إن البقاء في الكهف لمدة عام ونصف أشبه بكابوس لكثير من الناس، ولكن السيدة الرياضيّة الإسبانيّة «بياتريس فلاميني» ظهرت بابتسامة مبهجة، وقالت: «أظنّ أنني أمتلك الوقت الكافي لإنهاء كتابي». لم تمتلك بياتريس فلاميني أي وسيلة اتصال مع العالم الخارجيّ عندما كانت تعيش في الكهف، وكان بقاؤها لمدة 500 يوم إنجازًا مثيرًا للإعجاب، إذ سخّرت تجربتها لمساعدة العلماء على فهم آثار العزلة الشديدة على الإنسان.
ظهرت أُولى نتائج العزلة في تاريخ 12 أبريل عام 2022، عندما خرجت فلاميني من الكهف، إذ تبيّن للعلماء مدى مرونة الوقت، وكيف ترتبط بسمات الشخص، وسمات الأشخاص من حوله، وليس بصوت عقارب الساعة فقط.
عندما تحدثت فلاميني إلى المراسلين عن تجربتها، قالت: «فقدتُ إحساسي بالوقت، إذ كان مرور الوقت سريعًا لدرجة أنّه عندما جاء فريق الدعم لإنقاذي، فُوجِئتُ بأن وقتي هنا قد انتهى، وكنت أظنّ أني أمضيت 160 أو 170 يومًا فقط».
لماذا فقدت فلاميني إحساسها بالوقت؟
قد تؤثر أفعالُنا وعواطفُنا بقوة في الطريقة التي تُعالِج بها أدمغتنا مرور الوقت.
يُعد شروق الشمس وغروبها مؤشرًا لمرور الأيام عند معظم الناس، وهم يقضون وقتهم بالعمل والروتين الاجتماعي. لذلك، عندما يكون الشخص في كهف مظلم تحت الأرض من دون أحد، ستختفي عديد من الإشارات الدالة على مرور الوقت، لذلك اعتمدت فلاميني طرائق نفسيّة لمراقبة الوقت.
إحدى الطرائق التي نراقب بها مرور الوقت هي: الذاكرة
إذا كنّا لا نعرف مقدار الوقت الذي مضى في فعل شيء ما، فإننا نستخدم عدد الذكريات بصفتها مؤشرًا لمقدار الوقت الذي استغرقه الفعل في أثناء ممارسته، إذ كلما زاد عدد الذكريات، كان مقدار الوقت أطول.
عادة، تسترجع ذاكرة الإنسان الأيام المليئة بالأحداث الجديدة، وتحتفظ بها لفترة أطول من الأحداث الرتيبة أو العادية. لذلك، إن غياب نشاط فلاميني الاجتماعي، وقلة معلوماتها عن أحوال أسرتها، وقضايا مجتمعها مثل: الحرب في أوكرانيا، وعودة حركة المجتمع بعد الحجر والإغلاق الذي حصل بسبب جائحة كورونا، قد قلّل من عدد الذكريات التي كوّنتها في أثناء عزلتها.
أكدت فلاميني الأمر نفسه، إذ قالت: «ما زلت عالقة في تاريخ 21 نوفمبر 2021، لا أعرف أي شيء عن العالم منذ ذلك الوقت».
قد يعكس ضياع الوقت انخفاضَ أهمية الوقت في حياة الكهوف، إذ يُعد الانشغال في العالم الخارجي في أنماط الحياة الحديثة، والضغوط الاجتماعية لتجنب إضاعة الوقت، دليلًا على أن الكثير منا يعيش في حالة من الإجهاد الزمني؛ لأننا نعد الساعة مقياسًا لمدى إنتاجيتنا، ونجاحنا بوصفنا أشخاصًا بالغين.
بياتريس فلاميني ليستْ الوحيدة التي خاضت تجربة الإحساس بالوقت، إذ أُبلِغ عن تجربة مماثلة لعالم فرنسي يُدعى «ميشيل سيفر» في أثناء رحلاته الكهفية التي استمرت نحو شهرين إلى ستة أشهر في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
يوجد حالات مشابهة كثيرة لفقدان الإحساس بالوقت، مثل: الأشخاص البالغين والأطفال الذين قضوا فترات طويلة معزولين في مخابئ نوويّة لأغراض بحثية في ذروة الحرب الباردة، والسجناء الذين حُكِموا لوقت طويل، وعامة الناس في فترة الحجر الصحي بسبب الإغلاق الذي فرضته جائحة كورونا.
للمخابئ النوويّة والسجون وحتى الأوبئة العالمية ميزتان:
أولًا: تعزلنا عن العالم الخارجي الواسع.
ثانيًا: تضعنا في عوالم ذات مساحات ضيّقة؛ ما يجعلنا نشعر بتغيّر الوقت.
مع أن فلاميني عاشت مع جدول مذكرات فارغ لا يساعدها على تمضية الوقت؛ أي ليس فيه أي عمل تقوم به، ولا مواعيد تلتحق بها، ولا مذكّرات اجتماعية لتدوينها، فقد استطاعت امتلاك زمام الأمور؛ فكانت تأكل وتنام وتقرأ كما تحب، وشغلت نفسها بالرسم وممارسة التمارين وتوثيق تجربتها؛ ما جعل الوقت يمرّ دون أن تشعر.
عندما سيطرت الإيقاعات البيولوجية اليومية، مثل: النوم والعطش والهضم على حركة عقارب الساعة، قل اهتمام فلاميني مع مرور الوقت؛ ما جعلها تفقد الشعور بالوقت في النهاية.
قد تعززت قدرة فلاميني على التخلي عن الوقت أو نسيانه؛ بسبب رغبتها القوية في تحقيق هدفها لقضاء 500 يوم في الكهف، فهي من قررت الذهاب ويمكنها المغادرة إن أرادت ذلك.
أمّا الأشخاص المُحتجَزون ينعزلون رغمًا عنهم، فيصبح الوقت نفسه سجنًا لهم. إذ يرى أسرى الحرب والأشخاص الذين يقضون أيامًا طويلة في السجن أن مراقبة مرور الوقت قد يصبح هاجسًا، إذ يمر الوقت أكثر عندما لا نفكّر فيه.
تجعلنا تجربة فلاميني نفكر بأن ترك الحضارة سعيًا نحو حياة الكهوف تبدو فكرةً جذّابة، وإن الحياة تحت الأرض ليست لضعاف القلوب الضعيفة، بل يعتمد البقاء على قدرة الشخص في الحفاظ على مستوى عالٍ من المرونة العقلية.
إذا كانت لدى الشخص القدرة على التزام الهدوء في الأحوال الصعبة، والتحكم في سلوكياته الخاصة، والانخراط مع أفكاره بسهولة، فهو يمتلك فرصة للنجاح؛ لأن ذلك يُسمى «موضع التحكم الداخلي».
اقرأ أيضًا:
المواصلات المزدحمة تشعرنا بأن الوقت يمر أبطأ
هل تؤثر الجاذبية في سرعة مرور الوقت؟
ترجمة: تيماء القلعاني
تدقيق: دانا توفيق
مراجعة: عبد المنعم الحسين