أدلّة غير مُتوقّعة تشير إلى أنّ جهازنا المناعيّ يلعب دورًا في سلوكنا الاجتماعيّ
قد يكون جهازكُ المناعيّ من يُملي عليك جزءًا من شخصيّتك!
جميعنا نُحبّ فكرة أن نكون أشخاصًا مستقلّين، وفريدين من نوعنا، ومسؤولين بأنفسنا عن مصيرنا. لكن، وجدت الأبحاث الجديدة الدّليل على أنّ سلوكَنا، وحتّى شخصيّاتنا، تتأثّر بشيءٍ غير متوقّعٍ؛ ألا وهو جهازنا المناعيّ.
سوف تستغرب ذلكَ لو كنتَ قد قرأتَ سابقًا في أحد الكتب الجامعيّة أو المدرسيّة، أو في إحدى المقالات العلميّة بأنّه لا يوجد أيّ اتّصال بين الجهاز اللمفاويّ، والدّماغ. لا تَخَف، فتفكيرك في مكانه، ولا بدّ أنّ ما قرأته كان مكتوبًا قبل يونيو/حزيران من العام الماضي؛ وهو الوقت الّذي أُعلِن فيه عن وجود أوعية لمفاويّة في الدّماغ. لقد ظنّ العلماء أنّ عدم وجود رابط بين الجهاز المناعيّ، والدّماغ، هو شيء مساند لوظيفة الحاجز الدّماغيّ الدّموي في حماية أكثر عضوٍ حيويٍّ ومهمٍّ لدينا؛ ألا وهو الدماغ.
بدايةً، سنعطي فكرة عامّة عن الجهاز اللمفاويّ:
الجهاز اللمفاويّ؛ عبارة عن أوعية تنقل كريات الدّم البيضاء، وخلايا مناعيّة أخرى عبر الجسم، وتخدم أيضًا كصِلةٍ بين الأنسجة ومجرى الدّم، وتساعد على إزالة خلايا الدّم الميتة وفضلات أخرى، إضافة لوجود عُقَدٍ لمفاويّة وظيفتها هامّة أيضًا، علمًا بأنّ العُقَد اللمفاويّة، يخترقها اللمف والدّم، وتنتشر في أماكن عدّة. بالإضافة إلى أنّ الجهاز اللمفاويّ، هو جهازٌ دورانيّ.
كيف اكتشف العلماء وجود صلةٍ بين الجهاز اللمفاويّ، والدّماغ؟
قامَ بذلك قائدُ البحث العالم جونثان كيبنِس «Jonathan Kipnis»، وفريقه في كلّيّة الطّب في جامعة فيرجينيا. حيث أخذوا سحايا الّدماغ –تلك الطّبقة من الأنسجة الّتي تُغطّي وتحمي الدّماغ– الخاصّة بالفئران بأكملها (أيْ بطبقاتها الثّلاث)، ووضعوها على شريحةٍ واحدةٍ، بدلًا من تشريح كلّ طبقةٍ على حدة، وقاموا بدراستها تحت المِجهر، فلاحظوا وجود خلايا مناعيّة تنتشر في العيّنة داخل أوعية، وكانت أوعيةً لمفاويّة بالفعل.
ثمّ قام الفريق –للتّأكُّد– بحقنِ صبغةٍ في فئرانٍ مُخدَّرة، ومن خلال ذلك، استطاعوا رؤية أوعية لمفاويّة تحمل سوائل وخلايا مناعيّة، من السّائل الدّماغي الشّوكيّ بمحاذاة الأوردة في الجيوب الأنفيّة، لتخترق الغدد اللمفاويّة الرّقبية العميقة. وقد وجد العلماء أوعية مشابهة عند دراستهم للدّماغ البشريّ بشكلٍ أكثر تفصيلًا من النّاحية التّشريحيّة، وبذلك وجدوا بشكلٍ واضح، وجود اتّصال بين الدّماغ، والجهاز اللمفاويّ. علمًا بأنّ هذا قد يكون المفتاح لعلاج مجموعة واسعة من الأمراض، بدءًا من الفصام وانتهاءً إلى الألزهايمر. ويقول كيبنِس: «فَفِي الألزهايمر، تتراكم قطعٌ كبيرة من البروتين في الدّماغ، ومن المُتوقّع، أنّها تتراكم بسبب عدم فعاليّة تلكُم الأوعية في التّخلّص منها».
