يستعمل العلماء الحقول المغناطيسية القوية التي يولدها أكبر محطم ذرات في العالم للبحث عن أحد أكثر الجسيمات المحيرة على الإطلاق: «أحاديات القطب المغناطيسي»، وهي جسيمات مفترضة لها قطب مغناطيسي واحد، شمالي أو جنوبي، لكن لم تسبق رؤيتها.
تصف دراسة منشورة حديثًا، أحدث التجارب التي أُجريت باستعمال أداة كاشف أحاديات القطب المغناطيسي والجسيمات الغريبة في مصادم الهادرونات الكبير، التي رُكبت عام 2015. لم تجد الأداة حتى الآن أيّ جسيم من أحاديات القطب المغناطيسي، لكن ربما يرجع ذلك إلى أن التجارب السابقة للأداة كانت تبحث عن أحاديات القطب المغناطيسي الناتجة من تصادم جسيمات كالبروتونات والنيوترونات.
يقول بروفيسور الفيزياء النظرية في الكلية الإمبراطورية في لندن، المؤلف المشارك في الدراسة، آرتو راجانتي: «أدركنا وجود آلية مختلفة لإنتاج أحاديات القطب المغناطيسي، لا تعتمد على تصادم الجسيمات الأولية».
تبحث أحدث التجارب عن أحاديات الأقطاب المغناطيسية الناشئة عن ما يُسمى «آلية شوينغر» في الحقول المغناطيسية القوية. إذا كانت أحاديات الأقطاب المغناطيسية موجودة حقًّا، فستنشئُها هذه الآلية على هيئة أزواج من جسيمات ذات أقطاب متعاكسة، أحدها ذو حقل مغناطيسي شمالي والآخر جنوبي، يتحركان باتجاهين متعاكسين، وهما مستقلان تمامًا عن بعضهما فيما عدا ذلك.
سُميت الآلية تيمنًا بالفيزيائي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل، جوليان شوينغر، الذي وضع عام 1951 نظرية تقول إن الحقول الكهربائية القوية تنتج جسيمات مشحونة كهربائيًّا. بدا منذ ذلك الحين أن الحقول الكهربائية تنتج أزواج إلكترون-بوزيترون، لذا يفترض العلماء أن حقلًا مغناطيسيًّا قويًّا سينشئ على نحو مشابه أزواجًا من أحاديات الأقطاب المغناطيسية، التي تُعد النظائر المغناطيسية للإلكترونات والبوزيترونات.
تسمح آلية شوينغر للعلماء أن يحسبوا بدقة عدد أحاديات القطب المغناطيسي ذات كتلة وشحنة مغناطيسية معينة، التي سينتجها حقل مغناطيسي معلوم القوة. قاد راجانتي حسابات الدراسة الأخيرة، ومع أن التجارب لم تجد أيًا من أحاديات القطب المغناطيسي حتى الآن، فقد مكنت الحسابات الفريق من تضييق نطاق البحث، باستبعاد احتمالية امتلاك أحاديات القطب المغناطيسي كتلة منخفضة جدًا أو شحنة مغناطيسية أقل من حد معين.
يقول المؤلف الرئيس للدراسة إيغور أوستروفسكي، عالم الفيزياء الجسيمية في جامعة ألاباما، إن أحاديات القطب المغناطيسي تظهر في عدد من النظريات التي تسعى لتجاوز حدود النموذج المعياري للفيزياء الجسيمية، الذي يصف ثلاثًا من القوى الأساسية الأربعة المعروفة، إضافةً إلى الجسيمات الأولية المعروفة الـ 31، ومنها بوزون هيغز.
يقول أوستروفسكي: «تدفعنا أسباب قوية للاعتقاد بأن النموذج المعياري للفيزياء لا يفسر كل شيء. توجد مؤشرات وأدلة جيدة توحي بأن أحاديات القطب المغناطيسي قد تكون موجودة، وتستحق عناء البحث».
لكن حتى الآن، يقتصر وجود أحاديات القطب المغناطيسي على النظريات.
تُعد ظاهرة المغناطيسية من المسلمات، فهي ما يلصق المغانط على باب الثلاجة، وينتج عنها توليد الكهرباء في العنفات، لكنها لا تنتج عن أحاديات القطب المغناطيسي، بل تنتج عن الدوران الكمومي للجسيمات تحت الذرية في المادة، أو عن التيارات الكهربائية. تلك العمليات تنتج دائمًا ثنائيات أقطاب مغناطيسية، أي مغانط ذات قطبين جنوبي وشمالي يستحيل فصلهما.
