يحصل معظم الأشخاص على معلوماتهم الطبية من الإنترنت، وتضفي هذه الحقيقة المقلقة أهميةً خاصة لأن تكون تلك المواقع الطبية قائمة على الأدلة، بمعلومات دقيقة متوازنة وحديثة. يؤثر أسلوب عرض الأدوية كثيرًا في أنماط وصفها، ويقدم تصورات عن مدى سلامتها، لكن سيصعب اعتمادها على أسس سليمة حال التقليل من تأثيراتها الضارة المعروفة أو عرضها بطرق خاطئة ومضللة.
من هنا جاءت أهمية الدراسة التي نُشرت حديثًا في (المجلة الدولية لمخاطر الأدوية وسلامتها)، فقد طبق الباحثان ماريان ديماسي وبيتر ك.غوتشي من جامعة كوبنهاغن، قائمةً مرجعية مكونة من 14 معيارًا محددًا سلفًا على مواقع إلكترونية بارزة من 10 دول مختلفة، توصف فيها مضادات الاكتئاب على نطاق واسع. طور الباحثان دراسةً مقطعية تبحث في فوائد هذه الأدوية ومضارها على مواقع إلكترونية من أستراليا وكندا والدنمارك وأيرلندا ونيوزيلندا والنرويج وجنوب أفريقيا والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة.
وجد الباحثان نمطًا ثابتًا عالميًا، لا سيما فيما يتعلق بحالة الانسحاب بعد وقف الأدوية المضادة للاكتئاب، والسلوك الانتحاري، والآثار الجانبية الجنسية وغيرها. يُعزى ذلك جزئيًا إلى رعاية شركات الأدوية وما يرتبط بها من ضغوط تجارية، وقد وُجد أن قائمة المواقع الإلكترونية المتضمنة لفوائد مضادات الاكتئاب وأضرارها يظهر تكرارًا تعارضها مع الأدلة العلمية.
بيَّن الباحثان ديماسي وغوتشي عبر تطبيق المبادئ التوجيهية لمراجع عالمية، أن هذه المواقع لم تستوف المعايير المقبولة للموافقة المسبقة أو الأدلة العلمية، بل إن المعلومات المضللة واسعة الانتشار التي أوردتها قد تؤدي إلى استخدام مفرط وغير ملائم لمضادات الاكتئاب، وتحد من احتمال سعي الأشخاص إلى خيارات أفضل كالعلاج النفسي.
صنف الباحثان المواقع الإلكترونية في 3 مجموعات، وفقًا لارتباطها بمؤسسات حكومية أو مجموعات مؤيدة أو منظمات استهلاكية، وقد راسلا المنظمات لاستيضاح المعلومات المتعلقة بالتمويل، وحصرا جميع مواقع الإنترنت التي تصنف فوائد مضادات الاكتئاب واستخداماتها.
يزعم موقع أسترالي أن 60-70% من الأشخاص يتعافون في غضون 6 – 8 أسابيع من تناول مضادات الاكتئاب، دون تقديم دليل على ذلك. ويزعم موقع آخر أن نحو 70% ممن يعانون الاكتئاب الشديد يشعرون بالتحسن مع استخدام أول نوع يوصف لهم من مضادات الاكتئاب.
يرجع 29 موقعًا (أي 74% من المواقع المذكورة في الدراسة) الاكتئاب إلى اختلال التوازن الكيميائي، وهي نظرية ثبت خطأها قبل أكثر من 10 سنوات، لكن المواقع تستمر في اقتراح إمكانية تصويبها. ويدعم عدد من مقدمي الرعاية الصحية الأمريكيين البارزين ذلك في موادهم الدعائية.
يذكر 23 موقعًا إلكترونيًا (59%) وجود ارتباط بين مضادات الاكتئاب والعجز الجنسي، وذلك مع الاعتراف الأوروبي الرسمي بحدوث خلل في الوظيفة الجنسية بعد تناول أدوية مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية ((SSRIs، وذكر موقع أيرلندي أن هذه الأدوية معروفة بتسببها في انخفاض الرغبة الجنسية، ونقص النشوة الجنسية، وخلل الانتصاب أو عدم القدرة على القذف.
