إذا كنت من الذين يظنون أن الباحثين المتلهفين لجمع البيانات في علم الإقتصاد مشغولون بشكل دائم بمعادلات معقدة وبعيدين كل البعد عن التفكير الإبداعي ، فيجب عليك التعرف على المدرسة الاقتصادية النمساوية.تماما مثل الرهبان في المعابد ، حاول اقتصاديو هذه المدرسة حل المشاكل المعقدة عبر ” التجارب الفكرية ” .اعتقدت المدرسة النمساوية أنه من الممكن اكتشاف الحقيقة عبر التفكير بصوت عال وبشكل مثير للإهتمام ،كان لهذه المجموعة رؤية فريدة لبعض أهم المشاكل الإقتصادية في عصرنا الحالي. واصل القراءة لتكتشف كيف تطورت المدرسة النمساوية للاقتصاد و ماهي مكانة مفكري هذه المدرسة في عالم الفكر الاقتصادي؟.

نظرة عامة حول المدرسة النمساوية للاقتصاد

مانعرفه اليوم كالمدرسة النمساوية للإقتصاد لم يصنع في يوم واحد فقد اجتازت هذه المدرسة سنينا من التطور حيث انتقلت فيها حكمة الجيل السابق إلى الجيل اللاحق ، ومع تطورها ، أدخلت معارف من مصادر خارجية إلا أنها حافظت على أساسياتها.

كارل مينجر ( Carl Menger ) ، هو اقتصادي نمساوي ، ألف ” مبادئ في الإقتصاد ” سنة 1871(Principles of Economics)

يعتبر من طرف الكثيرين مؤسس المدرسة النمساوية . لا يقترح عنوان كتاب مينجر أي شيء غير عادي إلا أن محتواه مدهش لدرجة جعله واحدا من أعمدة الثورة المارجينالية (marginalist revolution ).شرح مينجر في كتابه هذا كيف أن قيمة السلع و الخدمات الإقتصادية ذاتية بطبيعتها ، مما يعني أن ماتعتبره قيما قد لا يكون بنفس القيمة عند جارك. وكذلك استرسل مينجر أنه كلما واصلنا الزيادة في كميات السلع كلما قلت قيمتها الذاتية بالنسبة للفرد. أدت هذه الرؤية العميقة إلى مايسمى اليوم بالفائدة الهامشية المتناقصة (diminishing marginal utility  (.

لاحقا ،طبق لودويغ فان مايس (Ludwig Von Mise) ،مفكر عظيم آخر من المدرسة النمساوية ،نظريته المتعلقة بالفائدة الهامشية للنقود في كتابه ‘نظريه المال والائتمان'( Thoery of money and credit) سنة 1912.قد تستطيع نظريته مساعدتنا على إيجاد جواب لسؤال أساسي في الاقتصاد،متى نستطيع القول على أن لدينا أكثر مما نحتاج من المال ؟ ، هنا كذلك ،الجواب ذاتي، فدولار واحد بين يدي بليونير لن يشكل أي فرق بينما قيمة نفس الدولار لاتقدر بثمن بين يدي شخص فقير أو محتاج.

عدا كارل مينجر ، ولودويج فان مايس ، شملت المدرسة النمساوية أسماءا معروفة مثل أوجين فان بوهم باورك

(Eugen Von Bohm-Bawerk )و فريدريك حايك (Friedrich Hayek ) وآخرون كثيرون . اليوم تجاوز تأثيرها فيينا لينتشر في العالم بأسره .

سمحت مبادئ المدرسة النمساوية بظهور رؤى فريدة فيما يتعلق بالمشاكل الاقتصادية كقانون العرض و الطلب ، سبب التضخم ، نظرية خلق المال ، و العمليات على التبادل الخارجي . في كل من هذه المشاكل ، اختلفت آراء المدرسة النمساوية عن باقي المدارس الاقتصادية.

الأفكار الأساسية و الخلافات الجوهرية

المنهجية :

تستعمل المدرسة النمساوية منطق التفكير المسبق –عندما يستطيع شخص ما التفكير حول موضوع ما بدون الإعتماد على معلومات من العالم الخارجي – لإيجاد قوانين اقتصادية كونية التطبيق ، فيما ذهبت مدارس أخرى ، كالمدرسة النيوكلاسيكية (neo classical school ) و الكينيزيون الجدد (new Keynesians ) و آخرون ، إلى استعمال البيانات و النماذج الرياضية لإثبات صحة نظرياتهم بشكل موضوعي. في هذا الصدد، نستطيع القول على أن المدرسة النمساوية عارضت المدرسة التاريخية الألمانية والتي رفضت التطبيق الكوني لأي مبرهنة اقتصادية.

