في ظل التحديات التي تواجهها المناطق الحضرية في العالم جراء تغير المناخ، تقدم سان دييغو وميلان وجاكرتا دروسًا في كيفية التكيف مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب.

رغم فخامة مظهر الواجهات الرخامية والشوارع الضيقة لمدينة ميلان، فإن كل هذه الصخور تبعث الحرارة ولا تمتص مياه الأمطار التي من المتوقع أن تزداد في المدينة الإيطالية في العقود القادمة.

في جاكرتا، تتسرب مياه الفيضانات إلى المنازل القريبة من أنهار إندونيسيا المتعددة كل شتاء. هذه المياه ملوثة بمياه الصرف والأمراض، والكثير من الناس لا يمكنهم الانتقال إلى مكان أفضل، وعما قريب سيتسبب تغير المناخ بإغراق جاكرتا والمدن المنخفضة الأخرى تحت سطح البحر.

تعد المياه مصدرًا غاليًا في منطقة سان دييغو القاحلة، ومع تزايد الجفاف خلال السنوات القادمة يصبح الحفاظ على هذا المصدر بالغ الأهمية.

يسبب التغير المناخي تغيير الأنماط المناخية حول العالم، في بعض المناطق يسبب الفيضانات، والجفاف في مناطق أخرى. يجب اتخاذ قرار عالمي بالحد من استهلاك الوقود الأحفوري لتقليل درجات الحرارة والسيطرة على مخاطر التغير المناخي.

بدأت بعض المدن بالتحرك بالفعل، إذ زرعت مدينة ميلان ملايين الأشجار، وبدأت إندونيسيا نقل عاصمتها، في حين تقوم سان دييغو بإعادة تكرير مياه الصرف الصحي لتكون صالحة للشرب.

وضعت كل من هذه المدن خارطة طريق ما يمثل درسًا لبقية المناطق حول العالم. بالطبع لا يوجد حل واحد قاطع، لكن الخطط تقدم رؤى واعدة عن كيفية التكيف والازدهار في ظل تغير المناخ.

في ميلان، تعمل المدينة على زراعة الأشجار في الأنحاء كافة. قالت ماتيلدا بوش الباحثة في المعهد الأوروبي للغابات: «أظنه نموجًا ناجحًا يجب على المدن الأخرى الاقتداء به».

ترتفع درجات الحرارة في ميلان 4° – 8° درجات عن المناطق المحيطة. لأن المباني والطرق تمتص حرارة الشمس وتعيد بثها. تتوقع النماذج المناخية أن تزداد الأمور سوءًا، إذ من المتوقع أن ترتفع درجة حرارة المدينة 2.3° درجات إضافية بحلول عام 2050.

لمجابهة هذا الخطر أطلقت المدينة حملة تهدف لزراعة 3 ملايين شجرة بحلول 2030 وقد زُرع بالفعل 610 ألف شجرة خلال 2024.

المبادرة جزء من خطة مناخية أكبر تهدف للحفاظ على ارتفاع درجات الحرارة أقل من 2° بحلول 2050.

التشجير استراتيجية معروفة في المناطق العمرانية للحد من تغير المناخ، إذ تساعد الأشجار على تقليل درجة الحرارة بتوفير الظل وتقليل الرطوبة وامتصاص الحرارة.

وفقًا لدراسة أجريت في 2023 في لانسيت، يمكن أن تنقذ القباب الشجرية حياة الناس إذ تساعد على تخفيف وطأة موجات الحرارة.

أيضًا يساعد استبدال الأرصفة بالتربة في امتصاص مياه الأمطار وتقليل خطر الفيضان المتوقع أن تتعرض ميلان له في المستقبل نتيجة الأمطار الغزيرة.

لكن للتشجير حدود أيضًا، في 2023 قالت عضو مجلس المدينة إلينا جراندي إن عاصفة برد مفاجئة تسببت بتحطيم 5000 شجرة خلال 15 دقيقة فقط.

تقول جراندي: «اكتشفنا أنه من الضروري التخطيط للمناطق الخضرية وسط المدن بشكل مختلف، مثل زراعة أشكال خضرية متنوعة وأكثر مقاومة للعواصف أو القيظ والجفاف».

تعاني جاكرتا الفيضانات والجفاف في آن واحد. ارتفاع مستوى سطح البحر يشكل أزمة حقيقية للمدينة المنخفضة التي يتخللها 13 نهرًا بالفعل.

شيدت مدينة جاكرتا مجموعة من القنوات التي لم تكن ذات نفع في احتواء الأنهار، ومع تزايد تعداد سكان المدينة إلى الضعفين منذ التسعينيات فإن البنية التحتية تتدهور أكثر فأكثر.

أخبر ديدين روكمانا الخبير في التخطيط الحضري الاندونيسي أن مالكي المباني السكنية يحفرون آبارًا بشكل غير قانوني، لاستخدام المياه الجوفية لسد عجز المدينة عن توفير المياه للسكان.

تسبب هذا في جعل المدينة أحد أسرع مدن العالم غرقًا، حتى أن بعض المناطق تهبط بمعدل 10 سنتيمترات كل عام.

يضطر الناس لترك منازلهم بسبب الفيضانات، وبهذا المعدل فمن المتوقع أن يغرق 95% من الحي الساحلي في المدينة بحلول 2050.

لا يقتصر الخطر على الساحل فقط، إذ إن اجتماع تأثير ارتفاع مستوى سطح البحر وانخفاض المدينة قد يؤدي إلى غرق المدينة بالكامل بحلول عام 2100.