ماذا بعد؟
قام الفريق بتثبيط جزيءٍ مناعيٍّ واحد عند الفئران؛ هو إنترفيرون غاما «IFN-γ» (وهو جزيء تُطلقه الخلايا المناعيّة عند دخول أيّ عاملٍ مُمرض إلى الجسم، كالفيروسات، أو الجراثيم)، ممّا أثار سلوكًا غير اجتماعيّ عند الفئران، وبإعادة تحفيز الجزيء المناعيّ نفسه، عاد سلوك الفئران إلى الحالة الطّبيعية.
يقول كيبنِس: «إنّ هذا جنون، لكن ربّما نحن فقط عبارة عن ساحةِ قتالٍ مُتعدِّدِة الخلايا، بين قوّتين قديمتين؛ هما الجهاز المناعيّ، والعوامل المُمرضة، ومن الواضح أنّ جهازنا المناعيّ، يُملي علينا جزءًا من شخصيّتنا».
جاء في شرح جامعة فيرجينيا عن البحث: «يقترح العلماء أنّ العلاقة بين البشر والعوامل المُمرضة، أثّرت بشكلٍ مباشرٍ على السّلوك الاجتماعيّ لدينا، فإنّ الانخراط بالعلاقات الاجتماعيّة، أمرٌّ ضروريّ لبقاء الأنواع، وفي نفس الوقت كان جهازنا المناعيّ يطوّر من قُدرته على حمايتنا من العوامل المُمرضة المرافقة لهذه العلاقات». كما إنّ ذلك منطقيّ من وجهة النّظر التّطوّريّة، فالسّلوك الاجتماعيّ سيكون في مصلحة العوامل المُمرضة، كي يساعدها ذلك على الانتشار، وبالنّسبة لنا، فإنّ السّلوكَ الاجتماعيّ ضروريّ من أجل التّكاثر وانتشار النّوع.
للتّأكّد أكثر، ثبّط الفريق في آخر بحثٍ له الجزيء المناعيّ إنترفيرون غاما عند الفئران، والسّمك المُخطّط (zebrafish(، والجرذان. وكون هذا الجزيء هو ما يحفّز باقي أجزاء جهاز المناعة على الدّفاع عن الجسم ضدّ العوامل المُمرضة الغازيّة، أرادوا معرفة ما قد يحصل لو انعدم هذا التّفاعل. وكانت النتيجة تمامًا كما توقّعها فريق العمل؛ فقد تبيّن أن إنترفيرون غاما ضروريّ لأجل سلوكٍ اجتماعيّ طبيعيّ عند كلّ هذه الأنواع. كما إنّهم وجدوا أنّ تثبيط الجزيء، جعل أدمغة الفئران تصبح مفرطة الاتّصال، ممّا جعلها أقلّ استعدادًا للتّفاعل مع الآخرين أيضًا.
يمكنك رؤية «gif» يبيّن هذه الاتّصالات الإضافية في أدمغة الفئران، حيث إنّ الأدمغة الطّبيعية، تحوي اتّصالاتٍ أقلّ:
http://www.sciencealert.com/images/shockingnewr.gif
وفي خطوةٍ لاحقة، أعادو تحفيز نفس الجزيء عند الحيوانات نفسها، فاستعادت نشاطها الاجتماعيّ الطّبيعي مرة أخرى، مظهرين بذلك رابطًا واضحًا بين الجهاز المناعيّ، والسّلوك الاجتماعيّ، عند الفئران على الأقلّ.
ماذا يعني ذلك عند البشر؟
لا يزال الوقت مبكّرًا، لكنّ امتلاك نظرة عن كيفيّة تحكُّم الجهاز المناعي والجراثيم بسلوكنا، سيفتح لنا الطّريق لتفسير الكثير من الأشياء الّتي نقوم بها، ولم تَسِر معنا الأمور أحيانًا بشكل خاطئ، وحتّى إنّها قد تُؤدّي لإيجاد علاجاتٍ جديدة لأشخاصٍ مصابين باضطرابات اجتماعيّة.
يقول كيبنِس: «إنّني أظنّ أنّ الجوانب الفلسفيّة لهذا العمل مثيرة للاهتمام بشكلٍ كبير، لكنّ الآثار السريرية مهمّة للغاية أيضًا، فهذا الاكتشاف يقودنا إلى أسئلة أكثر من الأجوبة».