ماالذي يحدد السعر ؟

تعتقد المدرسة النمساوية على أن الأسعار محددة بسبب عوامل شخصية كتفضيلات الأفراد حول شراء أو عدم شراء سلعة معينة ، بينما ذهبت المدرسة الكلاسيكية إلى الإعتقاد أن الأسعار محددة بسبب توازن بين العرض والطلب. رفضت المدرسة النمساوية كلا من الآراء الكلاسيكية و النيوكلاسيكية عبر الإعلان على أن تكاليف الإنتاج محددة كذلك بواسطة عوامل ذاتية نابعة من قيمة الاستعمالات المتعددة للموارد النادرة ،وأن التوازن بين العرض و الطلب محدد كذلك بناءا على تفضيلات الأفراد.

مالذي يحدد نسبة الفائدة ؟

رفضت المدرسة النمساوية الآراء القائلة على أن نسبة الفائدة محددة انطلاقا من العرض و الطلب ورأس المال وذهبت إلى أن نسب الفائدة محددة بسبب اختيارات الأفراد الذاتية إنفاق المال الآن أو في المستقبل .بتعبير آخر ، نسب الفائدة محددة بالوقت المفضل بالنسبة للمدينين والمدانين.

لماذا يؤثر التضخم على أشخاص مختلفين بشكل مختلف ؟

تعتقد المدرسة النمساوية أن أي زيادة في المال غير مدعومة بزيادة في إنتاج السلع و الخدمات ستؤدي إلى زيادة في الأسعار، لكن ارتفاع أسعار السلع لن يتم في نفس الوقت .حيث أن أسعار بعض السلع سترتفع بشكل أسرع من أسعار سلع أخرى مؤدية إلى تفاوت كبير بين الأسعار النسبية للسلع.على سبيل المثال ، قد يكتشف السمكري على أن مدخول عمله لم يتغير ،إلا أنه يدفع أكثر للخباز رغم أنه اشترى نفس قطعة الخبز التي اعتاد شراءها بثمن أقل .ستجعل التغيرات في الأسعار النسبية الخباز غنيا على حساب السمكري ولكن لماذا يحدث الأمر بهذه الطريقة ؟ ماكان الأمر ليهم إذا ارتفعت أسعار كل السلع و الخدمات بشكل آني ولكن أسعار هذه السلع المطلوبة تتكيف قبل البقية. لنفترض أن الحكومة أنفقت المال لىر شراء الذرة ،إذًا لابد من أسعار الذرة أن ترتفع قبل السلع الأخرى خالقة بذلك تشويها في الأسعار .

ما الذي يسبب دورة أعمال ( business cycle ) ؟

تعتقد المدرسة النمساوية أن دورات الأعمال تحدث بسبب تشويهات في نسبة الفائدة و التي ترجع إلى محاولة الحكومة التحكم في المال. يحدث التوزيع السيء لرأس المال إذا تم ابقاء نسبة الفائدة كبيرة أو صغيرة بسبب تدخل حكومي . في النهاية ، يدخل الاقتصاد إلى ركود في محاولة إعادة الأمور إلى طبيعتها.

كيف نستطيع خلق أسواق جديدة ؟

ترى المدرسة النمساوية آلية السوق كعملية   وليس كنتيجة لتصميم ما. يخلق الأفراد الأسواق عبر إرادتهم لتحسين مستوى عيشهم ، وليس نتيجة لأي قرار واعي. مما يعني أنه إذا ما تركت مجموعة من الهواة في جزيرة معزولة ، عاجلا أم آجلا تفاعلاتهم ستؤدي إلى خلق آلية سوق.

في النهاية :

صيغت النظرية الاقتصادية للمدرسة النمساوية بمنطق لغوي مما وفر استراحة من المصطلحات المتخصصة المستعملة بواسطة معظم الاقتصاديين .رغم اختلافها الكبير مع مدارس أخرى ،إلا أن المدرسة النمساوية استطاعت ضمانة مكانها في عالم النظريات الاقتصادية المعقدة عبر بصيرتها في تحليل أعقد المشاكل الاقتصادية التي نعاني منها اليوم.


 

المصدر