يشيع عن نظرية التطور سوء فهم مفاده أن عملية تطور الكائنات الحيّة عمليّة موجَّهة، وهي فكرة يسعى محبو علم الأحياء حول العالم إلى تصحيحها. لكنّ بحثًا جديدًا نُشر في مجلة نيتشر، يكشف بأن هذا التصور قد لا يكون خاطئًا بالكامل كما كنا نعتقد، أو على الأقل بالطريقة التي كنّا ندركه بها.
بالطبع لا تحدث الطفرات لغايةٍ أو هدفٍ محددَين، ولكن يبدو بأن إمكانية حدوث الطفرات في الحمض النووي لخلايا جسم الكائن الحي ليست ذاتها لكل أجزائه، بمعنى أن بعض أجزاء الحمض النووي مُعرَّضةٌ لحدوث الطفرات فيها أكثرَ من أخرى، وهذا ما أظهرته الدراسة التي أُجريت على نبات رشاد ثال Arabidopsis thaliana، وهو نبات حشائشي مزهر ينمو عادةً على جوانب الطرقات.
قال جراي مونرو عالم النبات من جامعة كاليفورنيا دافيس، بوصفه أحد أعضاء الفريق العلمي الذي أعد الورقة البحثية: «لطالما نظرنا إلى الطفرات التي تحدث على امتداد الجينوم بوصفها عشوائية أساسًا … يبدو أنها غير عشوائية تمامًا، بل إنها غير عشوائيّة على نحوٍ يفيد النبات، هذا سيمنحنا منظورًا جديدًا بالكامل للطفرات».
بدايةً، كي تحدث الطفرة الجينية (أو التنوّع)، لا بد من تتابع سلسلة من الأحداث. أولًا، ينبغي أن يطرأ تبدّل على الحمض النووي لخلايا الخط الإنتاشي (وهي الخلايا التي ستعطي الخلايا التكاثرية خلال حياة هذا الكائن، كالحيوانات المنوية لدى ذكور البشر مثلًا)، فهذه الخلايا هي التي ستمرر المادة الوراثية للكائن الحي إلى نسله اللاحق من أبناءه. قد يقتصر هذا التبدل الحاصل على تغير حرف واحد في سلسلة الحمض النووي، بسبب تعرّض الخلية للأشعة فوق البنفسجية مثلًا. أو قد يتعدّاه إلى خسارة جينٍ أو حتى حدوث خطأ ما خلال عمليتي نسخ المادة الوراثية وتمريرها، ما قد يؤدي إلى تضرّر صِبغي بأكمله.
بطبيعة الحال، لدى الخلايا عدة آليات لتجنب هذه التبدلات، مثل أنظمة ترميم الحمض النووي، وفي حالة التبدلات العصية على الترميم والإصلاح، تُقدِمُ الخلية على ما يشبه الانتحار بتفعيلها آلية الموت الخلوي المبرمج المعروفة بالاستماتة Apoptosis.
فإذا حدثت طفرة ما للمادة الوراثية، وتمكنت هذه الطفرة من اجتياز الآليات الخلوية لمنع الطفرات (الترميم أو الاستماتة)، عندها فقط يمكن أن تنتقل هذه الطفرة إلى نسل هذا الكائن الحي، وحينها قد تظهر في الأجيال القادمة منه.
والجدير بالذكر في هذا الصدد، أن معظم الطفرات التي تبدل حرفًا واحدًا في الحمض النووي لن تُحدِث فارقًا واضحًا في شكل الكائن الحي أو وظيفته، أما بالنسبة للطفرات المؤثرة، أي تلك التي ستغير في شكل الكائن الحي أو وظيفته، فستخضع لاحقًا خلال دورة الحياة لتحديات الانتقاء الطبيعي.
يُعتقَد بأن التطور عند هذه المرحلة يجري ما يشبه بعملية فرز الطفرات، إلى طفرات ناجحة ستبقى في الأجيال القادمة وأخرى فاشلة ستندثر. فمثلًا، إذا حدثت طفرة ما وكانت ذات تأثير معيق في فرصة الكائن الحي في البقاء حيَّا، فمن المرجح أن تندثر هذه الطفرة بعد وقتٍ.
ومع إن هذه المقاربة تنظر إلى قوى الانتقاء الطبيعي (الظروف والتحديات البيئية التي ستواجه الكائن الحي خلال حياته) بوصفها اختبار ستخضع له الطفرات كي تنجح في البقاء والاستمرار أو الاندثار، فإن الطفرة بحد ذاتها تُعد حادثة طارئة على المادة الوراثية، وبالوسع تشبيهها برمية نرد عشوائية لا يمكن التنبؤ بنتيجتها على الكائن الحي فيما بعد.
