمواج عبر الدماغ بأكمله تقريبًا ويصبح من السهل تقصّيها.
انتبه:
وجد الفريق أن حالة النشاط العليا والدنيا هذه ترتبط مع القدرة على الاستجابة للعالم، فقد وضع الفريق مسابره في منطقة من دماغ القردة تلتقط بشكل خاص جزءًا واحدًا من المجال البصري وكانت القردة قد دُرّبت على الانتباه لإشارة تدل على أن تغيُّر شيءٍ ما في قسم محدد من المجال البصري العلوي الأيمن أو السفلي الأيسر مثلًا، وبعد ذلك تُكَافَأ القردة التي تشير بأنها رأت هذا التغيّر.
عندما أعطى الفريق الإشارة إلى مكان التغيير المتوقع بدأت الخلايا العصبية الواقعة ضمن العمود الواحد والذي يتحسس ذلك القسم من العالم بقضاء وقت أطول في حالة النشاط، في الواقع استمرت الخلايا بالتبديل ما بين الحالات بانسجام, ولكنهم أمضوا وقتًا أطول في حالة النشاط عندما كانوا يعيرون الانتباه لما يحصل، وعند تزامن حدوث التغيير المُنبِّه مع وجود الخلايا في حالة أكبر من النشاط كانت تحدّد القردة هذا التغّير بشكلٍ صحيح غالبًا.
تقول إينجل: “القردة جيّدة جدًّا في تحديد التغير المُنبِّه عندما تكون الخلايا العصبية في ذلك العمود في حالة (التشغيل) ولكن ليس عندما تكون في حالة (الإيقاف)، وحتّى عند معرفة القردة بأن عليها إعارة الانتباه لمنطقة ما فشلت في تحديد التغير المنبّه بشكل متكرّر بعد دخول الخلايا العصبية إلى الحالة الأقل نشاطًا.”
وأضافت: “هذه الاكتشافات قد تبدو مألوفةً لكثيرٍ من الناس، فحتى عندما تظن أحيانًا أنك تعير انتباهك لشيءٍ ما, لا تزال تفوّت بعض الأمور على نفسك.”
وأشار العلماء إلى ارتباط هذه الاكتشافات مع بحوثٍ سابقةٍ وجدت أن الحيوانات والبشر الأكثر يقظة تميل لامتلاك حدقاتٍ أكثر اتساعًا، وفي البحث الحالي, عندما قضت الخلايا العصبية في الدماغ وقتًا أطول في حالة النشاط كانت حدقات القردة أيضًا أكثر اتساعًا.
وتوضح هذه الاكتشافات وجودَ تداخلٍ بين الموجات المتزامنة في الدماغ, وبين إعارة الانتباه لمهمةٍ ما والعلامات الخارجية لليقظة.
تقول مور: “يبدو أن الآليات المحدّدة لكل من الانتباه والإثارة (اليقظة) مترابطة تمامًا مع بعضها البعض.”
الحالة الأقل طاقة:
إن السؤال الذي يمكن أن يُطرح بعد هذا البحث هو: “لماذا تدخل الخلايا العصبية ضمن دورة من الحالة الأقل نشاطًا عندما نكون يقظين؟ ولماذا لا تبقى في الحالة الأكثر نشاطًا طوال الوقت تحسبًا لهجوم بعض الحيوانات الضارية مثلًا؟”.
يمكن أن تتعلق أحد أجوبة هذا السؤال بالطاقة, ويقول بواهين: “يوجد ثمنٌ استقلابيٌّ طاقّي يترافق مع توليد السيالات العصبية طوال الوقت، فالدماغ يستعمل الكثير من الطاقة لذا من الممكن تفسير إعطاء الخلايا العصبية الفرصة لصرف طاقة تعادل حالة الجلوس (الرّاحة) بمحاولة الدماغ توفيّر الطاقة، بالإضافة إلى ذلك، تنتج الخلايا العصبية النشطة فضلات الاستقلاب الخلوي والتي قد تؤذي الخلايا والحالة الأقل نشاطًا قد تسمح بالتخلص من تلك الفضلات.”
ترجمة: عماد دهان
تدقيق: داليا المتني
المصدر