ماذا تعلمنا من آدم سميث؟ قد تظن إن الإجابة عن هذا السؤال باتت واضحة بما أنه لم يكتب سوى كتابين منذ 300 عام، ولكن الأمر ليس بتلك البساطة، لا سيما أننا لا نعلم الكثير عن الفيلسوف والاقتصادي الإسكتلندي الذي كثر تأويل كتاباته التي لم تُنشر كاملة، إذ حرق آدم سميث جميع كتاباته غير المنشورة وهو على فراش الموت (كان تصرفًا شائعًا آنذاك).
ولد آدم سميث في بلدة كيركالدي التي تقع على الساحل الإسكتلندي الشرقي، وكان والده قاضيًا ولكنه توفي قبيل ولادة ابنه، ويبدو أن آدم سميث كان مثقفًا، ونادرًا ما يُرى دون كتاب في يده، ولكن كان في سوق المدينة قاعدة أثرت فيه مبكرًا، فكان بعض مالكي الأراضي معفيين من دفع رسوم عبور جسر كيركالدي ورسوم الأكشاك في السوق بسبب نظام الحكم الملكي في المدينة، ما منحهم ميزة تنافسية تفوقوا بها على منافسيهم، ما لم يرق لآدم سميث في بداية شبابه.
افترق آدم سميث عن والدته عندما كان عمره 14 عامًا ليدرس الفلسفة الأخلاقية في جامعة غلاسكو، وكان ذلك قبل إكماله للدراسات العليا في العلوم الميتافيزيقية في كلية باليول بجامعة أوكسفورد، وبعدها قضى حياته في الدراسة والتعليم والكتابة في مجالات مختلفة، مثل الفلسفة واللاهوت والفلك والأخلاق والتشريع والاقتصاد السياسي، وقضى معظم مسيرته في التدريس في إدنبرة وغلاسكو، وذهب إلى لندن وفرنسا عدة مرات ليعمل مدرسًا شخصيًا.
ثروة الأمم، أشهر ما كتب آدم سميث
نشر آدم سميث كتابين في حياته، هما «نظرية المشاعر الأخلاقية» عام 1759 و«بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها» عام 1776، وهو كتاب من مجلدين يحتويان على ما يقارب 700 صفحة قضى 17 عامًا في كتابتها.
كانت المدرسة التجارية (أو الميركانتيلية) المدرسة السائدة في الاقتصاد آنذاك، ورأت تلك المدرسة قوة الاقتصاد فقط في كمية الذهب التي تحتاجها الدولة لشراء حاجياتها، ولم تمنح كيفية إنتاج البضائع (سواء المدخلات المادية أو الحافز البشري) الاهتمام الكافي، ولكن رأى آدم سميث أن الحافز منبع السلوك الاقتصادي، وعدَّه الأساس الذي يصنع كل الأهداف ويخدم المصالح المشتركة للجميع، ويقول: «لا نأكل الغداء بسبب كرم الجزار وصانع المشروب والخباز، بل بسبب سعيهم لخدمة مصالحهم».
ما تزال ملاحظة آدم سميث لكيفية تنظيم العمل من أجل زيادة الإنتاجية إحدى أهم مساهماته سارية المفعول في علم الاقتصاد، وما تزال زيادة الإنتاجية أهم نقطة تدرسها الدول بهدف النمو، وعلى سبيل المثال، ناقش مؤخرًا لاري فيك، مدير شركة الاستثمار العملاقة بلاك روك إمكانية تحسين الذكاء الاصطناعي للإنتاجية.
ميدان المعركة
يعد ثروة الأمم كتابًا انتقائيًا، أو «لا يمكن فهمه» وفق مدير معهد آدم سميث، ويجادل سميث في سوء العبودية والإقطاعية ووجوب النمو الاقتصادي وإخراج الناس من مشكلة الفقر.
يرى سميث أن الرواتب المرتفعة والأرباح المنخفضة أمر جيد، ويحذر من قضايا مثل المحسوبية وإفساد الشركات للسياسة والإمبريالية وعدم المساواة واستغلال العمال، وذلك بعد دراسته شركة الهند الشرقية التي كانت بمثابة شركة آمازون آنذاك، وحذر سميث من أن تصبح الشركات «أكبر من أن تفشل».
