تُنتِج التجارب في (مُصادم الهدرونات الكبير-LHC) أو (المُسارع النوويّ الكبير) حوالي مليون غيغابايت من البيانات كلّ ثانية.

حتى بعد التخفيض والضغط ، فإنّ حجم البيانات المجموعة خلال ساعة واحدة فقط في LHC يُماثل حجم البيانات التي يجمعها Facebook خلال عام بأكمله.

ولحسن الحظّ، لا يتوجّب على علماء الفيزياء التعامل مع كلّ هذه البيانات بأنفسهم؛ بل يستخدمون شكلًا من أشكال الذكاء الاصطناعي الذي يتعلّم كيفيّة إجراء التحليلات المعقّدة بنفسه، وهو ما يُسمّى (تعلّم الآلة-machine learning).

«مقارنةً مع الخوارزميّات الحاسوبية التقليدية التي نصمّمها لإجراء تحليل محدّد، فإنّنا نصمّم خوارزميات تعلّم الآلة لتكتشف بنفسها كيفيّة إجراء تحليلات متنوّعة، ما قد يوفر علينا ساعاتٍ لا حصر لها من التصميم والتحليل»؛ هذا ما يقوله الفيزيائي ألكسندر رادوفيتش (Alexander Radovic) من كلية ويليام وماري(College of William & Mary)، والذي يعمل على تجربة NOvA.

إذْ لخّص رادوفيتش ومجموعة من الباحثين التطبيقاتِ الحاليةَ المستقبلية لتعلّم الآلة في فيزياء الجسيمات في ورقة نُشِرت بتاريخ 1/8/2018 في مجلة Nature.

غربلة البيانات الكبيرة:

للتعامل مع أحجام البيانات الضخمة المُنتَجة في التجارب الحديثة مثل التي أُجريت في الLHC، يطبّق الباحثون ما يسمّونه (الوكلاء-triggers)، وهي أجهزة برامج مصمّمة لتقرّر أثناء إجراء التجربة أيّ البيانات يجب الاحتفاظ بها للتحليل وأيّ البيانات يجب التخلص منها.

يقول العالم المشارك في التجربة مايك وليامز (Mike Williams) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT): «في تجربة LHCb، وهي تجربة قد تُمكِّننا من إلقاء الضوء على سبب كون المادة العادية متواجدة بوفرة أكثر من المادة المضادة-antimatter في الكون، تحقّق خوارزميات تعلّم الآلة ما لا يقلّ عن 70٪ من هذه القرارات».

ويضيف: «إنّ تعلّم الآلة يلعب دورًا في جميع جوانب التجربة المتعلّقة بالبيانات تقريبًا، بدءًا من الوكلاء-triggers وحتى تحليل البيانات المتبقية».

لقد أثبت تعلّم الآلة جدارةً كبيرةً في مجال تحليل البيانات، إذْ يحتوي الكاشفان العملاقان (ATLAS و CMS) في مُصادم الهدرونات الكبير (LHC)، واللذان ساعدا على اكتشاف بوزونهيغز، ملايين العناصر الحسّاسة التي يجب دمج إشاراتها لنحصل على نتائج ذات معنى.

يقول مايكل كاغان الذي يعمل في مختبر (SLAC National Accelerator) التابع لوكالة الطاقة الأمريكية: «هذه الإشارات تُشكّل فضاء بيانات معقّد».

ويضيف: «يجب علينا فهم العلاقات فيما بينها لنتوصّل لنتيجة – مثل أنّ مسار جزيء ما في المُصادم ناتجٌ عن إلكترون أو فوتون أو شيءٍ آخرَ».

تستفيد تجارب النيوترينو من التعلّم الآليّ.

إذْ تدرس تجربةNOVA التي يديرها مختبر(Fermi National Accelerator)، كيف تتغيّر النيوترونات من نوع إلى آخر أثناء سفرها عبر الأرض.