يقوم مخططو مدينة جاكرتا بالفعل ببناء السدود والمصبات بالقرب من الشاطئ. ويخططون تاليًا لبناء 17 جزيرة ستنشئ مجتمعةً جدارًا بحريًا ارتفاعه 24 مترًا وعرضه 40 كيلومترًا، وبحيرة اصطناعية لتساعد في حماية المدينة من فيضانات المد والجزر.

لكن يحذر الباحثون من أن الحائط البحري الضخم لن يمنع الفيضانات إذا استمر الضخ الزائد في زيادة الهبوط. قال روكمانا إن الجهود المبذولة لنقل الصناعات التي تستهلك كميات كبيرة من المياه تساعد في هذا الصدد.

ستحتاج العاصمة إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الآبار غير القانونية وإنشاء مصادر مياه بديلة، ما قد يستغرق سنوات. إضافة إلى إعادة ملء طبقات المياه الجوفية كما فعلت طوكيو.

توجد خطوة أخرى يمكن أن تخفف الضغط على المياه الجوفية في جاكرتا: النقل الجماعي.

عام 2019 أعلنت إندونيسيا عن خطط لنقل عاصمتها إلى مدينة جديدة تسمى نوسانتارا. وقد بدأ انتقال موظفي الخدمة المدنية إلى هناك في سبتمبر 2024.

يقول روكمانا: «دون أي تدخل، سيظل الناس ينتقلون إلى جاكرتا». لن تغير نوسانتارا الواقع على الفور، لكن قد تحدث العاصمة الجديدة فرقًا مع مرور الوقت. الهدف هو أن ينتقل 10,000 موظف حكومي مع الانتهاء من بناء نوسانتارا.

بالطبع لا تسير عملية النقل دائمًا حسب الخطة. يقول روكمانا إن بناء مدينة جديدة من الصفر مخاطرة كبيرة لكنها قد تؤتي ثمارها لإندونيسيا إذا ما وفرت مصدرًا جديدًا للتنمية في البلاد.

ما زال معظم نوسانتارا مجرد أرض خالية. مع ذلك يتصور المخططون مدينة ذكية مبنية حول وسائل النقل العام والأحياء المهيأة للتجول والكهرباء، مع أدوات رقمية قوية للإدارة. وهي صورة بعيدة كل البعد عن ازدحام جاكرتا المروري وتلوث الهواء.

تبدو خطط التشجير في نوسانتارا واعدة أكثر من أهداف ميلانو. ستقام المدينة الجديدة على أرض استُخدمت في السابق للزراعة الصناعية، وتهدف إلى إعادة تشجير 204,000 فدان من الغابات المطيرة. يعادل ذلك عشرات الملايين من الأشجار استنادًا إلى المعدل الحالي للتشجير في المدينة.

في حين تعاني جاكرتا المنخفضة من الفيضانات، تواجه سان دييغو الجفاف. من المتوقع أن تشهد المدينة التي تهطل فيها الأمطار أقل من 30 سم سنويًا حرًا أشد وأمطارًا أقل مع تفاقم التغير المناخي.

طرحت حكومة المدينة مبادرة المراحيض منخفضة الضخ للحد من استهلاك المياه في المنازل، التي ألهمت جهودًا مماثلة في جميع أنحاء البلاد. لكن سان دييغو لم تتوقف هنا.

تبع ذلك تنسيق المناظر الطبيعية ذات المياه المنخفضة وشراكة ترشيد المياه مع المناطق الزراعية الداخلية وكل وسيلة أخرى ممكنة على مدار ثلاثين عامًا الماضية.

نجحت سان دييغو في خفض نصيب الفرد من المياه إلى النصف، وخفض اعتمادها على المياه من لوس أنجلوس بنسبة أكبر من ذلك. ولكن الحفاظ على المياه في حد ذاته ليس كافيًا للتغلب على الجفاف.

لذا أنشأت هيئة المياه السدود لتخزين المزيد من المياه، وتبطين القنوات لمنع تسرب المياه من نهر كولورادو. وأنشأت مضخات لنقل المياه شمالًا داخل مقاطعة سان دييغو.

تحركت سان دييغو أيضًا لتعزيز إمدادات المياه المحلية، فاستثمرت في أكبر محطة لتحلية المياه في البلاد، التي توفر نحو 10% من مياه المنطقة.

لا تزال المدينة تبذل الجهود لمواجهة احتمال حدوث المزيد من الجفاف الناجم عن المناخ. تخطط المدينة وضواحيها لإعادة تدوير مياه الصرف الصحي إلى الصنابير. تريد سان دييغو إرسال مياه الصرف الصحي المنقاة مباشرة إلى إمدادات المياه الصالحة للشرب في المدينة، وهو نهج جديد في كاليفورنيا.

قد يبدو مستوى التنقية المطلوب شاقًا، لكنها أرخص من غيرها من وسائل إعادة تدوير النفايات. لذا تتوقع المقاطعة أن يأتي 18% من مياهها من المياه المعاد تدويرها بحلول عام 2045.

اقرأ أيضًا:

كيف يؤثر تغير المناخ في سرعة دوران الأرض؟

الفرصة الضائعة؛ عندما امتلكنا فرصة ذهبية لمحاربة تغير المناخ في عام 1971

ترجمة: إسراء أسعد

تدقيق: آلاء ديب

المصدر