لا يمكن توقع النتائج التقنية لاكتشاف أحاديات القطب المغناطيسي، لكن سيكون لها وفقًا لأوستروفسكي «تأثير يغير قواعد الفيزياء، إذ ستؤكد وجود قوانين للطبيعة لا تتطرق إليها النظريات الفيزيائية السائدة حاليًّا».
تفحّص الباحثون كواشف أحاديات القطب المغناطيسي والأجسام الغريبة في مصادم الهادرونات الكبير، بعد أن أُدخلت المليارات من نوى الرصاص إليه عام 2018، لتمكين الفيزيائيين من دراسة بلازما كوارك-غلون التي تنشأ عند تصادم الشوارد الضخمة.
أوضح راجانتي أن تقارب نوى الرصاص بين حين وآخر في مصادم الهادرونات الكبير لدرجة التصادم الوشيك، يولد لوهلة أقوى الحقول المغناطيسية على الأرض -وربما في الكون- إذ بلغت قوة هذه الحقول 10,000 ضعف الحقول المغناطيسية على سطح النجوم النيوترونية الدوارة التي تُعرف بالنجوم المغناطيسية. مع أن تلك الحقول استمرت أقل من 24-^10 من الثانية، فقد كانت أقوى بعشرة ملايين مرة من الحد الأدنى الذي يتطلبه توليد أحاديات القطب المغناطيسي –بافتراض وجودها- بآلية شوينغر.
يأمل الفريق احتجاز أحاديات القطب المغناطيسي المستقرة في كاشف أحاديات القطب والأجسام الغريبة، الذي يتألف من قوالب ألمنيوم يبلغ وزنها 800 كيلوغرام، إذ فُكّكت القوالب بعد عملية تشغيل مصادم الهادرونات، ومُررت عبر حلقة مغناطيسية فائقة التوصيل، للتحقق من وجود أي أحادي قطب مغناطيسي، لكن لم يوجد أيّ منها، وقد استبعد العلماء احتمالية أن تكون أحاديات القطب المغناطيسي أخف من نحو 75 ضعف كتلة البروتون، مع أقل من ثلاث وحدات قاعدية للشحنة المغناطيسية. خطوتهم التالية هي إعادة التجارب بعد تعديل أداة الكشف، لكشف أحاديات القطب المغناطيسي ذات الوزن الأثقل والشحنة المغناطيسية الأكبر.
يُبرِز بحث أداة كاشف أحاديات القطب والأجسام الغريبة في مصادم الهادرونات الكبير، اختلافًا في المصطلحات بين علماء الفيزياء الجسيمية وعلماء فيزياء المادة المتكثفة، إذ ذكر باحثون عام 2019 إنهم صوروا أحاديات قطب مغناطيسي ظهرت تحت ظروف خاصة في مادة مغناطيسية منخفضة الحرارة، في مختبر لورانس بيركلي في كاليفورنيا.
في حين تخلق أحاديات القطب لدى أداة كشف أحاديات القطب والأجسام الغريبة، حقلًا مغناطيسيًّا جنوبيًّا أو شماليًّا، فإن أحاديات القطب في بيركلي لن تفعل ذلك، فهي ليست أحاديات القطب المغناطيسي المنشودة، بل نظائر رياضية لأحاديات القطب المغناطيسي، أو جسيمات افتراضية تُعرف باسم «أشباه الجسيمات». ولما كانت تتصرف تمامًا كجسيمات ذات شحنة مغناطيسية، فقد يساعد ذلك على معرفة كيفية تصرف أحاديات القطب المغناطيسي الحقيقية.
يقترح الباحث غير المشارك في الدراسة ستيفن بلانديل، عالم فيزياء المادة المتكثفة في جامعة أوكسفورد، أن أشباه جسيمات أحاديات القطب المغناطيسي قد تكون أقرب ما سنجده يومًا من أحاديات القطب المغناطيسي الفعلية. وقال: «لم تفلح عمليات البحث عن أحاديات القطب المغناطيسي في إيجاد أيّ منها، وليست هذه الدراسة الجديدة المذهلة استثناءً، فلعل هذه الجسيمات غير موجودة أساسًا».
ومع أن نظائر أحاديات القطب من أشباه الجسيمات لا تخالف النموذج المعياري للفيزياء الجسيمية، فقد تُظهِر كيفية تصرف أحاديات القطب المغناطيسي في ظل ظروف مختلفة. يضيف بلانديل: «مع أن هذه الجسيمات ليست أحاديات القطب المغناطيسي التي يبحث عنها علماء الفيزياء الجسيمية، فمن الممكن دراستها في سياق التجارب».
اقرأ أيضًا:
صناعة المغناطيس الأنحف: مغناطيس ثنائي الأبعاد بسمك ذرة واحدة
ترجمة: إيهاب عيسى
تدقيق: عبد الرحمن داده
مراجعة: أكرم محيي الدين