ستظن أنّ القدرة على شم رائحة المياه العذبة ستكون عبارةً عن ميّزةٍ تطوّريةٍ، ولكنّنا نستطيع فقط شم رائحة الأشياء التي تشير للمياه العذبة، فما هو السبب؟

لقد أبلينا – نحن البشر – بلاءً حسنًا من المنظور التطوّري، فانظر إلى هذه الإمبراطورية الفاتنة التي بنيناها والتي تجعل كل كائنٍ حيٍّ آخرٍ على الأرض مواطنًا من الدرجة الثانية!

لقد تمكننا مع مجموعتنا الناجحة من البراعة والفكر والقدرة على التحمل والشخصية القادرة – السلوك القوي الموثوق – من تلبية جميع احتياجاتنا المادية وأكثر من ذلك، ولكن وعلى الرغم من خداع البشر من الناحية الفيزيولوجية بطرقٍ كثيرةٍ إلّا أنّ الحيوانات الأخرى طوّرت قدرات لا نملكها مثل الكشف عن مصادر المياه.

تبدو تلك القدرة بأنّها كانت ستقدّم لنا ميّزةً تطوّرية مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه وبالنسبة لمعظم الحيوانات فإنّ البشر يتمتع بمتطلبات استهلاك مياه عالية بشكلٍ استثنائيٍّ لذلك إذا كانت الكلاب والفيلة والنسور تبدو أنّها قادرة على شمّ رائحة المياه العذبة فلماذا لا يستطيع البشر فعل ذلك؟

قبل أن نخوض في عمق المشكلة لا بُدَّ من توضيح أمرين اثنين:

  1. لطالما وصف العلم حاسة الشم البشريّة بأنّها متراوحة ما بين السيئة والجيدة، وعلى الرغم من أنّ الأبحاث الجديدة تشير إلى أّننا قد نكون قادرين على التفريق بين حوالي تريليون من الروائح المختلفة إلّا أنّ الصحيح هو أنّ البشر المعاصرين لا يتفاعلون مع العالم من خلال الأنوف كما تفعل بعض الحيوانات الأخرى.
  2. الماء عديم الرائحة، إذ أنّ هذا العنصر الكيميائي هو متطلب غير قابلٍ للتفاوض لكل كائنٍ حيٍّ على وجه الكرة الأرضية تقريبًا، على الرغم من أنّه عبارة عن زوجٍ واحدٍ فقط من ذرات الهيدروجين الملتصق بروابطٍ تساهميةٍ مع ذرة أكسجين واحدة، أي لايوجد أي شيء ذو رائحة يحدث هناك.

لذا يبدو أن إدوارد آبي عالم البيئة الأمريكي كان على علمٍ بشيءٍ ما عندما كتب مذكّراته في (Desert Solitaire: A Season in the Wilderness) لعام 1968: «يمكن لرجلٍ قضى فترةً طويلةً بما يكفي في الصحراء أنّ يتعلم شم الماء مثل الحيوانات الأخرى، حيث يمكنه على الأقل شم رائحة الأشياء المرتبطة بالماء مثل الرائحة الفريدة والمُشجعة لشجرة القابوق في أمريكا الشمالية حيث منطقة الوادي، وهي منطقة في جنوب شرق ولاية يوتا، العديد من تشكيلاتها الصخرية محفورة في كولورادو والأنهار الخضراء، وهي محفوظة في حديقة كانيونلاندز الوطنية».

باعتبار أنّ جزيء H2O العادي ليس له رائحة فإنّ المياه النقية كيميائيًا لا توجد أبدًا في الطبيعة – عليك أن تقوم بتلك الأشياء في المختبر – لذا عندما تشمّ الحيوانات الأخرى مصدرًا للمياه فإنّها ليست المياه التي يشمّونها وإنّما قد تكون شجرة القابوق المحبة للماء أو قد تكون مواد أخرى موجودةً فيها أو حولها أو مرتبطة بأيّ شكلٍ آخرٍ بوجود الماء العذب، مثل المواد الكيميائية أو البكتيريا أو الطحالب أو بعض المواد النباتية أو المعادن.