إنّ هذه التقلبات في النيوترينو من نوع لآخر يمكن أن تكشف عن وجود نوع جديد من النيوترينو الذي تتوقّع بعض النظريات أنّه جسيمٌ من المادة المظلمة.

تكتشف أجهزة كشف NOVA الجسيمات المشحونة التي تنتج عندما تضرب النيوترينوات مادة الكاشف، ثمّ تحدّدها خوارزميات التعلّم الآلي.

من التعلم الآلي إلى (التعلّم العميق-Deep Learning)..

تعد التطوّرات الأخيرة في مجال تعلّم الآلة -وغالبًا ما تدعى هذه التطوّرات بالتعلّم العميق- بأخذ التطبيقات في مجال فيزياء الجسيمات إلى أبعد من ذلك.

يُشير التعلم العميق عادةً إلى استخدام الشبكات العصبونية؛ وهي خوارزميّات حاسوبية لها بنية مستوحاة من الشبكة الكثيفة للخلايا العصبية في الدماغ البشريّ.

وتتعلّم هذه الشبكات العصبية بمفردها كيفية أداء مهامّ تحليل معيّنة خلال فترة تدريب تُعطى فيها عيّنة من البيانات لتؤدي الوظائف المطلوبة منها عليها، ثمّ يتم إعلامها بمدى جودة أدائها.

حتى وقت قريب، كان نجاح الشبكات العصبونيّة محدودًا نظرًا إلى أنّ تدريبها كان صعبًا للغاية، على حدّ قول كازوهيرو تيراو Kazuhiro Terao، أحد الباحثين في SLAC الّذين يعملون في تجربة (MicroBooNE) التي تدرس تذبذبات النيوترينوات.

يقول تيراو: «هذه الصعوبات حدّدتنا بالشبكات العصبونيّة التي تحوي بضع طبقات عميقة فقط».

ويضيف: «بفضل التقدم في الخوارزميّات وأجهزة الحاسوب، أصبحنا الآن نعرف كيفيّة بناء وتدريب شبكات أكثرَ قدرةً تحوي مئات أو آلاف الطّبقات العميقة».

دفعت التطبيقات التجاريّة لعمالقة التكنولوجيا وانفجار البيانات الذي أحدثته خلال العقدين الماضيين تطوّر التعلم العميق بشكل كبير، فيقول رادوفيتش: «على سبيل المثال، تستخدمNOVA شبكة عصبونيّة مستوحاة من بنية GoogleNet حسّنت التجربة لدرجة لم يكن بالإمكان تحقيقها إلّا من خلال جمع بيانات أكثر بنسبة 30 بالمئة».

أرضيّة خصبة للابتكار..

تُصبح خوارزميات تعلّم الآلة أكثر تعقيدًا و تطوّرًا يومًا بعد يوم، ما فتح باب فرص غير مسبوقة لحلّ مشاكل فيزياء الجسيمات.

إذْ يقول كاغان: «إنّ العديد من المهام الجديدة الّتي يمكن أنْ تستخدم هذه الخوارزميّات لأجلها ترتبط بمجال الرؤية الحاسوبيّة-computer vision، ويضيف: «إنّها تشبه تقنية التعرف على الوجه، باستثناء أنّه في فيزياء الجسيمات، تكون صفات الصورة أكثر تجريديّةً وتعقيدًا من الأذنين والأنف».

تنتج بعض التّجارب مثل NOVA وMicroBooNE بياناتٍ يمكن ترجمتها بسهولة إلى صور فعليّة، ويمكن استخدام الذكاء الصنعي بسهولة لتحديد الميّزات الموجودة فيها.

في تجاربLHC ، من ناحية أخرى، تحتاج الصور أوّلًا إلى إعادة بنائها من مجموعة غير واضحة من البيانات الناتجة عن الملايين من العناصر الحسّاسة.

ويقول رادوفيتش: «حتّى لو لم تكن البيانات على هيئة صور، لا يزال بإمكاننا استخدام طرق الرّؤية الحاسوبية إذا تمكنّا من معالجة البيانات بالشكل الصحيح».

