المادة المضادة هي أحد أسرار كوننا الجميل، وقد صرف عددٌ من عُلماء الفيزياء الفلكية والفيزياء النَظرية كثيراً من الوقت والجُهد في محاولات لفهم الجُسيمات المُضادة والمادة المُضادة، من حيثُ تركيبها، سلوكها، سبب وجودها، و البحث عنها و محاولة اصطيادها، ونبدأ رحلتنا الآن بتعريف هذه المادة .

بالنسبة للفيزياء النَظرية، تتكوّن المادة المُضادة من الجُسيمات المُضادة (Anti-Particles) والتي لها نَفس كُتلة الجُسيمات المُعتادة المُكوِّنة للمادة التَقليدية، ونفس قيمة الشحنة الكهربائية إنما بإشارة معاكسة، وتدور جزيئاتها بعكس اتجاه الدوران المَغزلي الكمومي (quantum spin) للمادة التقليدية، حيث تترابط هذه الجسيمات المُضادة لتكوين المادة المُضادة كما تفعل الجُسيمات العادية لتكوين المادة المعروفة، وبِنفَس الكَيفية تقريباً، فعلى سبيل المثال :

الجُسيم المُضاد للألكترون يسمى بوزيترون”Positron” ، ويُرمز له بالرمز e+ (أي له نفس كُتلة الألكترون ولكن يحمل شُحنة موجبة)، والجُسيم المضُاد للبروتون يُسمى البروتون المضاد “AntiProton”، ويُرمز له بالرمز p- .

وعند اتحاد هَذين الجُسّيمين المُضادين تَنتُج ذَرة هَيدروجين مُضادة، ويتلاشى كل من الجُسّيم و الُجسّيم المُضاد عند َتقابلهمُا أو اندماجهما، كما تتلاشى أيضًا المادة والمادة المضادة عند تلاقيهما (اندماجهما) مع بعضهما البعض.

والآن تأتي تلك الأسئلة الهامة، من هو الفيزيائي الذي توقع وجود الجسيمات المضادة؟ ولماذا كان وجود مثل تلك الجسيمات ضرورياً؟

أثناء محاولات الفيزيائي البريطاني بول ديراك (Paul Dirac) للتوفيق بين كل من النظرية النسبية الخاصة للفيزيائي ألبرت أينشتاين، وقوانين الكّم في سنة 1928، قادته محاولاته الجريئة عن طريق سلسلة من الحسابات الرياضية المعقدة جداً إلى تفسير سلوك الجسيمات البالغة الصغر، والسريعة جداً (في هذه الحالة كانت إلكترونات سرعتها مقاربة لسرعة الضوء)، وقد كان ذلك إنجاز رائعًا، لكنه لم يتوقف عند ذلك.

بل لاحظ هذا العالم الفذ أن حساباته لن تعمل بصورة صحيحة عند تطبيقها على الإلكترون ذو الشحنة السالبة فحسب، بل سوف تعمل بشكل صحيح أيضاً مع فرض أن شحنة هذا الإلكترون هي موجبة، وعلى هذا الأساس توقع ديراك أن هذا الجسيم ذو الشحنة الموجبة الذي فرضه هو الإلكترون المضاد ذو الشحنة المقابلة، بل وأكد أيضاً أن كل جسيم له جسيم مضاد، ومثلما تتكون الجسيمات العادية من إلكترونات وبروتونات ونيترونات المادة المعتادة، فإن الجسيمات المضادة تقوم بتكوين مواد أيضًا …إنما تلك المواد هي عبارة عن مواد مضادة .

وكانت معادلات ديراك من أوائل المعادلات التي افترضت وجود أشياء في الكون بناء على دراسات نظرية وإثباتات رياضية وليس على دلائل تجريبية، ولكنه كان ذو بصيرة نافذة، حيث تم تأكيد وجود الألكترون الموجب عن طريق التجارب التي أُجريت من قِبَل الفيزيائي الأمريكي كارل أندرسون سنة 1932، ونال كِلاهما جائزة نوبل في الفيزياء تقديراً لمجهودهما .

وقد فهم الفيزيائيون أشياء عديدة عن سلوك المادة المضادة بعد اكتشاف أندرسون، ومن أهم هذه الأشياء هي فكرة أن المادة والمادة المضادة تنجذبان لبعضهما البعض، وذلك يرجع إلى الاختلاف في الشحنة الكهربائية، وعند الإلتحام، يُدمِّر كلًّا منهما الآخر، ويكون ناتج تلاشي المادتين هو إشعاع من فوتونات عالية الطاقة (آشعة جاما)، او أزواج مختلفة من جزيئات او جزيئات مضادة.

ويخضع تلاشي كتلة المادة والمادة المضادة وإنتاج الطاقة من تلك العملية إلى معادلة أينشتين الشهيرة E=MC^2 ..