يقتبس اليمينيون مصطلح «اليد الخفية» من كتاب ثروة الأمم ليدعموا آرائهم، ولكن لم يظهر هذا المصطلح (الذي أخذه آدم سميث من مسرحية ماكبث للكاتب ويليام شكسبير) سوى مرة واحدة في ثروة الأمم، ويصف هذا المصطلح إمكانية السوق الحرة لجمع الباعة والشراء بنحو سحري دون الحاجة لتدخل حكومي، ولكن أصبح لهذا المصطلح معنى آخر مؤخرًا، ويعده أنصار مدرسة شيكاغو مثل ميلتون فريدمان وجورج ستيغلر مصطلحًا يصف الأسعار، التي تحدد ما يريد المنتجون إنتاجه والمشترون شراءه، وسيؤدي أي تدخل حكومي يتعلق بتحديد الأسعار أو القوانين المتعلقة بها إلى تخريب هذه الآلية ولذلك يجب تجنبه.
كان رونالد ريغان ومارغريت تاتشر من أتباع تلك المدرسة، ودفع الرئيس الأسبق للولايات المتحدة رونالد ريغان شعبه في خطاب ألقاه عام 1988 إلى الشعور بالامتنان إزاء الازدهار الناجم عن التجارة الحرة، وجادل في أن كتاب ثروة الأمم حسم حماقة السياسة الحمائية إلى الأبد.
ومع ذلك، يجد اليساريون أيضًا أنفسهم يتشاركون الكثير من الأفكار مع آدم سميث، وغالبًا ما يقتبسون قلقه إزاء الفقراء في كتاب نظرية المشاعر الأخلاقية، إذ يقول: «مع أن ميلنا نحو الإعجاب بالأغنياء والأقوياء إلى درجة عبادتهم، واحتقار أو رفض الفقراء ومن يعيشون ظروفًا صعبة أمر ضروري لوضع الفروقات الطبقية وترتيب المجتمع والمحافظة عليه، ولكنه في الوقت ذاته أهم مسبب للفساد في مشاعرنا الأخلاقية وأكثرها شيوعًا».
واقتبس الرئيس الأسبق باراك أوباما من آدم سميث في أحد خطاباته عام 2013 بهدف رفع الحد الأدنى للأجور في الولايات المتحدة المقولة الآتية: «سيحصل الذين يطعمون ويكسون ويسكنون مجمل شعبهم على نصيب من عملهم يكفي لكي يحصلوا على طعام وكساء وسكن جيدين».
الدول والانتهاكات
تكمن الحقيقة في أن كتب آدم سميث تحوي ما يكفي من الأفكار والتناقضات لينتقي منها كل طرف ما يعجبه، ولكن توجد فكرة بالغة في الإقناع طرحتها الاقتصادية ماريانا مازوكاتو، وهي أن العديد ممن يدعمون سياسات الانفتاح يسيئون فهم أفكار آدم سميث حول السوق الحر، ما قد يعود إلى أحكام الزمن الذي عاش فيه آدم سميث، فحينها كانت شركة الهند الشرقية مسؤولة عن 50% من التجارة العالمية، بالإضافة إلى أنها كانت تعمل وفق ميثاق ملكي منحها احتكار التجارة الإنكليزية في سائر مناطق آسيا والمحيط الهادي، لدرجة أنه كان لها جيشها الخاص.
قدَّم آدم سميث رؤية مختلفة لاقتصاد المملكة المتحدة تتضمن استبدال الشركات الاحتكارية المدعومة حكوميًا بشركات تتنافس فيما بينها في سوق «حرة»، ومن شأن الابتكار والمنافسة أن يولدا فرص العمل ويخفضا الأسعار والمساهمة في تخفيض درجات الفقر المروعة في المناطق الحضرية آنذاك، هذه هي الرأسمالية التي أثبتت صواب كلام آدم سميث.
تجادل مازوكاتو في أن آدم سميث لم يقصد تحرر السوق من الحكومة عندما تحدث عن السوق الحر، بل عن تحرره من الريع ومن اقتطاع القيمة من قبل النظام، يمكن تشبيه هذه الحالة في عالمنا الحالي في شركات التكنولوجيا العالمية مثل آمازون وآبل وميتا، التي تتلاعب على الحكومات بهدف تخفيض قسوة التشريعات والضرائب، ما لا يشبه السوق الحر الذي تخيله آدم سميث، ومن المرجح أنه كان ليكون من مؤيدي قضية مكافحة الاحتكار التي رفعها الاتحاد الأوروبي ضد غوغل لو كان حيًّا اليوم، ومن يظن أن آدم سميث استبعد دور الحكومة من إدارة الاقتصاد، عليه أن يتذكر كيف قضى آدم سميث أعوامه الأخيرة، عاملًا في جباية الضرائب.
اقرأ أيضًا:
خبيرة اقتصادية تتحدث عما يحدث في الاقتصاد العالمي
هل نحن على أعتاب نموذج إنتاجي ثوري جديد؟
ترجمة: كميت خطيب
تدقيق: لبنى حمزة