إذا سافرت عبر ثقب أسود، إلى أين سيقودك؟ تخيل أنك ستقفز في ثقب أسود، ما الذي ينتظرك إذا نجوت بطريقة ما رغم صعوبة ذلك؟ إلى أين سينتهي بك المطاف؟ ما هي المغامرات التي سترويها إن استطعت العودة؟ يوضح الأستاذ ريتشارد ماسي الباحث في الجمعية الملكية في معهد علم الكونيات الحسابي، مجيبًا عن كل هذه الأسئلة ومدركًا عمق ألغاز الثقوب السوداء: «إن السقوط في أفق الحدث يشبه عبور الحاجز الذي فور أن يتخطاه أحد لن يتمكن من التواصل معنا أبدًا، لكن لا أظن أن من يسقط فيه سيذهب إلى مكان ما، إذ ستمزقه الجاذبية الهائلة إلى أشلاء».
من المؤكد أن هذه الإجابة مخيبة للآمال ومؤلمة، منذ أن توقعت نظرية النسبية العامة لأينشتاين وجود الثقوب السوداء بربط الزمكان بالجاذبية، أصبح معروفًا أن الثقوب السوداء تنتج عن موت نجم ضخم وتحوله إلى نواة صغيرة ذات كثافة عالية، إذا كانت كتلة هذه النواة تقريبًا نحو ثلاث أضعاف كتلة الشمس، فإن قوة الجاذبية ستطغى عليها حتى تنهار كتلتها في نقطة واحدة هي المفردة، وهي نواة ثقب أسود ذات كثافة لانهائية.
الثقب الأسود الناتج غير قابل للحياة، فحتى الضوء لا يستطيع أن يفلت من قوة جاذبيته، لذا لو وجدت نفسك في أفق الحدث -نقطة اقترحها عالم الفلك الألماني كارل شوارزشيلد، لا يمكن أن يفلت منها الضوء وكل المواد- فلا مفر إذًا وفقًا لماسي، إذ ستحول قوى المد والجزر جسمك إلى خيوط من الذرات كالسباغيتي، إلى أن يُسحق جسمك في النهاية عند وصولك إلى نقطة التفرد. إذن تبدو فكرة دخول الثقب الأسود والخروج إلى مكان ما على الجانب الآخر ضربًا من الخيال.
ماذا عن الثقب الدودي؟
طالما بحث العلماء احتمالية كون الثقوب السوداء ثقوبًا دودية تقودنا إلى مجرات أخرى، أو حتى إلى عالم آخر.
تعاون أينشتاين مع ناثان روزن سنة 1935 لوضع نظرية لجسور تربط بين نقطتين مختلفتين في الزمكان، كانت هذه الفكرة سائدة لبعض الوقت، واكتسبت بعض المصداقية العلمية في الثمانينيات عندما أثار الفيزيائي كيب ثورن مناقشة حول: هل تنتقل الأشياء عبر هذه الجسور حقًّا أم لا؟
يقول ماسي: «تحمست لأول مرة لدراسة الفيزياء عندما كنت صغيرًا بعد قراءتي لكتاب كيب ثورن المشهور عن الثقوب السوداء، لكن للأسف يبدو أنه لا يرجح وجود هذه الثقوب الدودية».
كتب ثورن في كتابه «العلم بين النجوم»: «لا نرى أي أجسام في كوننا قد تتحول إلى ثقوب سوداء مع تقدمها في العمر». وقال إن الرحلات عبر هذه الأنفاق النظرية ستبقى على الأرجح مجرد خيال علمي، والمؤكد أنه لا يوجد دليل قطعي على إمكانية المرور عبر ثقب أسود.
لكن المشكلة الأخرى هي أنه لا يمكننا الاقتراب منه لمعرفة ما يحدث بداخله ولا حتى التقاط صورة له، فحتى الضوء بسرعته الكبيرة لا يمكنه الإفلات من جاذبيته الهائلة، أي إن الكاميرا لن تلتقط شيئًا، فاستنادًا إلى نظرية الثقوب السوداء، أي شيء يتجاوز أفق الحدث يصبح جزءًا من الثقب الأسود، إضافةً إلى أنه بسبب تشوه الزمن بالقرب من هذه الحدود سيحدث كل شيء ببطء شديد، لذا لن نصل إلى أي إجابات بسرعة.