ويزعم 22 موقعًا (56%) أن مضادات الاكتئاب قد تمنع نكس الاكتئاب عند المريض، وتنصح هذه المواقع بتناول الأدوية مدة 6-9 أشهر، بل إن بعض المواقع تقترح استخدامها مدى الحياة! وجاء في الموقع الإلكتروني الخاص بالكلية الملكية البريطانية للطب النفسي، خلافًا للاتفاق الأحدث، أنه حال واجه الشخص صعوبةً في إيقاف الدواء، فسيكون رأي الأطباء غالبًا أن الحالة الأصلية قد عادت على الأرجح.
يشير 25 موقعًا (64%) إلى أن مضادات الاكتئاب قد تؤدي إلى زيادة التفكير الانتحاري، لكن يحتوي 23 موقعًا منها معلومات خاطئة، وجاء في موقعين فقط (5%) أن خطر الانتحار يزداد لدى الأشخاص من جميع الأعمار، وحذر 28 موقعًا (72%) المرضى من آثار الانسحاب، ويذكر موقع واحد فقط أن استخدام هذه الأدوية قد يؤدي إلى الاعتماد.
فيما يتعلق بالانتحار، لاحظ الباحثان أنه رغم تعميم إدارة الغذاء والدواء سنة 2007 التحذير المتعلق بأدوية (SSRIs) ليشمل كل من تقل أعمارهم عن 25 عامًا، يقلل أحد المواقع من شأن هذا التحذير، زاعمًا أن الانتحار كان نادرًا ولم يلاحظ إلا في من تقل أعمارهم عن 18 عامًا. ورغم كثرة الدراسات التي تدعم تحذير إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، صرحت الكلية الملكية البريطانية للطب النفسي: «لا يوجد دليل واضح على زيادة خطر إيذاء المريض نفسه أو وجود أفكار انتحارية لدى البالغين بعمر 18 عامًا أو أكثر». ويؤكد الباحثان استنادًا إلى الأدلة المتاحة، أن جميع مضادات الاكتئاب غير آمنة للأطفال.
يبدو أن الدراسة جاءت في الوقت المناسب، عقب ظهور تحليل مماثل شديد اللهجة في العدد السابق من المجلة، وقد خلصت الدراسة إلى أن الاستخدام طويل الأمد لمضادات الذهان والاكتئاب لا يستند إلى أدلة.
وفيما يتعلق بالمشكلة المنتشرة المتمثلة في أحجام التأثيرات المبالغ فيها، والتجارب السريرية غير المتقنة، إضافةً إلى النتائج التي استُبدلت أو فُسرت ذاتيًا، استنتج غوتشي أن الاستخدام واسع النطاق للأدوية النفسية لا يستند إلى أدلة، لكن يبدو أن الضغوط التجارية هي ما يحركه أساسًا.
في خضم هذه التحذيرات وما يشابهها، بشأن الإفراط في وصف مضادات الاكتئاب من زمرة مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، وبسبب القلق المرتبط بفيروس كورونا الذي يؤثر في العالم أجمع، من المهم أن نتذكر أن مرض كوفيد-19 لا يُعَد أزمةً صحية عقلية رغم كونه جائحة. توضح الطبيبة لوسي جونسون قائلة: «من الطبيعي أن تشعر بالخوف، لكن من الخطأ أن ننظر إلى مخاوفنا الطبيعية أنها اضطرابات عقلية».
وتضيف وكالة الصحة العامة في إنجلترا: «ليس من الصحيح ولا من المفيد أن نعد ردود الأفعال الحالية أزمةً صحية عقلية». ويقول مجلس المملكة المتحدة للطب النفسي: «إن القلق والمزاج السيء والذعر والخوف والارتباك تجاه تهديد حقيقي استجابات منطقية إلى حد بعيد».
اقرأ أيضًا:
الاكتئاب: الأسباب، والأعراض، وطرق العلاج
الاكتئاب بين الحقائق والخرافات
ترجمة: سارة إيليا وسوف
تدقيق: فارس سلطة
مراجعة: أكرم محيي الدين