ويوضح الباحثون في دراستهم: «طوال النصف الأول من القرن العشرين، هيمنت على النظرية التطورية فكرة حدوث الطفرات بعشوائية أيَّا كان أثرها في بقاء الكائنات».
استخدم مونرو وزملاؤه في هذا البحث نبات رشاد ثال للدراسة، مثلما تستخدم فئران التجارب في المختبرات، وذلك لاختبار فرضية أن الطفرات عشوائية أيَّا كان موقعها في الجينوم.
حلل الفريق جينوم 400 خط وراثي لنباتات رشاد ثال، وفاجأتهم نتائج دراساتهم الوراثية. فبدلًا من تأكيد الدراسة لعشوائية حدوث الطفرات في أي منطقة من الجينوم، وجد الفريق أن بعض أجزاء الجينوم كانت أكثر عرضة للطفرات من أخرى.
علّق مونرو قائلًا: «هذه المناطق المعرضة للطفرات هامّة جدًا في الجينوم، أما الأكثر أهمية للحياة فمحمية من حدوث الطفرات».
وانطبقت هذه النتيجة على كل أجزاء الجينوم، سواءً أكانت من أجزاءً الشيفرة الجينية أم لا، ما يرجح أن الأمر غير مرتبط بأنماط محددة من الحمض النووي، بل بمناطق بأكملها من الجينوم.
كتب مونرو وفريقه: «يبدو أنه من الممكن تفسير تطور عدد أكبر من الجينات في نبات رشاد ثال من خلال الانحياز الطفري -حدوث الطفرات في أجزاءٍ أكثر من أخرى- بدرجة أكبر مما يشرحه الانتقاء وحده»، وأنه لو حدث هذا التناقض لاحقًا بسبب الانتقاء الطبيعي لتمكنت دراساتهم التحليلية من رصد تنوعات جينيّة مميزة أكثر مما لاحظوه خلال البحث، فكان من الممكن أن تضيع هذه التنوعات خلال عملية الانتقاء.
إضافةً إلى ذلك، كشفت بيانات الدراسة عن عوامل فوق جينية مؤثرة، مثل تضرر الحمض النووي حول بروتينات محددة، وكيف استطاعت آليات إصلاح الحمض النووي التنبؤ بأجزاء الحمض النووي الأقل تعرضًا للطفرات. وقد سبق هذه الدراسة، ظهور أدلة قوية ترجح كون عملية ترميم الحمض النووي وإصلاحه عملية موجّهة تجاه مناطق الجينات النشطة، وهو ما تدعمه نتائج هذه الدراسة أيضًا.
إن فهم الطريقة التي يُلقى بها النرد في حالة هذا النبات، حسب تشبيه الأوساط العلمية لحدوث الطفرات، سيؤثر لا في فهمنا للطفرات في النباتات الأخرى فحسب، بل سيتعداه إلى فهمنا للأمراض ولعملية التطور ذاتها في معظم الأنواع الحيّة الأخرى.
يعلّق العالم ديتليف فيجل، المشارك في الفريق البحثي «هذا يعني أنه بإمكاننا التنبؤ بالجينات المرجح أن تتعرض لطفرات أكثر من سواها، وهذا سيعطينا فكرة أوضح عمّا يجري … هذا الأمر مثير جدًا، لأننا سنتمكن من استخدام هذه الاكتشافات لحماية جينات الإنسان من الطفرات».
تشير هذه النتائج، إلى أن الانتقاء الطبيعي قد حرف احتمالية نشوء الطفرات في جينوم الكائن الحي. وبينما ما زلنا نستطيع القول إن الطفرة الواحدة تحدث عشوائيًا دون أي اعتبار لنتائجها إن أثرت إيجابًا أو سلبًا في بقاء هذا الكائن، فإن موضع حدوث الطفرات في جينوم الكائن الحي يضمن إلى حد ما بقاء الكائن الحي منذ بداية تشكل هذه الطفرات، وذلك بحدوثها في أماكن محددة وحتى قبل أن تخضع هذه الطفرة -ومن ثمّ الصفة الناتجة عنها- لاختبارات البيئة والانتقاء الطبيعي.
اقرأ أيضًا:
الطفرات الجينية، أسبابها وآليات حدوثها
من أين تأتي الجينات الجديدة الناجمة عن الطفرات؟
ترجمة: محمد شبو
تدقيق: آلاء رضا
مراجعة: محمد حسان عجك