يقول دوجلاس فينكباينر أستاذ علم الفلك والفيزياء بجامعة هارفارد: «الاعتقاد الشائع هو أن الثقوب السوداء تقودنا إلى نهاية الزمن، لن يرى مراقب بعيد صديقه رائد الفضاء وهو يسقط في ثقب أسود، بل سيراه أكثر احمرارًا وخفوتًا إذ يقترب من أفق الحدث نتيجة الانزياح الأحمر الناتج عن الجاذبية، أما الصديق فسيسقط إلى ما وراء الأبدية، أيًا كان ما يعنيه ذلك».
ربما يؤدي الثقب الأسود إلى ثقب أبيض
إذا نقلتنا الثقوب السوداء إلى مكان ما في المجرة أو إلى مجرة أخرى، فيجب أن يوجد شيء مقابل لها على الجانب الآخر، فهل يكون ثقبًا أبيض؟ وفقًا لنظرية طرحها عالم الكونيات الروسي إيغور نوفيكوف سنة 1964، يتصل الثقب الأسود بثقب أبيض يوجد في الماضي، وعلى عكس الثقب الأسود يمكن الضوء والمادة أن يخرجا منه لكن لا يستطيعان الدخول إليه.
واصل العلماء دراسة هذه العلاقة المحتملة بين الثقوب السوداء والبيضاء، وكتب الفيزيائيان كارلو روفيلي وهال إم. هاغارد في دراستهما البحثية المنشورة سنة 2014 في مجلة Physical Review: «يوجد مقياس كلاسيكي يتوافق مع معادلات أينشتاين خارج حدود الزمكان، حيث تنهار المادة إلى داخل الثقب الأسود ثم تخرج من ثقب أبيض، أي أن كل المواد قد تخرج من الثقوب السوداء لتتحول الأخيرة إلى ثقوب بيضاء عند موتها».
إذا كان هذا صحيحًا، فسيلقي الضوء على اقتراح قدمه عالم الكونيات والفيزياء النظرية السابق بجامعة كامبريدج، ستيفن هوكينج، الذي طرح في السبعينيات احتمال أن تصدر الثقوب السوداء جزيئات وإشعاعات، نتيجة للتقلبات الكمية، فبعيدًا عن فكرة أن الثقب الأسود يدمر كل ما يلتهمه، قد يتوقف الثقب الأسود عن الانهيار فيحدث ارتداد كمي يجعل ما التهمه يهرب منه، فيفلت بعض الضوء أيضًا.
يقول فينكباينر: «قال هوكينغ إن الثقوب السوداء لا تدوم للأبد، فوفقًا لحساباته فإن الإشعاعات الناتجة عن الثقوب السوداء ستفقد طاقتها وتتقلص ثم تختفي، وعلى هذا فإن الإشعاع المنبعث من الثقب الأسود سيكون عشوائيًا ولا يحتوي على نفس المعلومات التي وقعت فيه بدايةً، لذا عندما ينفجر الثقب الأسود سيمحو الكثير من المعلومات».
يعني ذلك أن فكرة هوكينغ تتعارض مع ميكانيكا الكم، التي تقول إنه لا يمكن تدمير المعلومات، وحسب الفيزياء، يصعب العثور على المعلومات الضائعة، وفي حالة فقدانها تستحيل التفرقة بين الماضي والمستقبل، ما أدى بنا إلى ما يسمى مفارقة معلومات الثقب الأسود التي حيرت العلماء وقتًا طويلًا، حتى أن البعض اقترح أن هوكينغ كان مخطئًا، وقد اعترف بخطئه بنفسه في مؤتمر علمي في دبلن عام 2004.
هل يعود بنا هذا إلى مفهوم الثقوب السوداء التي تنبعث منها المعلومات المخزنة نحو ثقوب بيضاء؟ ربما كان ذلك محتملًا، فوفقًا لدراسة منشورة في مجلة Physical Review Letters سنة 2013، لخورخي بولين من جامعة ولاية لويزيانا ورودولفو جامبيني من جامعة الجمهورية في مونتيفيديو بأوروغواي، فقد طبّقا نظرية الجاذبية الكمية الحلقية على ثقب أسود، ووجدا أن الجاذبية تزداد باتجاه مركزه وتتناقص كلما دخله شيء ما إلى مكان آخر في الكون. وقد زادت هذه النتائج من مصداقية فكرة أن تكون الثقوب السوداء بوابات إلى مكان آخر، ولا وجود في هذه الدراسة للمتفردات التي لا يمكن تجاوزها وتسحق كل ما يصادفها، ما يعني أن المعلومات لن تختفي.