تمتص قبيلة سان الأصلية من قبيلة G / w في بوتسوانا الرطوبة من الرمل عبر القش في صحراء كالاهاري ثم تودعها في بيضة لتشربها لاحقًا.

قالت الدكتورة كارة هوفر أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة ألاسكا فيربانكس وهي دكتورة مُتخصّصة في تطور حاسة الشمّ البشرية: «يشمّ البشر – مثل جميع الحيوانات البرية – المركبات المتطايرة أي المركبات المحمولة بالجو، وإنّ جيناتنا المسؤولة عن مستقبلات الرائحة من الدرجة الأولى والتي تكتشف الروائح المنقولة بالماء قد توّقفت؛ لذلك يمكننا أن نشم رائحة الماء عبر مركباتٍ أخرى موجودة فيها والتي تُطلق في الهواء من خلال مجموعةٍ متنوعةٍ من العمليات الفيزيائية».

ووفقاً لهوفر فإنّ البشر قد تطوّروا لأخذ قائمةٍ بصريةٍ سمعيةٍ مُفصّلة نوعًا ما للأشياء المحيطة بهم وعلى الرغم من أنّ تخمينات حاسة الشم لدينا ليست دقيقةً غالبًا مثل التي لدى بعض الحيوانات الأخرى ولكنّنا قادرون بشكلٍ رائعٍ على كشف حوض سباحةٍ قريبٍ وذلك عندما نشمّ رائحة الكلورين كما نستطيع أن نلاحظ رائحة الكبريت في نبعٍ حارٍ، أو رائحة السمك الميّت الغنيّ بالمياه الموجود في المحيط.

ومثلما قال آبي فنحن قادرون على تعليم أنفسنا الكشف عن مصادر المياه إذا فرضنا على أنفسنا تعلّم الروائح التي ترافقها.

يوجد سبب آخر محتمل لعدم تمكّن البشر من شمّ مصادر المياه كالحيوانات الأخرى وهو أنّنا نحتاج إلى الكثير منها، إذ تحتاج أجسادنا إلى كمياتٍ كبيرةٍ من المياه وذلك بسبب الطريقة التي نتعرق بها، ووفقًا لهوفر يستلزم المشي بعض التحولات الفسيولوجية التي رفعت بشكلٍ كبيرٍ من متطلبات المياه لدينا.

قال هوفر: «يوجد تحوّل رئيسي واحد وهو نسبة الإيكريسين (النتح) إلى الغدد المفرزة إذ يملك البشر المعاصرون غددًا ناتحةً أكثر من أيّ حيوانٍ ثدييٍّ آخر، هذه الغدد تطلق الماء والصوديوم من أجسادنا عندما نتعرق، وإنّ التخلص من المياه من خلال الغدد الناتحة يكون أقل تكلفةً بكثيرٍ من طرح المغذيات من خلال الغدد المفرزة وهذا هو السبب في أنّ البشر يضربون الحصان في سباقات المسافات الطويلة، طالما أنّ هناك مياهًا متوفرة».

يشير هوفر إلى أنّه منذ 4 إلى 7 ملايين سنة عندما أصبح أسلافنا ثنائيي الأقدام أصبحوا مرتبطين بمصادر المياه، ما يعني أنّهم لم يستطيعوا تحمل شمّ محيطهم – فقد كانوا بحاجةٍ إلى معرفة أين يمكنهم العثور على مصادرٍ موثوقةٍ للمياه في أراضيهم، أو على طول الطرق المنتظمة.

قال هوفر: «ليس لدينا طريقة لمعرفة ذلك ولكن على الأرجح تضمنت أماكن مساكننا الأصلية مصادر للمياه خُطِطت بشكلٍ معرفيٍ ومع توسع المسافات ستُحَدد مصادر جديدة».

ربما يمكننا العثور على ثقب ريٍّ قريبٍ بمجرد اتباع فيلٍ لفترةٍ من الوقت، فمن يحتاج لأنفٍ جيّدٍ عندما يكون لديه عقل؟


  • ترجمة: عدي بكسراوي
  • تدقيق: رند عصام
  • تحرير: تسنيم المنجّد
  • المصدر