يستخدم مختلف الناس رموزًا سرية لتشفير الرسائل السرية منذ أقدم العصور، فمن القادة العسكريين إلى الفتيات اللواتي يرتبن موعدًا حسب تعاليم الكاماسوترا، يقول مارك فراري مؤلف قصة الشفرات: «لم يتغير الهدف من استعمال الشفرات على مر العصور، إيصال الرسائل بطريقة لا يستطيع الأعداء فهمها»، نتناول في هذا المقال ثمان شفرات غيرت العالم.
1- سكايتيل
هي طريقة بسيطة وفعالة استخدمها الإسبرطيون لإيصال الرسائل المشفرة عبر المسافات الطويلة، وهي عود خشبي ملفوف بشرائط كتبت عليها الرسالة، حين تُزال الشرائط من عليه تكون الرسائل غير مقروءة، ولكن حين تُلف مجددًا على عود بنفس المحيط تصبح مقروءة.
وقد وصف طريقة الاستخدام بلوتارخ في القرن الأول، إذ وصف طريقة استخدام الاسبرطيين للسكايتيل: «يصنعون قطعتين مدورتين من الخشب متماثلتين بالطول والسُمك لتكونا متطابقتين تمامًا في الأبعاد، يحتفظون بواحدة لأنفسهم ويرسلون الأخرى مع مبعوثيهم …كلما أرادوا إرسال رسالة سرية أو مهمة كانوا يصنعون لفيفة طويلة وضيقة كحزام الجلد ويلفونها حول السكايتيل … يقرأ المستلم الرسالة المحيطة بالعصا ليكتشف تتمة الرسالة».
لكن كسر الشفرة يصبح سهلًا عند معرفة محيط السكايتيل، فصارت هذه الطريقة تستخدم حصرًا لنقل رسائل أقصر.
2- شفرة قيصر
تتضمن شفرة قيصر تغيير كل حرف في الرسالة بعدد معين من الحروف، استخدم الجنرال الروماني غايوس يوليوس قيصر طريقة الاستبدال هذه لمراسلة أصدقائه في روما حينما كان يعسكر في غاول. يقول الكاتب الروماني سويتونيوس عن قيصر «غيّر ترتيب الأحرف بطريقة معينة بحيث يصير من المتعذر فهم ولو كلمة واحدة. فمثلًا عليه وضع الحرف الرابع التالي -مثل دي بدل الحرف أي- وهكذا».
كان قيصر مولعًا باستخدام طرق تشفير متنوعة في مراسلاته لدرجة أن فاليروس بروبوس كتب بحثًا كاملًا عن طرق قيصر في العام الأول بعد الميلاد، فُقد النَّص بمرور السنين لكن وصلنا ما قاله قيصر نفسه عن حرب غيل، فقد وصف إرسال رسالة لشيشيرو المحاصرة باليونانية عوضًا عن اللاتينية «إن وجد أحد الرسالة، سيكتشف العدو خططنا» وتحسبًا لهذه الاحتمالية، ألصقوا الرسالة برمح وألقوه في معسكر شيشيرو حيث بقي هناك يومين في أحد الأبراج قبل أن يعثر عليه أحد.
3- شفرة البنائين الأحرار «فريماسون» أو «شفرة بيغبين»
استخدم الماسونيون في القرن الثامن عشر شفرة بيغبين لتشفير الرسائل، لكن عوضًا عن التبديل بين الأحرف، فإن الحروف وضعت بشكل شبكة واستخدمت الزوايا المتكونة بفعل خطوط الشبكة والمقترنة بسلسلة من النقاط لتمثيل الأحرف داخلها. وتعرف أيضًا بشفرة نابليون وشفرة تيك-تاك-تو.
يقول فراري: «صار الاستخدام الأول لهذه الشفرة طي النسيان، لكن البعض يقولون إن الحاخامات هم أول من استعملها لتشفير الرسائل بالعبرية». أول من ذكر شفرة بيغبين كان متعدد الثقافات الألماني هينريتش كورنيليوس أغريبا عام 1531 في ثلاث كتب تتعلق بفلسفة الغوامض، واستمر استخدامها مئات السنين، يقول فراري: «استخدمها البريطانيون في حرب الاستقلال ضد أمريكا، وصارت شفرة بيغبين أكثر شيوعًا في القرن الثامن عشر حين استخدمها البناؤون الأحرار، حتى أنهم صاروا يسمونها الشفرة الماسونية».
4- شفرة لويس الرابع عشر العظيمة
اخترعها أب وابنه -انطون وبونافينتور روسيغنول- ليستخدمها لويس الرابع عشر لإيصال رسائل سياسية حساسة وبالغة السرية، لم يستطع أحد كسر هذه الشفرة طوال مئتي عام. في حين استخدمت الشفرات السابقة 26 حرفًا -كما في الأبجدية، استخدمت الشفرة العظيمة 587 رقمًا لتمثل المقاطع الفرنسية عوضًا عن الحروف، ولتصعيب الأمر أكثر، أضيفت المزيد من الأرقام لترمز للحذف. وقد عملت محللة التشفير إيتيين بازيريس على فك تشفير إحدى أكثر رسائل ملك الشمس إثارة وتضمنت الهوية الحقيقية للرجل ذي القناع الحديدي.
5- شفرة عجلة جيفيرسون
استخدم الآباء المؤسسون -مثل توماس جيفيرسون وجيمس ماديسون وجون جيمس- شفرات لتشفير مراسلاتهم خلال الثورة الأمريكية، حتى أن جيفيرسون قد اخترع عدة شفرات خاصة به، وما ألهمه اختراع عجلة جيفيرسون هو عمله بوصفه السفير الأمريكي في فرنسا.
في عصر النهضة وظّف البلاط الأوروبي الديوان الأسود المكوّن من محللي الشفرات الذين يعترضون الرسائل الحساسة من مركز البريد، ينسخونها ويفكون رموزها ومن ثم يعيدون إرسالها. وللاحتيال عليهم اخترع جيفيرسون شيئًا يشبه المرقاق مغطى بالأحرف. تتكون الشفرة من 36 قرصًا خشبيًا على محور معدني وتتوزع الأحرف عشوائيًا على كل عجلة. يكتب المرسل جملة عادية على خط أفقي واحد وبينما تكون كل العجلات على هذه الحال، يكتب الشخص مجموعة أحرف عشوائية في خط أفقي آخر، ويرسل الأحرف العشوائية فقط للمستلم. حين يعيد المتلقي ترتيب سلسلة الأحرف على شفرتهم، سوف يتمكنون من إعادة صياغة الرسالة الحقيقية المقروءة.
وقد استخدم جيفيرسون مراسلاته المشفرة بعد أن أصبح رئيسًا أيضًا، فكان ذلك في مراسلاته مع سفير الولايات المتحدة إلى فرنسا روبرت ليفينغتون عام 1802، وفي 1803 أرسل شفرة الطاولة المربعة إلى ميريويذير في حملته مع ويليام كلارك ليستخدمها من أجل صفقة لويزيانا.
6- شفرة مورس
مع بداية القرن التاسع عشر تمكن الناس من إرسال الرسائل عبر مسافات طويلة بسرعة بفضل اختراع التلغراف، وابتكر المخترع الأمريكي سامويل مورس النظام الثنائي إذ تُستبدل الأحرف والأرقام بالنقاط، إذ يعمل موظفو التلغراف على تحويل رسائل عملائهم إلى شفرة مورس ويرسلونها عبر خطوط التلغراف إلى المحطات، حيث يُعاد تحويلها إلى نصوص.
لكن يوجد جانب سلبي كبير في هذا سلَّط عليه الضوء أحد الكتاب الإنكليز في 1853، إذ قال: «يجب اتخاذ الإجراءات المناسبة لهدف واحد كبير، فبينما يشعر الناس حاليًا بالاحترام لفكرة إرسال الرسائل الخاصة عبر التلغراف فهو يخرق كل السرية لأن بعض الناس على الأقل يكونون على علم بكل كلمة مكتوبة».
أدت مشكلة الخصوصية في التلغراف إلى عودة الاهتمام بالشفرات وإعادة تشكيل الشفرات القديمة. يقول فراري: «تضمنت شفرة مورس في كثير من الأحيان طرق تشفير أخرى، إذ تُشفّر الرسالة بالطريقة الأولى ثم تتحول إلى شفرة مورس من أجل المراسلة». فقد اعتمد الجيش الأمريكي مثلًا شفرة من فيجينير القرن الخامس عشر ليصنعوا شفراتهم الخاصة حين ينقلون رسائل حساسة.
7- إينيغما
تبدو آلة الإينيغما وكأنها آلة كاتبة لا سلاحًا، لكنها كانت إحدى أقوى الأدوات خلال الحرب العالمية الثانية بالنسبة للترسانة الحربية الألمانية. اخترعها آرثر شيربيوس عام 1918 لتشفير معلومات العمل، وصارت مشهورة في الحرب العالمية الثانية بوصفها طريقة جيدة لإيصال المراسلات السرية بين النازيين. لقد كانت سريعة وقابلة للحمل وعالية الأتمتة، فكانت تحول النص المطبوع إلى شفرة تلقائيًا ثم يُنقل بالراديو. يطبع المستلم الرسالة المشفرة في آلة الإينيغما الخاصة به وتُظهر الآلة تلقائيًا الرسالة دون تشفير.
كانت عالية السرية لأن كل إينيغما امتلكت خمسة أقراص تشويش بحروف الأبجدية بحلول 1938، ما يعني أن كل رسالة تُعترض، لها أكثر من 150 مليون ترليون تشكيلة لتجريبها. واستخدم الجيش الألماني كتيبات الرموز اليومية لضبط الآلات المرسلة والمتلقية على نفس الإعدادات كل 24 ساعة.
يقول فراري: «فك الشفرة يدويًا مستحيل تقريبًا، ومع ذلك تمكن مفككو الشفرات البولنديون من ذلك في البداية، لكن حين صارت آلات الإينيغما أكثر تعقيدًا أُجبر مفككو الشفرات في بلتشلي بارك في المملكة المتحدة -ومنهم آلان تورنغ- على تطوير آلة بومب للمساعدة على فك الشفرات، ثم أحد أوائل أجهزة الحاسوب الكولوسوس».
مع نهاية الحرب فُك تشفير أكثر من مليوني رسالة ونصف، ولتجنّب إعلان الاستخبارات العسكرية البريطانية قدرتهم على فكها، اخترع القسم السادس (MI6) جاسوسًا باسم بونيفيس ليكون المصدر المزعوم للمعلومات التي اعترضوها.
8- متحدثو كود نافاهو
حين أرادت القوات البحرية صنع شفرة غير قابلة للكسر خلال الحرب العالمية الثانية، قررت بناءها على لغة معقدة شفوية غير معروفة على نطاق واسع، فاختيرت نافاهو، وعُرف أعضاء أمة نافاهو الـ 29 الموظفين لصنع الشفرة معروفين باسم «متحدثو كود نافاهو»، وقد شاركوا في كل عملية بحرية خلال حرب المحيط الهادئ، وساهمت الشفرة بانتصارات كبيرة ضد اليابانيين كما في معركة أيوجيما.
يقول فراري: «بعد الحرب، اعترف رئيس المخابرات الياباني أنهم تمكنوا من فك شفرة قوة الولايات المتحدة الجوية، لكنهم فشلوا فشلًا ذريعًا في فك شفرة نافاهو». لم يستطع أحد فك الشفرة خلال الحرب، ولم يتم الإعلان عن هذا البرنامج السري إلا عام 1968.
لم يكن النافاهو أول سكان أمريكا الأصليين الذين قرروا مساعدة قوات أمريكا بواسطة مهاراتهم اللغوية، ففي الحرب العالمية الأولى استخدمت خمس قبائل مختلفة على الأقل -مثل تشوكتاو- لغاتهم الأم لمساعدة الاستخبارات.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: زينب العزاوي
تدقيق: محمد حسان عجك