قد لا تنقلنا الثقوب السوداء إلى أي مكان
يؤمن الفيزيائيون أحمد المهيري ودونالد مارولف وجوزيف بولشينسكي وجيمس سولي أن هوكينغ قد يكون على حق، فقد وضعوا نظرية أصبحت تُعرف باسم جدار حماية الثقب الأسود، فوفقًا لحساباتهم يمكن -وفقًا لميكانيكا الكم- تحويل أفق الحدث إلى جدار ناري عملاق يحرق كل ما يلامسه، وبهذا لا يمكن أن تنقلنا الثقوب السوداء إلى أي مكان فلا شيء سيدخلها أصلًا.
لكن هذا يتعارض مع نظرية النسبية العامة لأينشتاين ، فلا يجب أن يشعر الشخص الذي يسقط داخل ثقب أسود بأي شيء، إذ سيسقط سقوطًا حرًا. ووفقًا لمبدأ التكافؤ، لن يشعر هذا الشخص أو الجسم بالجاذبية الشديدة، بل سيخضع للقوانين الفيزيائية الموجودة في أي مكان في الكون، وحتى لو لم تكن فكرتهم تتعارض مع مبدأ أينشتاين، فإنها تناقض نظرية المجال الكمي إذ تقترح إمكانية فقدان المعلومات.
ثقب أسود من الاحتمالات
سنة 2014 نشر هوكينغ ورقة بحثية تجنب فيها وجود جدار ناري حارق، قائلًا إن انهيار الجاذبية في الثقب الأسود سينتج بدلًا من ذلك أفقًا واضحًا. قد يوقف هذا الأفق حركة الأشعة التي تحاول الابتعاد عن مركز الثقب الأسود، وهذا سيستمر فترةً من الزمن. حسب فكرته الجديدة، هذا الأفق الظاهر يحتفظ مؤقتًا بالمادة والطاقة قبل أن يطلقها لاحقًا. ويتناسب هذا التفسير مع نظرية الكم التي تقول إنه لا يمكن تدمير المعلومات، وإذا ما ثبتت هذه الفكرة، فإن أي شيء يمكنه الإفلات من الثقب الأسود.
ذهب هوكينج بعيدًا إلى حد القول إن الثقوب السوداء قد لا تكون موجودة كليًّا، فكتب: «تجب صياغة تعريف جديد للثقوب السوداء، بأنها حالات مرتبطة ثابتة في مجال الجاذبية، لا وجود للتفرد، وحين يتحرك المجال الظاهر نحو الداخل بسبب الجاذبية، فإنه لن يصل أبدًا إلى المركز بل سيتحد داخل كتلة كثيفة».
مع ذلك، ليست الأشياء المنبعثة من الثقب هي نفس الأشياء التي التهمها، إذ سيستحيل معرفة ما حدث في الماضي بالنظر إلى ما سيحدث في المستقبل.
مع كل هذا الغموض حول الثقب الأسود، يوجد شيء واحد مؤكد، سيلتهم هذا اللغز المحير العديد من ساعات البحث العلمي.
اقترح حديثًا روفيلي وفرانشيسكا فيدوتو أن أحد مكونات المادة المظلمة قد يتشكل من بقايا الثقوب السوداء المتبخرة، وقد صدرت ورقة بحثية لهوكينج سنة 2018 حول الثقوب السوداء والشعر الناعم، يصف فيها كيف تبقى جسيمات منعدمة الطاقة تدور حول نقطة لا عودة أو ما يسمى أفق الحدث، ويدعم هذا فكرة أن المعلومات لا تُفقَد بل يُحتفَظ بها.
يناقض ذلك نظرية الافتقار إلى الشعر التي طرحها جون أرشيبالد ويلر، التي تقول إنه عند وجود ثقبين أسودين، لا يمكن أن يميز بينهما المراقب، لأنه لا تُحفظ أي شحنات زائفة خاصة بطبيعة الجسيمات.
تحدث العلماء عن هذه الفكرة كثيرًا، لكن قبل التفكير في الإجابة عن السؤال: إلى أين سنذهب بعد سقوطنا في ثقب أسود؟ ما زالت المشكلة الأهم هي الوصول للثقب الأسود نفسه والقفز عبره.
اقرأ أيضًا:
ثماني أفكار حول الثقوب السوداء ستفقدك صوابك!
الثقوب السوداء ومفارقة المعلومات في نظرية الأوتار
نظرية النسبية العامة في اختبار جديد
ترجمة: صابر مخلوف
تدقيق: سمية بن لكحل
مراجعة: أكرم محيي الدين