أحد المجالات التي قد تكون فيه هذه الطريقة مفيدة هو تحليل نوافير-jets الجسميات التي تنتَج بأعداد كبيرة في المُصادم.

النوافير هي رشّاشات (sprays) ضيّقة من الجسيمات تكون مساراتها الفرديّة صعبة الفصل للغاية.

ويمكن لتقنية الرؤية الحاسوبيّة أن تساعد في تحديد الصفات الموجودة في هذه النوافير.

أحد التطبيقات الناشئة الأخرى للتعلم العميق هي محاكاة بيانات فيزياء الجسيمات، على سبيل المثال، محاكاة ما يحدث في تصادم الجسيمات في مُصادم الهادرون الكبير ثمّ مقارنة الناتج بالبيانات الفعليّة.

عادةً ما تكون عمليات المحاكاة كهذه بطيئة وتتطلّب طاقة هائلة للحوسبة.

ومن ناحية أخرى، يمكن أن يُجري الذكاء الاصطناعيّ عمليات محاكاة كهذه بشكل أسرع بكثير.

يقول كاغان: «منذ سنوات قليلة، لم يتصوّر أحد إمكانية تدريب الشبكات العصبونيّة العميقة على تنقية البيانات بناءً على أصوات ضجيج مختلفة».

ويضيف: «على الرغم من أنّ هذا العمل لا يزال في مراحله الأولى، فإنه يبدو واعدًا جدًّا وقد يساعد على حلّ تحدّيات البيانات في المستقبل..».

الاستفادة من الشكّ الصحي…

على الرغم من التقدم الواضح الذي تعد به تقنيات تعلّم الآلة، فإنّ معظم المتحمّسين بشأن تعلّم الآلة يواجهون شكوكًا من زملائهم وذلك لأنّ خوارزميات تعلّم الآلة تعمل بشكل يشبه «صندوقًا أسود»، أي أنّها لا تعطينا سوى معلوماتٍ قليلةً جدًّا عن كيفيّة توصّلها لنتيجة معينة.

يقول وليامز: «الشكّ صحيّ للغاية».

ويضيف: «إذا أردت استخدام تعلم الآلة في وكلاء (triggers) تتخلّص من البيانات، كما نفعل في (LHCb)، فيجب عليك إذًا أن تكون حذرًا للغاية وأنْ ترفع مستوى الأداء المطلوب من الخوارزميّة عاليًا جدًّا».

لذلك، فإنّ استخدام تعلّم الآلة في فيزياء الجسيمات يتطلّب جهودًا دائمةً للتوصّل لفهم أفضل حول الآليّة الداخلية لعمل هذه الخوارزميّات، ويتطلّب أيضًا إجراء اختبارات تحقّق باستخدام معطيات حقيقيّة كلّما سنحت الفرصة.

يقول تيراو: «يجب أنْ تحاول دائمًا فهم ما تفعله الخوارزميّة الحاسوبيّة وأنْ تُقيّم مخرجاتها بشكل دائم».

ويضيف: «إنّ هذا صحيح من أجل أيّ خوارزميّة وليس فقط تعلّم الآلة، لذلك فإنّ الشكّ لا يجب أنْ يعيق التقدم».

لقد جعل التطوّر السريع بعض الباحثين يحلمون بما قد يصبح ممكنًا في المستقبل القريب.

يقول تيراو: «اليوم نستعمل تعلّم الآلة غالبًا للعثور على صفات في بياناتنا قد تساعدنا على الإجابة على بعض من تساؤلاتنا».

ويضيف: «ولكن بعد عشر سنوات من اليوم، قد تصبح خوارزميّات تعلّم الآلة قادرة على طرح أسئلتها الخاصّة والتعرف على فيزياء جديدة عند إيجادها».


  • ترجمة: مهران يوسف.
  • تدقيق: سهى يازجي.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر